محتوى مترجم
المصدر
Foundation of Economic Education
التاريخ
2016/11/07
الكاتب
توم ج. بالمر

الفيلسوف الثالث، من بين الفلاسفة الثلاثة الخطرين، خطير جدًا؛ خطير على خطط هؤلاء الذين ألهمهم الفيلسوفان الأولّان. كان يعرف كتابات هايدجر وشميت ويونغر، وناضل ضد تأثيرهم بثبات، مع إقراره، بالتأكيد في حالة شميت، بقوتهم الفكرية (أود أن أضيف أنني أعتبر كتاب شميت مفهوم السياسي واحدًا من أشدّ الهجمات التي كُتبت ضد الأفكار الليبرتارية ذكاءً).

ذلك المفكر، الذي أيّد قيمة وكرامة وحرية الإنسان الفرد، الذي دافع عن عقلانية اقتصاد السوق، الذي أيّد السلام حين اندفع الآخرون إلى الحرب، وأيّد المصالحة بينما تعطش الآخرون للانتقام، كان فريدريك أوغست هايك.

أعتبره ملهمًا في كل النواحي تقريبًا. قبل سنوات عديدة، عندما كنت أصغر سنًا بكثير، سمعته يتحدث في عدد من المناسبات. في إحداها، كان قد أوجز الفكر الذي سيتجسد في عمله النهائي، وغير المكتمل تمامًا، «الغرور القاتل: أخطاء الاشتراكية». طرح أحد المستمعين سؤالاً وأجاب هايك بصوته ذي اللهجة النمساوية/البريطانية قائلاً إنه افترض من صيغة السؤال أن السائل يعتقد كذا. أكد السائل ذلك وكانت إجابة هايك لا تُنسى: «أنا أيضًا كنتُ أعتنق هذا الرأي لما يقرب من خمسين عامًا، لكني صرت أفكر به كثيرًا في الآونة الأخيرة وأعتقد أنه كان خطأ جوهريًا» (وعلى ذكر هذا، تجري حاليًا إعادة النظر في أفكار هايك في علم النفس وعلم الأعصاب؛ لأنه كان متقدمًا علينا بدراسته لقضايا صعبة في فهمنا للنفس، لكنني أنحرف عن الموضوع).


فلسفة الفردانية عند هايك

فكر هايك، الشاسع والمترامي والممتع استكشافه، يمثل خطرًا على كل أصحاب الأفكار العظيمة الرامية لإعادة تكوين المجتمع؛ لتجنيد الجماهير في خططهم العظيمة من أجل الوجود الأصيل. لم تكن فردانية هايك مثل فردانية آين راند التي اتهمها البعض (ربما بشكل غير عادل) بالميل إلى فكرة سلطة فوق بشرية وبالتالي حكم القادرين لبقيتنا، بل كانت مختلفة جوهريًا: متجذرة في محدودية المنطق البشري وأهمية مؤسسات التعاون الاجتماعي المتطورة.

ليست فردانية هايك مرتبطة بفكرة الإنسان ككائن «منطقي وذكي للغاية»، لكن عوضًا عن ذلك، ترى الإنسان كـ «كائن لا منطقي ومعرض لارتكاب الأخطاء، تُصحَّح أخطاؤه الفردية فقط في مسار عملية اجتماعية …»[1]. كل فرد محدود بالمعرفة التي يستند عليها. لا يوجد عقل تتاح له كل المعلومات المرتبطة بموضوع معين. من بين الكائنات البشرية المحدودة والمعرضة للخطأ، برزت مؤسسات قد يتشارك الأفراد من خلالها في المعلومات بغير إدراك حتى لوجود هؤلاء الذين يتفاعلون معهم. على سبيل المثال، تركز بعض أهم أعمال هايك في علم الاقتصاد على الدور الذي تلعبه الأسعار في توفير أنماط معلّبة من المعلومات تساعد ملايين أو بلايين الناس المتشاركين في اهتمامات مختلفة وغير المدركين عمومًا لوجود بعضهم من أجل تنسيق أفعالهم.[2]

ركّز هايك على القواعد المتطورة التي ينسق بها البشر أفعالهم دون الاعتماد على سلطة تخطيط مركزية كلية المعرفة. ربَطَ هايك «الفردانية الحقة» لا بالعزيمة أو المقدرة أو الذكاء أو القوى فوق البشرية -صفات قد توحي بأن تخطيطًا اجتماعيًا متماسكًا تصنعه نخبة ذكية وقادرة ومستنيرة ممكن الحدوث- لكن بالتواضع والإقرار بحدود العقول الفردية.[3]

اعتبر هايك أن الفكرة الرئيسية للمفكرين الليبراليين الكلاسيكيين المتنورين هي أهمية الحد من الضرر الذي يمكن أن يوقعه الأفراد وتقليص طموحاتهم لفرض عبقرياتهم المدّعاة على المجتمع:

لن نكون مبالغين إذا زعمنا أن الفضيلة الأساسية للفردانية التي دعا إليها [آدم سميث] ومعاصروه هي أنها نظام يصدر في ظله عن الرجال الأشرار أقلُ أذى. إنها نظام اجتماعي لا يعتمد عمله على إيجاد الرجال الصالحين لإدارته، ولا على أن يصبح كل البشر أفضل مما هم عليه الآن، لكن يستفيد من البشر في كل تنوعهم وتعقيدهم المتاح، جيدين أحيانًا وسيئين أحيانًا، أذكياء أحيانًا وأغبياء في الغالب.[4]

على خلاف هايدجر، الذي رأى المصير الإنساني كمجرد احتمالات منبعثة عن إلقائنا التاريخي، وبالتالي كمصائر جماعية حتمية يقررها ماضينا التاريخي، رأى هايك عالمًا يحوي فرصًا وإبداعًا واكتشافًا ودهشة ومبادرة. بدلاً عن أن يكون عالمًا لملاقاة مصيرنا أو قدرنا، يصير عالمًا للتعلم. كما اختتم هايك الجزء الثالث من كتابه: «القانون والتشريع والحرية»، بقوله:

ليس الإنسان ولن يكون أبدًا سيد قدره: يتطور منطقه ذاته دومًا من خلال قيادته إلى المجهول وغير المتوقع حيث يتعلم أشياء جديدة.

هايك خطير على خطط المفكرين الشموليين، وكذلك الطغاة التافهين الذين يعتقدون أنه باستطاعتهم تخطيط حياة الآخرين أفضل مما يستطيع الناس لأنفسهم. هايدجر وشميت، من الناحية الأخرى، خطر على البشرية. رغم أن هايدجر هو أكثر الفلاسفة نيلاً لتقدير غير مستحق في القرن العشرين، توجد فائدة في قراءته، كما في قراءة شميت ويونغر، لكن فقط بالأساس لرؤية الطريق السريع (الألماني) الذي يشيدونه، والذي يقود إلى النزاع والموت. هايك، على الناحية الأخرى، يقدم خريطة أفضل لفهم طريق الحرية البسيط والكثير التعاريج.


[1] «الفردانية: الصواب والخطأ» في كتاب: الفردانية والنظام الاقتصادي، فريدريك أوغست هايك (شيكاغو: دار نشر جامعة شيكاغو، 1948)، ص. 8-9.[2] F. A. Hayek, “The Use of Knowledge in Society,” American Economic Review, XXXV, No. 4; September, 1945, pp. 519–30.[3] «من الوعي بمحدودية المعرفة الفردية، ومن حقيقة أنه لا يستطيع شخص أو مجموعة صغيرة معرفة كل ما هو معروف لشخص ما، تستخلص الفردانية أيضًا استنتاجها العملي الرئيسي: مطالبتها بالتقييد الصارم للسلطة القسرية أو الحصرية. معارضتها، مع ذلك، موجهة فقط ضد استخدام القسر لإقامة التنظيم أو الرابطة، وليس ضد الرابطة في حد ذاتها. أبعد ما تكون عن معارضة الرابطة الطوعية، تقوم قضية الفرداني، بالعكس، على الزعم بأن معظم ما يراه الكثيرون غير ممكن التحقيق دون التوجيه الواعي، يمكن تحقيقه بشكل أفضل عن طريق تعاون الأفراد الطوعي والتلقائي». [ف. أ. هايك، الفردانية: الصواب والخطأ].[4] ف. أ. هايك، الفردانية: الصواب والخطأ، ص12. جادل جيمس ماديسون ضد الاعتماد على «رجال الدولة المستنيرين» في تصميم المؤسسات، «من العبث القول بأن رجال الدولة المستنيرين سيكونون قادرين على مواءمة هذه المصالح المتضاربة، وجعلها كلها نافعة للصالح العام. لن يكون رجال الدولة المستنيرين ممسكين بالدفة دائمًا: ولا، في كثير من الحالات، يمكن القيام بمواءمة من هذا النوع إطلاقًا، بغير أخذ الاعتبارات البعيدة وغير المباشرة في الحسبان، وهي التي نادرًا ما ستتغلب على المصلحة العاجلة التي يجدها طرف في تغاضيه عن حقوق طرف آخر، أو عن خير المجموع». مقال رقم 10، من كتاب «أوراق الفيدرالية» طبعة جديون، بقلم ألكساندر هاملتون، وجون جاي، وجيمس ماديسون. (Indianapolis: Liberty Fund, 2001)، ص45.