يحكى أن ثمة مرضًا جديدًا قد انتشر فى مستعمرة تقع شمالي بلد تليد، يأتي إليها الخلائق من كل حدب وصوب في كل صيف، حتى إذا ما لمست أرجلهم أرضها إذا بهم وقد التوت ألسنتهم، فلا تميز الكلم في حديثهم، تختلط عندهم لغات عدة في جملة واحدة، فتسمع سيمفونية نشزة من اللغات الغامضة، وما يلبثون ساعة من نهار حتى تأخذ كل قطعة من ملابسهم اسمًا متعارفًا عليه لماركة عالمية، وتأخذ ملابسهم في القصر، ويتحركون في تمايل وتؤدة لا كهيئة سيرهم الأصلية، أيام وتجمد أعينهم، ويغيرون أسماء تناديهم إلى أسماء غريبة.

تخالهم أقل بهجة، لكنهم أكثر صخبًا، وتنظرهم أكثر رفاهة، لكنهم أقل ثراءً وأفقر تجربة، يثقل هواء البحر عندهم على خفته، فلا تدري أهو الهواء قد ثقل، أم أن أرواح أهل الشاطئ هي التي ثقلت.

يملكون البحر ولا يملكونه، فلا تجد عندهم صخرة وقد حفر عليها قلب منصف عليه حرفا اسمين، ولا يغنون للبحر ولا يقصدونه لذاته، ولا يتهامسون أن على ذاك الشاطئ أو ذاك بدأت قصص الحب.


تاريخ من المستعمرات الساحلية

يمتد الساحل الشمالي الغربي من مدينة الأسكندرية إلى مدينة السلوم على الحدود الليبية المصرية، بطول هذه المساحة تقع مدن ساحلية ذات تاريخ تليد، ويستوطنها سكان متنوعو الأصول على مدى عصور مختلفة.

الأسكندرية- عروس البحر المتوسط – مدينة عريقة، تنوعت على أرضها الحضارات بحيث أكسبتها زخمًا معرفيًا، وسكنتها أجناس مختلفة فانصهرت فيها الأعراق لتكتسب تنوعًا حضاريًا ملهمًا، ولتكون إضافة إلى أنها مصيف ساحلي، مزار مميز، ترتبط معه ذكرياتنا، لا مع حجارة قلعة قايتباي بالضرورة، ولا نخيل المنتزه ربما، بقدر ما نرتبط بمطاعمها القديمة البسيطة التي تفسر شغفًا بالحكي والترحال والعيش المشترك، وبشرفات بيوتها القديمة المختلط معمارها أيقونات من كل عصر، لينم عن أرواح سكنت وتخالطت وأحبت.

طفولتنا فى لياليها الصيفية عند محال المثلجات المعروفة، وشبابنا في رحلة شتائية عاجلة قد نتكبد عناءها فقط لنحتسي كوبًا من القهوة على مقهى قديم ذي شرفة مطلة على بحرها، نرتشف قهوتها ونحن شغوفون بمراقبة المارة المتدثرين بألحفتهم عن أمطار الشتاء.

والأهم قصص الحب والأغنيات، وشاطئ هو شاطئ الهوا.

العلمين: ذاكرة المعركة، مقبرة شهداء وتمثال لجندي مجهول، وبالقرب مدينة بدوية «الحمام» بتراث البداوة الأول، يتفتح فجأة على حداثة تجتاح المنطقة لتمحوه، أو تترك المدينة هامشًا على متن المنتجعات البلاستيكية، وتصيب أهلها الموغلين في الأصالة بفصام هوياتي، عندما لا يجدون ملجأ إلا العمل صباحًا في منتجعات العلمين الفارهة، والعودة ليلًا لبداوتهم.

بدأ عمران منطقة الساحل الشمالي الغربي المصري يأخذ منحى جديدًا بأوائل الخمسينيات، عندما أسست منطقة العجمي على أطراف الأسكندرية لتكون منتجعًا للأغنياء، يتسم بالرقي والانفصالية عن معمار الأسكندرية الممتد كمعمار مدني طبيعي منخرط في أصالته وممزوج بامتداده الحضاري.

في ثمانينيات القرن الماضي كانت منطقة العجمي قبلة الأغنياء المصيفية، ومعبد طقوسهم المتغربة المنفصلة تمامًا عن طبيعة الحياة المصرية، والتي لا يجدون ملجأ لممارستها في المدن طبيعية الامتداد، حفلات عمرو دياب، الفيلات والأعشاش على الشاطئ، الملابس الغربية المستهجنة شرقيًا، سيارات الجيب مكشوفة الغطاء، والعلاقات المنفتحة.

لكن الاتصال المكاني للعجمي بمدينة الأسكندرية سهل وصول جمهور – الأغيار- إليها فتحولت شيئًا فشيئًا إلى مدينة لسكنى الطبقة المتوسطة.

هنا ظهرت الحاجة لعمران المستعمرات المعلب، خلق منتجعات سياحية للأغنياء، في عمق صحراء الساحل، منتجعات تضمن الرفاهية وتحمي ممارساتهم المتغربة من تطفل الأغيار.

كان أول تلك المستعمرات منطقة «مراقيا» عام 1980، تلتها منتجعات «مارينا» بتسلسلاتها.

رغم كون منطقة «مارينا» وما تلاها من مستعمرات بمنطقة الساحل الشمالي تتاخم مناطق أثرية كمعبد الإله «حورس» و«مقبرة العلمين» ومدن حضرية كالحمام؛ إلا أنها أسست كمعلبات منفصلة عن ذلك الامتداد الحضاري، فهي ليست مدينة طبيعية يسكنها البشر صيفًا وشتاءً وتتخلل حياتهم أنشطة طبيعية تطورت عن كونهم متاخمين للبحر، فيلجأ إليهم الأصدقاء من المدن الداخلية لقضاء عطلة الصيف؛ بل هي مستعمرات منفصلة تعج بالمترفهين المستهلكين صيفًا وتسكنها الأشباح شتاءً، فلا حاجة إذن لخلق تواصل بجانب المنطقة الحضرية، ولنترك شهداء العلمين يرقدون في سلام.

تخطط الدولة لتأسيس كورنيش الساحل العام، كخطوة لضمان مساحة مفتوحة من البحر ليست ضمن تخصيص تجاري لأحد رجال الأعمال، السؤال من سينتفع بهذه المساحة، ومستعمرو المنطقة يتمتعون ببحارهم المخصصة، أم سيسمح لبدو الحمام وسيدي عبد الرحمن بتشويه الطابع الاستهلاكي لمنطقة الساحل؟


كيف قرأ زيجمونت باومان الساحل الشمالي؟

وقت اللقاء لا مجال للتجربة والخطأ، ولا استفادة من الأخطاء، ولا أمل في لقاء آخر.
زيجمونت باومان: الحداثة السائلة، ص154

لا يصف باومان بهذه الكلمات علاقة حب انفصمت عراها، إنه يصف علاقات أهل المدن اللامكانية المنفصلة عن أبعادها الحضارية والجغرافية، يصف سكانها بالغرباء، ويوضح كيف اكتسب الغرباء آلية للعيش المشترك كغرباء عن المكان والأشخاص والزمن.

هكذا تتسم علاقة زوار الساحل بالمكان، إذا ما قورنت بعلاقة زوار مدينة متصلة بزمانها وحاضرها مع الأمكنة فيها، لا مجال للتجربة أو الخطأ، إذا نزل بمطعم بالساحل الشمالى فإنه ينتظر أن تقدم له خدمة رائعة بلا أخطاء، فخطأ واحد يكفي ليسقط المطعم من قائمته المفضلة، لا لأنه ربما لن يعود إليه ثانية، لأن نسبة احتمالات العودة إليه من البداية ضعيفة؛ لكن لأن لا شيء يدفعه للصبر والتجربة.

بخلاف علاقتنا بمطعم صغير في زاوية حي عتيق بالأسكندرية، يأتيه الناس من كل حدب وصوب، ولا يقدم شيئًا فاخرًا، ولا خدمة بها أدنى رفاهية، لكن علاقته بزواره خارج إطار التفسير التسويقي الذي يبذل قصارى جهده لضمان قدوم العميل مرتين.

لا يحتاج مطعمنا السكندري إلى تسويق أصلًا، لأنه لا يكتسب جمهوره بصفته أفضل مطعم على الإطلاق؛ بل بكونه مطعمهم القديم الأثير، يكتسب شرعية وجوده بحسب العلاقة التي بناها مع عملائه، والتى تبذل شركات التسويق لأجلها الكثير، لكن الاتصال المكاني والزماني لمطعمنا السكندري حققا ذلك بفطرية.

الحرب على الأغيار

بالعودة إلى صديقنا البدوي، شاب من أهل مدينة الحمام المتاخمة لمستعمرات الساحل الشمالي، ستضطره الظروف للعمل بمستعمرة من تلك المستعمرات، وسيتصادف أن أحضر مشاجرة بينه وبين أحد رواد تلك المستعمرات، الرجل مترف المظهر، الذي لن يترك لفظة سباب إلا وكالها لصديقنا البدوي، ثم هدده بالطرد من عمله، كل ذلك لأن حديثًا حادًا وقع بين الشاب البدوي (عامل الأمن) ومستعمر يريد أن يخترق قواعد المكان.

تلك القواعد بدورها هي «العقد الاجتماعي الجديد» الذي بناء عليه يرتفع شأن مستعمرة على أخرى، ويزداد رواج وحداتها، هو عقد اجتماعي ضيق يشمل سكان المستعمرة باعتبارهم مجتمعًا يوتوبيًا، ويرفع قيمة التأمين على أي قيمة أخرى، فكلما ارتفعت آليات التأمين، كانت صلابة العقد.

زيجمونت باومان: الحداثة السائلة، ص160

والتأمين هنا له معنى جديد، إنه التأمين من «الأغيار» المختلفون بحال عن أصحاب المكان، فلا يتم دمجهم ولا إدخالهم فى أى نوع من أنواع التفاعل الإجتماعي، ربما يفسر ذلك اللهجة التي يتم التعامل بها مع أهل المنطقة الأصليين أو أيٍ من العمال أو أي شخص يبدو مختلف عن المستعمرون .

هناك آلية أخرى بخلاف الإقصاء يتم اتباعها مع «الأغيار» يفسرها زيجمونت باومان، ويمكنها أن تفسر لنا شيئًا من تلك التغيرات التي تطرأ على البعض عند دخول مستعمرات الساحل؛ ألا وهي «الاحتواء» أو «الهضم»، بحيث تحول المخالف إلى نسخة طبق الأصل منك، وبحيث يتماهى مع ما أردته لعالمك الخاص المخلوق على يديك، يصفها باومان بمحو غيرية الأغيار، لكننا لسنا أمام الحالة العنيفة منها، المتمثلة في خطط تغير ومحو الثقافات، بل أمام شكل بسيط وخطير يلعب على نفسية المختلف، عبر وضعه بين ثنائية الرفض والتعالي، فيبدأ بالدفاع عن نفسه ومحاولة التماهي مع الصورة المثلى التي يقبلها الأغلبية، فيبدأ بتغيرات بسيطة ليتماهى مع الجمع، يشبه ذلك المرض الذي يتفشى شيئًا فشيئًا، بداية من ليّ أعناق الأحرف لتبدو أجنبية، نهاية بتمثل صورة الآخر في لباسه وطريقة عيشه، ولو لفترة صغيرة هي فترة المقام بالمستعمرة فقيرة التنوع والدمج الثقافي.

البحر المستهلك والحب الضائع

تشكلت صور التضامن الجماعي بما يكفل للإنسان أن يجتنب التعامل مع غيره من البشر . وهكذا منحت أسطورة التضامن الاجتماعي البشر الحاليين بإرادتهم أو كذبهم إن شئت، الفرصة لأن يكونوا جبناء هلعين يتوارون من بعضهم البعض.

كانت علاقتي بالبحر مكتسية بالمعنى، تأخذني جدتي صغيرة إليه، أبدأ في رص ألعابي على الرمل، في غضون ساعة أكون قد أنهيت ما في جعبتي من ألعاب يمكنني ممارستها وحدي، تشير عليَّ جدتي أن أحاول مصادقة تلكما الفتاتين اللتين تلعبان إلى جوارنا، وفي غضون ساعتين أكون معهما كصديقتي عمر، وتكون جدتي قد صادقت أمهما، واتفقتا على موعد اللقاء في الحديقة ليلًا، عندما نعود إلى القاهرة ستتبادلان الزيارات، والمكالمات في عيد أو مناسبة ما، وستمر الأعوام لتكون صداقتهما وطيدة، لا يحدها البحر.

الفعل على البحر كان جماعيًا، ألعاب وعائلات، كان البحر للجميع، بغير تذاكر عبور، يمكن زيارته في أي وقت، وبالرغم من أن الباعة الجائلين كانوا كثرًا؛ فإن البحر لم يكن فضاءً استهلاكيًّا، الشراء هنا كان امتدادًا للمعنى المنثور على الشاطئ، حيث مشاركة البحر كمجال للمتعة، أو التكسب، وهو أفق مفتوح أنت فيه حر الإرادة كمستهلك أو مستمتع، مشارك بمشاعرك وعلاقاتك أو بكدك وسعيك لطلب الرزق.

مثل هذه الفضاءات – الاستهلاكية – تشجع على الفعل لا على التفاعل، فأما مشاركة الفاعل للفضاءات المادية مع غيره من الفاعلين الذين ينخرطون في أعمال مشابهة فتزيد من أهمية الحدث، وتعززه بالكثرة العددية، وتنتج معناه، وتقره من دون جدل، ومن دون الحاجة إلى حجة أو برهان.
زجمونت باومان: الحياة السائلة، ص156

هناك البحر مجال مغلق، يخضع لصور محددة من الممارسة الاستهلاكية، لا يكسر موج البحر صلابة الأوجه والجدران المقامة حول العلاقات، بل يدفعها للامتداد، نتشارك شاطئ واحد، ولا تشارك فعل أو حديث.

الاستهلاك فعل إجباري، بداية من تخصيص الشطآن كامتداد لكافيهات المستعمرات، وتحديد أوقات البقاء على الشاطئ بدافع الحماية، وتحديد المظهر وأنواع الملابس المسموح بها عليه.

لا مجال هنا للبحر أن يحمل ما يعنيه من معنى، لا مواني، ولا هو وسيلة للاسترزاق، ولا للتعارف، ولا للحب، لم تحظ شطآن الساحل بأغنيات عن الحب على جانبيه، ولا بأن يبني حبيبان بيتهما من رمل عليه، لأن الحب تفاعل لا مجرد فعل، ومثل هذه الفضاءات بحسب (باومان) هي مساحات للفعل لا التفاعل.

لهذا ربما لا يمكننا أن نحب على شاطئ الساحل.