يقدّم العلامة الفقيه الدكتور «محمد يوسف موسى» رحمه الله (1899- 1963م) في هذا المقال رؤيته الرصينة عن الحج، هو لا يقف موقف الفقيه الأصولي – كما عوّدنا في كتاباته–، وإنما يحاول قدر جهده أن يُبسّط للقارئ معاني الحج وفلسفته والحكمة من أدائه، وهي حِكم عظيمة في الدين والاجتماع.


زهد المادية

1. الحج ركن من أركان الإسلام كما نعلم جميعًا، وفريضة لا يتم للمسلم دينه إلا إذا أتى بها – متى كان قادرًا عليها وتهيأت له أسبابها – ولو مرة واحدة في حياته، وقد فرضه الله تعالى بقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]، وبقوله: {﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، كما أشار بعد ذلك إلى أعماله في آيات أخرى، ليس من الضروري ذكرها، وجماع هذه الأعمال ثلاث: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف بالبيت المحرم.

وفي سبيل تأكيد هذه الفريضة، سُميت سورة من سُوَر القرآن الكريم بسورة الحج، ووردت فيه أحاديث كثيرة عن الرسول، ومن هذه الأحاديث قوله: «من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام فلم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا».

كان لابد أن يجيء الإسلام بعمل يلفتنا بقوة عن هذه الحياة المادية، وذلك بما يستلزم من إعراض عن زينة الدنيا وطيباتها

وليس القصد من هذه الكلمة بيان ما للحج من مقدمات وشروط وأعمال لا يتم إلا بها، بل بيان أنه عمل اجتماعي يدعو إليه الفكر الفلسفي وصالح المسلمين عامة لو لم يكن الدين قد دعا إليه وجعله فرضًا مفروضًا.

2. الإنسان جسم ونفس، أو مركب من عنصرين: عنصر أرضي وهو الجسد، وآخر سماوي إلهي وهو الروح. والنزاع بين هذين العنصرين في الإنسان نزاع قديم أبدي، عرفه الإنسان منذ عرف الحياة. والناس في ميلهم لهذه الناحية أو تلك بين مُفْرط ومفَرِّط، إلا من آتاه الله شيئًا من الحكمة فعرف لكل منهما حقه وأرضاها بقدَر. وجاء الدين الحق حاثًّا على التوسط بين هذين الطرفين بعد أن مالت اليهودية كل الميل نحو الناحية المادية، ومالت المسيحية السمحاء كل الميل نحو الناحية الروحية، ثم ارتدت كسابقتها إلى الناحية المادية.

من أجل هذا وذاك، كان لابد أن يجيء الإسلام بعمل يلفتنا بقوة عن هذه الحياة المادية، وذلك بما يستلزم من إعراض عن زينة الدنيا وطيباتها، وبما يفرضه من مساواة تجعل الغني يحسّ تمامًا بأنه أخ لغيره من عباد الله الذين لم يُخوِّلهم ما خوّله من مال وغنى، فنراه في أيام الحج لا يتميز عنهم في ملبسه ومظهره وعامة أحواله.

هذا العمل ليس إلا الحج الذي يقوم في الإسلام مقام الرهبانية في المسيحية؛ إذ فيه ما في الرهبانية من انقطاع لله، وإقبال عليه، وتجرد له، وسُموّ بالروح، مع سلامته مما يُلازم الرهبانية من كَبْت وعَنَت وإرهاق ومحاولة للخروج عن الطبيعة البشرية، ولهذا يقول الله عنها: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد: 27].


بيت واحد وأمة واحدة

ثم في الحج –مع هذا– زيارة البيت العتيق الذي أضافه الله إليه لشرفه، واجتماع أكبر عدد من المسلمين كل عام في صعيد واحد يؤمّون غرضًا واحدًا، ولكل من هذين الأمرين حكمته وأثره البعيد في حياة الأمة الإسلامية. إن شقاء المسلمين قد يرجع فيما يرجع إلى تناكرهم وتفرّق السبل بهم، وعدم وحدة أهدافهم. والإسلام الذي حثّ أمة القرآن على أن يأتمروا بينهم بمعروف، جعل للمسلمين مؤتمرات: منها ما هو يومي، وهو الصلاة جماعة خمس مرات، ومنها ما هو أسبوعي، وهو لهذا أوسع وأعم من سابقه، وهو صلاة أهل الحيّ الجمعة في مسجد واحد، ومنها ما يكون مرتين في العام، وهو صلاة العيدين، وأخيرًا المؤتمر، المؤتمر الذي على كل مسلم قادر أن يشهده ولو مرة واحدة في العمر، وهو الحج إلى البقاع المقدسة.

وليس الناس جميعًا قادرين على فهم الحقائق عارية مجردة غير مرموز لها بمُثُل محسة، فكان من الحكمة أن يكون من شعائر الحج الطواف بالبيت، واستلام الحجر الأسود؛ رمزًا لما يجب أن يكون عليه المسلمون من وحدة في الهدف، واتحاد في التوجه لله جلّ وعلا.

إنّ البيت الذي أُمرنا بالطواف حوله هو بيت الله الذي جعله مثابة للناس وأمنًا، وفي الطواف حوله تشبُّه بالملائكة الحافّين بالعرش، الطائفين به قانتين مسبّحين لا يفتُرُون، وفي هذا ما فيه من سمو بالروح، وعروج بها إلى السموات العُلا، ونفس الحلول بالبيت الحرام، تمهيد لرؤية صاحبه متى صفت النفس، وصارت أهلاً لهذه السعادة القُصوى.

والحجر الأسود هو كما جاء في الحديث الشريف، يمين الله يُصافح بها خلقه؛ ففي استلامه –وهذا ما يرمز له– حافز قوي على وفاء الحاج بما يُعاهد الله عليه من بُعد عن الشر، وحب للفضيلة، وحرص على عمل الخير.


الحج الصحيح عند الشبلي الزاهد

3. وللحج، بعد ما نعرف من الأعمال الظاهرة، حقائق باطنة يجب النفوذ إليها، وأحوال نفسية يشعر بها الحاج وينعم بها، والشِّبلي رضوان الله عليه، وهو صوفي حريّ بهذا الوصف، وليس كأدعياء التصوف هذه الأيام، يرى أن من عقد الحج لله، ولم يفسخ بهذا العقد كل عقد يُخالفه، كان كأنه ما عقد الحج ونواه، وأن من تجرد من ثيابه للإحرام، ولم يتجرد مع هذا من المعاصي، يكون كأنه ما تجرّد من ثيابه، وأن من لبّى ولم يذُق عن الله جواب تلبيته، يكون كأنه ما لبّى، وأن من أشرف على مكة، فلم يُشرف عليه حال من الله تعالى، يكون كأنه ما دخلها، وأن من صافح الحجر الأسود فلم يجد أثر الأمن، كان كأنه ما صافحه أو لمسه؛ لأن من صافح الحجر فقد صافح الحق – سبحانه وتعالى – وصار في أمن وسلام منه، وأن من رمى الجمار، فلم يرمِ بهذا جهله، ولم يزدد به علمًا يظهر عليه، كان كأنه ما رمى، وأن من مضى من مكة إلى المدينة فزار الروضة الشريفة، ثم لم يكاشف بشيء من الحقائق، كان كأنه ما زار؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- يقول: «الحُجّاج والعُمَّار زوار الله، وحق على المزور أن يُكرم زواره». وهكذا نجد من الشِّبلي رحمة الله عليه تحليلاً دقيقًا طريفًا للحج وأعماله ومشاعره، تحليلاً نفهم منه كثيرًا من أسرار الحج وفلسفته وحكمته التي شرعه الله من أجلها.

ومن الحق أن نوافق الشبلي وأمثاله في نظرهم للحج وحكَمِه وأسراره هذه النظرة الفلسفية العالية؛ فإن منا من يبذلُ في سبيل السفر للحجاز كثيرًا من المال، ويتحمل كثيرًا من المشاق، وذلك في سبيل الظفر بلقب «حاج» ينال به من عروض هذه الحياة، ومنّا من يعيش أيام الحج في تلك البقاع المقدسة والأجواء الروحية السامية، ثم لا يتذوق منها شيئًا فيعود أغلظ قلبًا مما ذهب!، ومنّا أخيرًا من عرف يقينًا خطر ما هو مقبل عليه، وعلم أنه يهجر الوطن والأهل والشهوات واللذات في سبيل الله وزيارة بيته الحرام فهو يقدر البيت قدره، ويرى لربه عظمته وجلاله، ويُجاهد نفسه وهواه حتى يرجع لبلده خيرًا مما ذهب، ويعود لأهله وقد تقبّل الله حجه ورضيه وأرضاه.


الحج في كل الأديان

والشِّبلي… يرى أن من عقد الحج لله، ولم يفسخ بهذا العقد كل عقد يُخالفه، كان كأنه ما عقد الحج ونواه

4. ذلك الحج للكعبة وإن كان من خصائص أمتنا الإسلامية، فإن الحج باعتباره قصدًا إلى مكان مقدس قد عرفته الأمم جميعًا في العصور المختلفة؛ عرفه اليونان فكانوا يحجّون قبل الديانات السماوية إلى معابد مقدسة لديهم، وعرفه الهنود والصينيون القدامى، ثم عرفه اليهود والمسيحيون الذين لا يزالون يحجون إلى بيت المقدس.

ومما يجدر ملاحظته أن الحجاج من هذه الأمم المختلفة وغيرها، يلتزمون أثناء الحج التقشف والزهد في طيبات هذه الحياة كما نلتزم؛ وذلك ليشعروا أنفسهم شيئًا من الروحية العالية، وليس هذا التوافق بعجيب!، فالإنسان هو الإنسان في كل زمن وإنه ليحس دائمًا الحاجة للسمو الروحي، والتقرب من الله أو الرمز الذي اتخذه له، ولهذا السمو والتقرب سبل عدة، من أهمها الحج للمكان المقدس الذي يراه ألصق البقاع بإلهه.

5. هذا هو خطر الحج عند الأمم غير الإسلامية لما يعتبرونه مقدسًا من مكان، فكيف عندنا وهو تلبية لنداء أبينا الخليل عليه السلام إذا يقول: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37]، وهو مع ذلك استجابة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين أمره الله بقوله: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 27، 28]. فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام لما نزلت هذه الآيات، صعد جبل أبا قُبيس وقال: «يا أيها الناس!، حُجّوا بيت ربكم»، فأسمعه الله تعالى من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه تعالى أنه يحج من الطائفين والقائمين والرُكّع السجود.

وكيف، والرسول يقول، فيما رواه زيد بن علي عن أبيه عن جده علي رضي الله عنهم جميعًا: «من أراد الدنيا والآخرة فليَؤمَّ هذا البيت؛ فما أتاه عبد يسأل الله دنيا إلا أعطاه الله منها، ولا يسأله آخرة إلا ذخر له منها. ألا أيها الناس عليكم بالحج والعمرة فتابعوا بينهما؛ فإنهما يغسلان الذنوب كما يغسل الماء الدرن عن الثوب، وينفيان الفقر كما تنفي الناس خبث الحديد».

6. إني أحاول أن أتصور دينًا خلا من الحج لمشهد مقدس وبقاع طاهرة، فلا أكاد أظفر إلا بصورة باهتة لدين ميت لا حياة فيه. إنه من النافع كل النفع أن يصلي المرء؛ ففي الصلاة رياضة للجسم والروح، وحسن جميل أن يصوم ففي الصوم تعويد على الصبر، وترقيق للنفس، وفائدة للجسد، ومن الخير للمجتمع أداء الزكاة على اختلاف أنواعها، ففي هذا اقتلاع للحسد والحقد من قلوب المعوذين على القادرين، وعون للفقراء على متاعب الحياة، وإغلاق لكثير من السجون، وفتح لغير قليل من المنشآت الاجتماعية.

ولكن هذه العبادات كلها لا تُغني عن التزام الأئمة الحج لمكان واحد، وقصد غرض واحد، والعيش فترة طويلة من الزمن في تجرد عن مفاتن الحياة، وإقبال على الله وحده، واستعداد لتلقي فيضه ورحمته، ما دمنا قد سعينا على بيته مخلصين النية له.


* نُشر المقال في مجلة «المسلمون»، العدد العاشر، السنة الأولى، عدد ذو الحجة سنة 1371هـ/أغسطس آب 1952م.