سوف أتحدث عن تجربتي دون أن أنزلق إلى إعطاء الدروس… لن أروي من الوقائع إلا ما رأيته بعيني أو سمعته بأذني، ولن أعمد إلى تبييض صفحتي أو تلويث خصومي… لكنني أرجو أن أكون منصفًا لأصدقائي عادلًا مع غرمائي، إذ ليس في نيتي الانتقام، وليست لدي رغبة عارمة في تسجيل هدف في مرمى أحد… يعرف رفاقي أنني قابض على قناعاتي حتى لو اشتعلت جمرًا، لكنهم يعرفون جيدًا أنني لا أميل للعراك، كما أنني لا أود أو أعمد للإساءة إلى أحد، إلا إذا كان في قول الحقيقة ما يسيء.
حمدي قنديل في مقدمة كتابه «عشت مرتين».

يرتبط اسمه بأول وأبرز برنامج إخباري صحفي بالتلفزيون المصري. حين تسمعه يجذبك صوته الرخيم الهادئ، وأسلوبه الرشيق، وانتقاؤه الألفاظ والعبارات الفصيحة والعامية الراقية.

هو أول من علمنا مساندة الانتفاضة، والانتفاض معها، وأول من جعل الكبار والصغار يلتفون حول شاشة برنامج إخباري، منتظرين فقرته النهائية التي يسرد فيها أقوالًا من مقالات وكتابات لتتحول إلى أقوال مأثورة، فمجرد ذكره لاسم الكاتب في برنامجه كان يعتبر مكسبًا؛ إذ كان شرفًا لأي صحفي أن يُقتبس قول له في فقرة «قالوا»، بصوت الإعلامي الكبير حمدي قنديل.


الجيولوجي والطبيب والصحفي

بقرية «كفر عليم» بالمنوفية وُلد حمدي قنديل عام 1936، ابنًا بكرًا لخمسة إخوة، وأب امتهن التدريس، فكان له دور كبير في تشكيل عقله وحياته، فحين كان يسمع عن مساوئ الشيوعية، كان والده يخبره أن الشيوعيّة هي العدالة الاجتماعية، وحينما رسب في إحدى المواد خلع حزامه وانهال عليه ضربًا.

حصره مجموعه في التوجيهية بين اختيارين: كلية العلوم ومعهد الكيمياء الصناعية، وكان أبوه يرى أن المستقبل للتعدين والبترول، لذا رجحت كفة كلية العلوم جامعة الإسكندرية، ليتخصص في الجيولوجيا، لكن بعد شهرين من الدراسة لم يهوَ الأمر، وقرر إعادة امتحان التوجيهية، فحصل على مجموع أهّله لكلية طب قصر العيني، التي تركها بعد 3 سنوات ليبدأ رحلة عمره في بلاط صاحبة الجلالة.


حمدي قنديل «ندهته النداهة»

رحلته مع الكتابة بدأت من التوجيهية، مع صحيفة اسمها (الإخلاص)،انتقد فيها الملك فاروق؛ لإنفاقه مليون جنيه لشراء يخت (المحروسة)، فطُرِدَ، وبعد التحاقه بكلية العلوم أُطيح بالملك، ثم التحق بكلية الطب عام 1953، فشارك في تأسيس مجلة الكلية، التي صودرت طبعتها الأولى؛ بسبب مقاله الذي ينتقد أساتذة الجامعات ولوائحها، وبعد 3 أعوام نادته «نداهة الصحافة»، فترك الطب لينضمّ إلى مجلة (آخر ساعة) عام 1956، بطلب من مصطفى أمين؛ لنشر رسائل القراء، مقابل 15 جنيهًا في الشهر.

في العام نفسه التحق بقسم الصحافة بكلية الآداب، ثم حصل على البكالوريوس عام 1960، وبعدها حصل على دبلوم الصحافة من معهد برلين، وكان يكتب لـ (مجلة التحرير)، براتب قدره 25 جنيهًا، كما عمل مع (مجلة الجابر) السورية، ثم عمل بجريدة (أخبار اليوم) لفترة قصيرة، طار بعدها إلى التلفزيون.

بدأت علاقته بالتلفزيون مع انطلاقه عام 1960، تحت اسم التلفزيون العربي، وطُلب منه قراءة نشرة التاسعة، وفي عام 1961 قدم برنامجًا إخباريًا بعنوان (أقوال الصحف)، وتعرض لأول إيقاف بعد عرض الحلقة الخامسة؛بسبب غضب السلطة منه؛ لقراءته خبرًا يخص عبد الناصر في نهاية البرنامج وليس بدايته!

ثم استمر في تقديم البرنامج حتى عام 1969، عندما تم تعيينه مديرًا لاتحاد استديوهات البث العربية، وفي عام 1971 ترك منصبه بعد رفضه إجراء تحقيق تأديبي للفريق الفني الذي سجل خطاب السادات في عيد العمال، ثم عاد عام 1973.

عام 1998 قدم برنامجه الأشهر (رئيس التحرير)، مستغلًا الحرية النسبية للإعلام في توصيل رسالة هادفة، فصار من أكثر البرامج شعبية، واعُتبر أبرز البرامج الإخبارية الناجحة بالتلفزيون ربما إلى الآن.

خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 استشعر النظام قوة معارضته بعد هجومه الشديد على العدوان الصهيوني وتخاذل الحكومات العربية، ودعوته إلى دعم الانتفاضة، ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية، فأُوقف برنامجه. فانتقل إلى فضائية (دريم)، واستمر في التعبير عن آرائه الجريئة إزاء الاحتلال والانتفاضة، وغزو العراق، والنوايا الأمريكية الخبيثة في الشرق الأوسط، فأُلغي البرنامج عام 2003.

انتقل عام 2004 إلى تلفزيون دبي الإماراتي؛ لتقديم برنامج (قلم رصاص)، وحظي البرنامج بشهرة واسعة، جعلته الوحيد الذي نافس برامج قناة الجزيرة. وفي 2008 أُجبر على إيقافه أيضًا بعد تصريحه الشهير «أمة تلفانة»، ولنفس الأسباب، التي يعود معظمها إلى خوف الحكومات العربية من حرية الرأي والتعبير، فضلًا عن ادعاءات بتجاوزه سقف الحرية باستمرار، وهو اتهام شريف لا يشينه.

بعدها انتقل إلى قناة الليبية لمدة شهرين قبل أن تقوم الحكومة الليبية بتأميم القناة، وإيقاف البرنامج بضغوط مصرية، وقيل إنه عُرض عليه تقديم برنامجه على تلفزيون (المنار) التابع لحزب الله، لكنه رفض، ثم عاد إلى مصر، وكتب لصحيفة المصري اليوم ثم الشروق، وشارك في تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير برئاسة البرادعي عام 2010، وكان المتحدث الإعلامي لها.

وفي العام نفسه رفع وزير الخارجية أحمد أبو الغيط دعوى قضائية ضده، يتهمه بالتشهير به في إحدى مقالاته بالشروق، فتوقف عن الكتابة، ثم ترك الجمعية الوطنية للتغيير؛ لانزعاجه من وجود البرادعي خارج مصر كثيرًا.

وبعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، عاد قلمه الرصاص على قناة (التحرير)؛ ليستحق عن جدارة لقب (رئيس تحرير الثورة).


هكذا كانت رؤاه للأمور

لم يبق لي غير القلم… هدأ الصهيل وسافر الفرسان… واستلقت على القاع القمم… جف المداد وشاخت الكلمات وارتحل النغم… حين استوى في الأرض صوت الله… كان العدل دستور الأمم… فإلام نمضي ونشكو حزننا الدامي… ونصرخ من تباريح الألم… وإلام سنظل نشكو من كل جلاد ظلم… أطلق جيادك من كهوف الصمت… واحلم… أجمل الأشياء فينا… صبر إنسان حلم… الأرض يحييها ربيع قادم… وضمير هذا الكون يسكن في قلم.
مقدمة برنامج قلم رصاص، إهداء الشاعر فاروق جويدة.

لم يكن يرى الناصرية انتماء سياسيًا، بل مثالًا للعدالة الاجتماعية، والتحرر الوطني، وتعلم من عصر عبد الناصر احترام الذات، والكرامة، والوطنية، والشجاعة؛ للوقوف ضد القوى العظمى.

كان مراسلًا للتلفزيون خلال حرب 1967، وعاد سيرًا على الأقدام من سيناء، كان متحمسًا لعبد الناصر، لكنه كان واعيًا للأخطاء التي وقع فيها، وقدم في مذكراته صورة حقيقية لإعلام تلك الفترة.

نقده لتجربة عبد الناصر جعله يرفض أن يكون بوقًا لأي رئيس، فقد آمن بأهمية استقلال الإعلامي والصحفي، وأن تكون هناك مسافة بينه وبين المسئول، وكان يرفض أن يقف في طابور المطبلين أو المعارضين بدون سبب.

كان مثالًا للإعلامي الموضوعي، الذي قدّم نموذجًا مستقلًا للإعلام، بعيدًا عن الحشد والتعبئة، وحرصه على الاستقلال والحرية هو ما أنهى تجاربه التلفزيونية؛ إذ كان موقوفًا من الحكومات العربية كلها؛ لما شكّله من تهديد لها بنجاح برامجه، وانتقاداته الحادة، وفي الوقت نفسه مثّلت برامجه نقطة ضوء في التفكير الإعلامي رفضت الترويض، حيث أصر على وجود حد أدنى من الموضوعية والتنوع لعرض الأفكار كلها.

ترحم في برنامجه على شهداء فلسطين،وقرأ لهم الفاتحة على الهواء، وكان يرى أن الإعلام العربي غير قادر على مواجهة الصهيونية، وأن حاله يعكس حال الركود في العالم العربي.

كان معارضًا للاستيطان والاحتلال، والسياسة الخارجية الأمريكية، ووصف الغزو الأمريكي للعراق بأنه «أكبر كارثة حديثة للعرب منذ 1948».

آمن بأن التغيير لن يتحقق إلا بخروج الملايين، وكان صوتًا من أصوات الميادين في ثورة يناير، وقلمًا من أقلام الحرية التي لم تُقصف، فدعا مبارك إلى التنحي مع بدء الاحتجاجات، ودعا إلى تكوين كيان مدني وطني يحمي الثورة من محاولات السطو والاستقطاب والإفشال، ويضع خارطة طريق لمصر، فكان من الداعين لـ «مؤتمر مصر الأول»، في مايو/آيار 2011؛ لوضع المبادئ الأساسية للدستور، وتقديم قائمة موحدة للانتخابات التشريعية، وتشكيل تحالف قوي من أجل دولة ديمقراطية مدنية.

وخلال الانتخابات الرئاسية عام 2012 أيد حمدين صباحي، ثم أعلن دعمه للتيار الشعبي، ولا يمكن أن ننسى موقفه في مؤتمر «فيرمونت»، الذي جمع رموزًا وطنية وثورية من جميع التيارات؛ لاستعادة الزخم الشعبي خوفًا من تزوير نتائج الانتخابات، فحينما ضجت القاعة بالهجوم على استعلاء الإخوان وإصرارهم على الانفراد بالمشهد السياسي، ونقضهم وعودهم بالترشح في الانتخابات الرئاسية، وكاد الاجتماع يفشل، تدخل حمدي قنديل، وأكّد ضرورة الخروج من الاجتماع بموقف وطني، مما امتص حالة التوتر وأعاد الهدوء، ثم صاغ بيان الاتفاق بين القوى المشاركة الذي كان بمثابة وثيقة التوافق بين الجماعة الوطنية.

لم يُخفِ قنديل دعمه للتخلص من مرسي، ورفضه للمصالحة بعد فض رابعة، ووصف البرادعي بالمتخاذل عندما قدم استقالته احتجاجًا على الفض، كما أعلن تأييده لدستور 2014، ودعا لاستئصال الإخوان من الحياة السياسية والمجتمع؛ لأنهم جماعة إرهابية، وأن الشعب أعلن ذلك قبل الحكومة، كما أشاد بالشرطة، التي تسعى لمحو صورتها القديمة بمحاربتها للإرهاب، وأعلن عن تأييده لقانون التظاهر.

ورغم أن البعض أخذ عليه ذلك، فإنه احتفظ بطهارة قلمه ورأيه، ولم يتمادَ في تأييد الخطوات التالية، وانزوى عن المشهد العام مثلما انزوت أصوات الثورة والحرية كلها.

بسؤاله عن ثورة يناير ومستقبلها، أجاب بأن:

وعلق على براءة مبارك بأن «التاريخ لا تكتبه أحكام القضاء».


آن للفارس أن يغفو

المستقبل ضباب، والصورة غير واضحة، والأمور متشابكة ومعقدة، فالثورة خرجت من الميدان، ولا أظن أنها ستعود مرة أخرى… وبعد عدة لقاءات بشباب الثورة أدركت أنه يتم خنق الثورة بأيدي هؤلاء الشباب بالتدليل المتعمد، والتضليل المكثف، وتسليط الأضواء الكاشفة عليهم، بقصد تفكيك معنى ومضمون وهدف الثورة، وهذا ما حدث بالفعل… الغرض كان إفساد الثورة نفسها، وهذا تحالفت عليه أطراف دولية وإقليمية ومحلية.

وكما فشلت السلطات في إسكاته فشل المرض كذلك أمام إصراره، فقد عانى طويلًا من الفشل الكلوي،وتعرض لجلطة دماغية، وبعد تعافيه خضع لجلسات الغسل الكلوي، وأُصيب بكسر في الفخذ مرتين، وفي أيامه الأخيرة تدهورت حالته الصحية، ولم يستطع المقاومة كعادته، إلى أن وُضِعَ على أجهزة التنفس الصناعي لعدة أيام، توفي بعدها في الأول من نوفمبر 2018، بعد رحلة إعلامية وصحفية لأكثر من 60 عامًا.

كان من أوائل الإعلاميين الذين ربطوا الصحافة الورقية بالتلفزيونية، من خلال برنامج تلفزيوني يستعرض تناول الصحف للأحداث، فكان بمثابة مراجعة للصحافة تعكس مشكلات الإعلام العربي، ومنبرًا يعبّر عن آرائه في قضايا العالم العربي، بوجهات نظر تمثل المشاعر الشعبية للبسطاء.

لم يكن من اللاعبين على الحبال أو المتلونين، احترمه كل من اختلف معهم، ولم يرتبط اسمه بتحريض أو خصومة إلا مع احتلال أو اعتداء أو كبت للحريات. حافظ على طهارة قلمه، وعلو صوته بالحق، لم يداهن أو ينافق، ولم تستطع السلطة تدجينه أو تهجينه.

لجأ إليه شباب الثورة ضمن من لجئوا إليهم بعيدًا عن أيديولوجيات الوطنيين والقوميين والإسلاميين واليساريين والاشتراكيين الذين تصارعوا أكثر مما اتفقوا، وكان البعض يعدّه ومن مثله بوصلة الاتجاه الصحيح، ومؤشر الرأي غير المخلوط بأجندة أو سياسات حزبية.

ظل مكافحًا بمهنية وموضوعية، غير قابلتين للتلون والتطبيع والتطبيل، وكان من الذين رفعوا سقف الحرية في الإعلام، وتميز بأسلوب أدبي يعتمد على السرد والتحليل الهادئ في عرض القضايا، ورغم تعرضه لأزمات عديدة إلا أنه حافظ دومًا على علاقة طيبة بجميع من عمل معهم؛ فقد كان متواضعًا محبًا لكل الناس، ولم يكن متكبرًا مكابرًا، فانسحب من الحياة العامة في هدوء يليق بحسه الوطني وصدق نواياه، بعد تقدير لم يوفق فيه أو أُخذ عليه.

رحم الله رئيس التحرير «حمدي قنديل».