في مطلع القرن العشرين وأثناء الحرب العالمية الأولى بالقرب من برلين، وتحديدًا في منطقة تدعى زوسن تقع شرق الإمبراطورية الألمانية؛ بدت هذه القطعة من الأرض جنة المسلمين على الأرض، ففيها تم بناء أول مسجد في ألمانيا، والذي لم يكن مسجدًا عاديًا بل صُمم على غرار مسجد قبة الصخرة بالقدس الشريف، واشتمل على مذبح ينتهج الشريعة الإسلامية، ومطبخ يقدم أشهى المأكولات الشرقية، وزُوّد بشبكة تدفئة مجهزة بعناية، وأسرّة نظيفة مريحة ومهندمة تدل على رفاهية نسبية، ومكتبات تضم بين رفوفها نسخ القرآن الكريم مع حرية مطلقة لممارسة الشعائر الإسلامية، وزيارات متواترة لشيوخ وأكاديميين لتلقين من في المعسكر الدروس والمواعظ حول أهمية الجهاد في الدين الإسلامي.

لم يكن هذا معسكرًا للجنود العثمانيين كما قد يبدو للوهلة الأولى، لكنه كان معسكرًا لأسرى الحرب – غالبيتهم من المسلمين – الذين كانوا ضمن صفوف قوات الحلفاء بعد أن وقعت بلدانهم تحت نيران الاستعمار، وسمي «معسكر نصف القمر».

halbmondlager, معسكر نصف القمر, ألمانيا, الجهاد
معسكر «نصف القمر»

معسكر نصف القمر: أسباب النشأة

اكتسب معسكر نصف القمر تفرده عن أي معسكر آخر للأسرى من هيئته التي تبدو بعيدة جدًا عن مقر للأسرى على أرض أوروبية تخالفهم في العقيدة، لكن ببعض البحث والتنقيب يظهر السبب الحقيقي وراء تلك المظاهر الرحيمة؛ إذ كان المقصود بإنشاء هذا المقر إقناع ودعوة هؤلاء المعاقبين – ظاهريًا – بضرورة الجهاد ضد بريطانيا وفرنسا، والعمل على تهيئتهم وتجهيزهم للقتال ضمن صفوف الجيش الألماني في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث ضم المخيم قرابة خمسة آلاف محتجز أغلبهم مسلمون، بالإضافة لعشرات من السيخ والهندوس والأيرلنديين والأستراليين.

كان هذا المعسكر واحدًا من الأسباب التي جعلت القيصر الألماني «فيلهلم الثاني» يحظى باحترام السلطان العثماني «محمد رشاد» بسبب معاملته لرعية السلطان المسلمين معاملة طيبة. وفي الواقع لم يبخل القيصر على المعسكر بأي وسيلة من وسائل الراحة إمعانًا في تحقيق غايته الخفية المنشودة، فبينما كان يبدو المعسكر ظاهريًا مقرًا استثنائيًا حاملًا لشعلة التحضر والإنسانية؛ كان الوجه الحقيقي -الذي لم تذكره كتب التاريخ- يعكس أغراضًا أخرى أكثر جدية تحوم في الأفق.

كان فيلهلم الثاني يسعى إلى تحويل هؤلاء الأسرى من الجنود – الذين أجبروا في الأساس على القتال خلال فترة الحرب العالمية الأولى لصالح مستعمريهم بريطانيا وفرنسا – إلى جهاديين موالين لألمانيا، كان صاحب هذه الفكرة هو الرحالة وعالم الآثار الدبلوماسي الألماني ماكس فون أوبنهايم، العائد من الشرق بعد فترة قضاها هناك قاربت العشرين عامًا، حيث نجح ماكس في إقناع القيصر بأن السلاح السري للانتصار على بريطانيا وفرنسا هو تأجيج مستعمراتهم في الشرق من الداخل، ولا سبيل لذلك إلا من خلال انتفاضة منظمة يديرها القيصر بمساعدة هؤلاء الأسرى المسلمين بعد تجهيزهم وتهيئتهم على أعلى مستوى.

خلال هذه الفترة وما قبلها تم إبرام عدة إتفاقيات سواء كانت معلنة أو سرية بين الدولة العثمانية وألمانيا، الأمر الذي يفسر كيف تم الزج بالدولة العثمانية في وطيس الحرب العالمية الأولى، وشكل المسمار الأول في نعش الدولة الواهنة العجوز.

كانت ألمانيا خلال هذه الفترة تلعب دور الحليف لدولة الخلافة المسلمة الذي يحترم مشاعر وشعائر المسلمين، وهذه النقطة تحديدًا كانت العامل الأكثر تأثيرًا لتحديد شكل الحياة داخل معسكر نصف القمر، والنافذ مباشرة مخاطبًا عقولهم دون استئذان.

لم تفوت ألمانيا أي فرصة لاستخدام هؤلاء الجنود منذ البداية حتى قبل انغماسهم في المشروع الجهادي المزمع عقده، ففي بداية التعاون الألماني العثماني في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني عندما قام السلطان العثماني محمد رشاد بالإعلان عن أن بريطانيا وفرنسا وروسيا هم أعداء الإسلام.

كان السفير الألماني يلقي خطابًا شبيهًا ملتهبًا من شرفته محاطًا بأربعة عشر من هؤلاء الأسرى المسلمين من بلدان متفرقة من المغرب الإسلامي، تونس والمغرب والجزائر، إمعانًا في تنفيذ خطتهم بصفتهم جنود سوف يتم تدريبهم ومن ثم إرسالهم للجهاد مع الجيش الألماني ضد فرنسا وبريطانيا في الشمال الإفريقي.


أوبنهايم يوظف نصف القمر للمشروع الألماني

ماكس فون أوبنهايم, ألمانيا, رحالة, تاريخ
«ماكس فون أوبنهايم» — رحالة وعالم آثار ودبلوماسي ألماني

استخدم معسكر نصف القمر على نطاق واسع كوسيلة دعائية خلال الحرب العالمية الأولى، ولذا أسس أوبنهايم، الأب الروحي لهذه التجربة الجهادية، مكتبًا ليدير كل تلك الأعمال وينقل ما يدور بداخل المعسكر إلى العالم، فكان أبرز ما قام به هو إنتاج طابع بريدي يحمل صورة المسجد الفريد داخل المعسكر، كما عمل على نشر شائعات مفادها أن القيصر هو من تحمل تكلفة بناء هذا المسجد من جيبه الخاص!

وكان هذا المسجد مكانًا ملائمًا جدًا لهذا الترويج حيث تم جلب الشيوخ والأئمة ليس بغرض العبادة وتلقين الدروس الفقهية فحسب، بل كان للخطب السياسية متسع من الوقت تتخللها العبارات الملتهبة التي تحث على الجهاد والقتال من أجل ألمانيا بصفتها الصديق الفعلي للإسلام والمسلمين.

لقد كان أوبنهايم قائدًا فعليًا على أرض المعسكر، ومثل الشخصية الأكثر تأثيرًا على جموع الأسرى، وكان الزائر الدائم للمخيم الشيخ صالح الشريف، التونسي، والذي كان يعمل حينها في جهاز المخابرات العثمانية، وكان مناضلًا ثوريًا جُل همه هو إزاحة الاستعمار الفرنسي من بلده تونس، حيث كان يذهب للسجناء مرتديًا زي الشيوخ، العباءة والعمامة، مما مثل الكثير من الرمزية والإحساس بالراحة والألفة لدى هؤلاء الأسرى. وفي مارس 1915م تبنى الإشراف على إصدار جريدة عربية خاصة بالمعسكر حملت اسم جريدة الجهاد كان له فيها نصيب الأسد من كتابة المقالات والرسائل الموجهة إلى الأسرى.


فشل التجربة: انقلب السحر على الساحر

تنقل لنا سجلات التحقيق الخاصة بالحرب العالمية الأولى والتي نشرت، مؤخرا، في تركيا صورة عن الحياة في معسكر نصف القمر، فنجد أحد الأسرى من المزارعين المغاربة أحمد بن حسين يقول:

لقد كانوا يقدمون لنا أفضل الأغذية واللحوم، بمختلف أنواعها، مع مراعاة أن لحم الخنزير لم يكن يومًا من ضمنها، وتم منح كل أسير ثلاثة أغطية وملابس جديدة وزوجًا من الأحذية، وكانوا يهتمون بصحتنا ونظافتنا، وكان يتم حلق شعورنا بشكل دوري، وكان يزور المخيم شيوخ ومندوبون عسكريون من الجانب العثماني بهدف استمالتنا للتطوع والقتال لصالح الجيش العثماني والألماني بدافع الجهاد من أجل الإسلام.

انتهت التجربة الجهادية الألمانية بنتيجة عكسية، فبعد أن اقتنع بعضهم بمنح ولائه للدولة العثمانية وحليفتها ألمانيا تم نقلهم إلى المواقع الملتهبة التي تدور فيها رحى الحرب بما تتضمنه من حياة صعبة وإمكانيات شحيحة للغاية، مما أدى إلى انخفاض معنوياتهم بنسبة كبيرة بعد حياة مترفة نسبيًا كانوا يحيونها في معسكر نصف القمر، الأمر الذي أثر على تأديتهم لأدوارهم في المعارك، وبدأت تدور بداخلهم بعض التساؤلات من مثل:

نحن نقاتل ثلاث دول غربية: روسيا وفرنسا وإيطاليا بحجة أننا نجاهد ضد الصليبيين، بينما نحن نقف في المقدمة الأمامية من ثلاث دول غربية أخرى ألمانيا والنمسا وبلغاريا، يبدو المنطق سخيفًا بعض الشيء، ما الذي دفع بنا في أتون هذه المعركة التي ليس لنا فيها ناقة ولا جمل؟ وما الهدف الذي نقاتل من أجله تحديدًا؟


نصف القمر في السجلات والوثائق

يفسر البعض أن أوبنهايم وفريقه من المستشرقين قد خالفهم الحظ حين أقنعوا القيصر أن المسلمين كما يجمعهم نداء الصلاة فإن شخصًا ما يلوح إليهم بمصحف محمول قد يدفع الجموع للانسياق خلفه مسرعين ممتطين صهوة جيادهم دون النظر إلى الهدف والمصالح والمخاطر التي تحف هذه المغامرة غير المحسوبة.
وثيقة, معسكر نصف القمر, ألمانيا, الجهاد
وثيقة, معسكر نصف القمر, ألمانيا, الجهاد

تم محو التجربة من أغلب كتب التاريخ إلا أن صداها نجح في الاستمرار والتواجد، ففي عام 1917م صدرت رواية «هيرا سينج» للكاتب الإنجليزي «تالبوت موندي»، والتي تعد من كلاسكيات الأدب الإنجليزي، وتدور في إطار كوميدي ساخر حول جندي من الهند تم أسره بواسطة الألمان في مرسيليا لينضم إلى مخيم نصف القمر، وهنا تبدأ المفارقات حيث يصر الألمان على تلقينه التعاليم الإسلامية بينما هو من السيخ.

من الجدير بالذكر أن التسجيلات التي قام أكاديمي ألماني عام 1915م بتسجيلها للأسرى، والتي تعدت 2600 تسجيل، أفادت بأن المخيم قد ضم حوالي 80 أسيرًا من السيخ لكنهم جميعًا لم يشيروا إلى إقحامهم في الشعائر الإسلامية، بل أشاروا إلى المعاملة الجيدة التي حظوا بها من قبل الألمان، وذكروا أنه كان لهم برنامج منفصل خاص بهم يتم من خلاله تنمية الإحساس القومي بالظلم والاضطهاد، وبث المشاعر العدائية ضد البريطانيين، وهنا تظهر النوايا الألمانية التي تعنى بمصلحتها أولًا وأخيرًا.

وفي العاصمة البريطانية لندن نجد معرض «بروناي الإيمان والحرب» الخاص بمشاركة السيخ في الحرب العالمية الأولى يحتوي على نسخ من الصحف التي كانت توزع على الأسرى في معسكر نصف القمر. إحدى هذه الصحف تحتوي على قصيدة موجهة إلى الأسرى من الهند بُدأت بالإشارة إليهم بـ: «أيها الشهداء، ينبغي عليكم الإتحاد من أجل الهند ونبذ الكراهية والتحريض بين أبناء الهند مختلفي الديانة، والاتحاد جميعًا في وجه الاحتلال البريطاني الذي يتغذى على هذه الخلافات»، ولكن تشير السجلات إلى أن السيخ ظلوا مخلصين إلى حد كبير للبريطانيين على الرغم من كل تلك المحاولات .

ضم المخيم أيضًا حوالي 50 إيرلنديًا وبدت جلية هنا النوايا السياسية الإمبريالية للإمبراطورية الإلمانية حيث تم توجهيهم لخوض الحرب في صفوف الألمان أيضا لكنهم لم يبدوا أدنى اهتمام، وكانوا كثيري التمرد والاحتجاج بسبب الزج بهم والشرقيين – على حد قولهم – في مكان واحد، الأمر الذي دفع الألمان إلى إطلاق سراحهم في غضون أربعة أشهر. أما الأسترالي دوجلاس جرانت فكان أيقونة من أيقونات المعسكر حيث تم ضمه كأسير من قبل الألمان – بعد إصابته في فرنسا – إلى معسكر أسرى المسلمين والهنود عام 1917م لأسباب عنصرية بسبب بشرته السوداء ليشكل أيقونة المطالبة بالحريات والحقوق، ومدافعًا عن الأسرى من المسلمين والهنود حيث كان على صلة وثيقة بالصليب الأحمر الأسترالي.

خلال عام 1917م تم التخلي عن الأغراض السياسية للمخيم من قبل القادة السياسين بعد أن أشارت كل المؤشرات إلى فشله لا محالة، وتحول المعسكر تدريجيا وكأنه معرض لكائنات عجيبة هبطت من السماء حيث يأتي المحليون والأطفال لمشاهدتهم من خلال السياج الحديدي، إضافة إلى الزائرين طلبة العلم في مجال الاستشراق والأبحاث الخاصة بالحرب العالمية الأولى، بعد فترة قصيرة تم إرسال الأسرى إلى رومانيا للعمل بالأراضي الزراعية، أما الشيخ صالح فقد ترك ألمانيا منتقلًا إلى سويسرا معلنًا فشل التجربة الألمانية الجهادية .

يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، تتبدل الأدوار وتختلف المسميات بحسب المصالح السياسية، جهادية، إرهابية، أو حتى داعشية؛ ويبقى الثابت الوحيد هو يد الغرب التي لا تتوانى عن العبث بكل ما يمت للإسلام بصلة، فالتاريخ لن يمل من أن يعيد نفسه لأن الحمقى لم يفهموه جيدًا!