الموت أصبح العنوان الأبرز في سوريا منذ اندلاع ثورتها في عام 2011، لكن رغم تعدد طرقه ومشاربه التي تنوعت بين القصف بالبراميل والحصار والأسلحة الكيميائية، لا يكف النظام السوري عن مفاجأة العالم، ولا يتوقف عن تسطير صفحات سوداء في تاريخ المجازر الإنسانية.

كشف تقرير صادم استغرقت منظمة العفو الدولية عامًا كاملا في إعداده وتضمن مقابلات شخصية وإفادات من 83 شخصًا بين مسجون سابق وسجان وقاضٍ وطبيب، عن قيام النظام السوري بإدارة مجزر لتصفية المحتجزين لديها في سجن صيدنايا منذ العام الأول للثورة حتى الآن. بلغت تقديرات المنظمة للأعداد التي تم إعدامها في هذا السجن نحو 13 ألف سجين، وهو عدد قابل فحسب للزيادة.

يذكر التقرير أن هذه الأعداد تخص من تم شنقهم بطريقة منهجية دون ذكر من لاقوا منيتهم نتيجة ظروف الحبس بالغة السوء التي وصفتها المنظمة بأنها ظروف إبادة جماعية ترقى لجرائم الحرب طبًقا لميثاق روما المؤسس للمحكمة الدولية.

تشير المنظمة إلى أن تاريخ الحكومة السورية في القمع والتعذيب والإبادة والإخفاء القسري يتجاوز بعقود مرحلة الثورة، إذ وثقت المنظمة استخدام النظام السوري لأكثر من 35 وسيلة تعذيب متنوعة في مراكز احتجازه في الثمانينات إبان عهد الأسد الأب. كما بلغت أعداد المختفين قسريا على يديه 17 ألف شخص تقريبًا، منهم فلسطينيون ولبنانيون ما زال المئات منهم مفقودين حتى الآن.


شُعب الهول القاتمة

في صيدنايا يقدم النظام السوري كل ألوان الهول حتى يبدو للرائي وكأن الموت أهونها. فصيدنايا «يمثل نهاية الحياة، ونهاية الإنسانية» كما يصفه أبو محمد، وهو حارس سابق في السجن.

تفضل كيت آلن، مديرة منظمة العفو الدولية في لندن، توصيف جحيم دانتي الواقعي لوصف ما يحدث في السجن حيث تنقل شهادة أحد المسجونين السابقين، إذ يقول: «كل مرحلة تصل إليها تكتشف أن المرحلة السابقة كانت أفضل في الحقيقة وتبدأ في القلق بشأن المرحلة المقبلة».

التعذيب طقس يومي ليس هدفه انتزاع الاعترافات، إنما سحق إنسانية المحتجزين و قدرتهم على الصمود ككائنات حية. يخبر أحد المحتجزين السابقين، وهو طالب صغير السن، المنظمة قائلا: «لا أدري ما هو المصطلح المناسب الذي يصلح لوصف ما شاهدته هناك. اعتاد الحراس أن يأمروا الجميع بخلع ملابسهم والتوجه إلى دورة المياه واحدًا تلو الآخر، ثم ينتقوا أحد الشباب من ذوي البنية الجسمانية الصغيرة، أو من هم أحدث سنًا من غيرهم، أو من لديهم بشرة فاتحة، ويطلبون منه أثناء توجهنا إلى دورة المياه أن يقف ووجهه نحو الباب، وأن يغمض عينيه، ومن ثم يأمروا أحد السجناء الأكبر سنًا بأن يقوم باغتصابه، ولن يعترف أحد أنه قد تعرض لذلك، ولكن تكرر هذا الأمر كثيرًا…».

الجوع سجن آخر داخل السجن وسلاح قاتل يحمل بصمة النظام الأسدي، يشهره ضد القرى والبلدات المحاصرة وضد المحتجزين العزل لديه. تنقل المنظمة في تقريرها هذه الشهادة المفجعة لأحد المعتقلين السابقين إذ يقول: «إن الذي شاهدته في مضايا التي حوصر سكانها منذ يونيو/حزيران 2015 لا يُقارن البتة بما يحصل داخل سجن صيدنايا. ولقد خرجت من السجن أزن 50 كجم فقط بعد أن كان 90 كجم لحظة اعتقالي … وأذكر أننا كنا مستلقين على أرض الغرفة ذات يوم نحلق في سقفها، وسقطت قطعة من قصارة السقف، فهرع أحد زملائنا في الزنزانة إلى تلك القطعة، وبدأ يأكلها معتقدًا أنها كانت قطعة خبز…».

بعد التعذيب والجوع والعطش ومنع الدواء يأتي الصمت المطبق؛ القواعد التعسفية والضرب اليومي والخوف الدائم الذي يعاني منه السجناء كروتين يومي أصاب العديد من السجناء بالأمراض العقلية مثل الذهان والاكتئاب وأدى إلى وفاة العديد منهم.


مصنع الإبادة

لا يكتفي نظام الأسد بالموت العرضي للسجناء نتيجة الظروف القاسية فبادر بتحويل السجن إلى منظومة كاملة للقتل تسميها منظمة العفو الدولية بـ «المسلخ». إن ارتكاب جرائم قتل وإبادة منظمة كهذه لم يكن بالإمكان إنجازه واستمراره طوال هذه السنوات التي تصل إلى ست سنوات دون انضباط كامل في العمل وتقسيمه وتوزيع المهام والأدوار فيه، بل وتوثيقه وعده وإحداث منظومة إجراءات تبدأ بالانتقاء والمحاكمة ثم العزل والتنفيذ والنقل والدفن؛ لذا يمكننا أن نصفه بـ «المصنع» بحسب الراحل زيجمونت باومان.

تذكر حنة آرنت في كتابها «أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر» أن إنجاز مذبحة مثل الهولوكوست لم يكن ليتم بهذه الكفاءة لو أن الموظفين الذين قاموا بالعمل امتلكوا حقدًا خاصًا ومشاعر عداء شخصية تجاه ضحاياهم، بل كانت السلطات النازية تحرص على استبعاد من تظهر عنده مثل هذه المشاعر أثناء عمليات الإعدام. على العمل أن يكون مهنيًا تمامًا، روتينيًا، بل حتى مملا. حتى أن الضحية نفسها كانت تقوم بجزء من مهام هذا «المصنع» الكبير؛ إذ كانت الشرطة التي تتولى تنظيم الحشود اليهودية المتجهة إلى المحرقة من اليهود، ومن كانوا يشغلون مضخات الغاز من اليهود أيضًا في بعض الأحيان.

هنا تكمن بالنسبة لآرنت تفاهة هذا الشر المستطير، إذ أن المسؤول عن هذه الجرائم العظمى هو موظف عادي يردد شعارات الدولة سواء أكانت ألمانيا فوق الجميع، أو الجيش السوري العربي نصير المقاومة و قاهر الإمبريالية والمدافع عن القومية العربية، دون أن يكون خلفها أي معنى حقيقي أو قيمة أخلاقية أو ممارسة عملية. قد لا يحمل هذا الموظف كرهًا خاصًا لضحاياه ولا موقفًا أخلاقيًا شريرًا يدفعه لقتلهم؛ إنه فقط يقوم بعمله.

لقد ارتكب أيخمان أفعالا يكافَأ المرء عليها في حالة الانتصار، ويجر بسببها إلى المشنقة في حالة الهزيمة.
محامي أيخمان أمام المحكمة

يمكننا أن نستبدل اسم أيخمان في العبارة السابقة باسم مدير سجن صيدنايا الذي يشرف بشكل شخصي على عمليات الإعدام الأسبوعية التي تنفذ في السجن. يحرص هذا المدير بحسب التقرير أن يتم اتباع الإجراءات الدقيقة والاعتيادية لتنفيذ كل حالة إعدام، ولا يدفعه العدد الكبير للضحايا للجوء لإجراءات استثنائية تتيح له القتل خارج نطاق «القانون».

تبدأ إجراءات الإعدام بالمحاكمة التي يتم عقدها في محكمة الميدان العسكرية بحي القابون في دمشق. أنشأت المحكمة بموجب قانون خاص بأوقات الحرب والعمليات العسكرية، ولا تستغرق إجراءات المحاكمة أكثر من ثلاث دقائق بالنسبة للمعتقل الواحد. السؤال المطروح الآن هو أنه إذا كانت أحكام هذه المحكمة مقررة مسبقًا، لماذا يزعج النظام نفسه بعقدها من الأساس!

تجيب حنة آرنت على هذا السؤال بأن القانون أو الإجراءات القانونية توفر درعًا أخلاقيًا للموظفين الذين يقومون بمهمة الإشراف على مراحل التنفيذ المختلفة؛ أي أن هذه الإجراءات تقوم بتحويل السؤال الذي قد ينتاب ضمائرهم نحو: «هل ما أقوم به أخلاقي؟» إلى «هل ما أقوم به قانوني؟»؛ في هذه الحالة تقع المسئولية الأخلاقية على المشرِّع، وما على الموظف المواطن الصالح المنتمي لوطنه ودولته إلا أن يطيع القانون وينفذه.

بعد المحاكمة وإصدار أحكام الإعدام، يتم تقسيم مهمة التنفيذ على منفذين عديدين، إذ تكون مهمة بعض الحراس عزل الضحايا عن باقي المساجين، وتكون مهمة آخرين نقلهم إلى المبنى الذي يتم فيه الإعدام، وتقتصر مهمة فريق ثالث على قيادة السيارات التي يتم نقلهم فيها، ثم تأتي مهمة تنفيذ الإعدام التي تضطلع بها لجنة الإعدام المكونة من مدير سجن صيدنايا، ومدعي عام محكمة الميدان العسكرية، وممثل عن أجهزة المخابرات، وعادة ما يكون هذا الأخير من المخابرات العسكرية، وقائد فرقة الجبهة الجنوبية، وأحد ضباط الخدمات الطبية بمشفى تشرين، وكبير الأطباء في صيدنايا. وغالبًا ما يرافق كل عضو من أعضاء اللجنة مساعد أو حارس شخصي أو اثنان. وأخيرًا، تأتي مهمة نقل الجثث إلى المستشفى ودفنها في مقابر جماعية يتولى أمرها طاقم مختلف من الحراس.

تهدف عملية التقسيم هذه إلى نزع صفة القتل عن فعل هؤلاء الحراس؛ فلا أحد منهم يرتكب جريمة قتل كاملة، وباستثناء لجنة الإعدام التي تحرص على أقصى درجات المهنية، فلا أحد يرى أرواح هؤلاء الضحايا وهي تفارق أجسادها. بالتأكيد، فإن كل هؤلاء المشاركين في العملية على علم بنتيجتها النهائية، ولكن كل الدروع والاحتياطات النفسية قد تم اتخاذها لتخفيف العبء الأخلاقي عن ضمائرهم.

قرارات الإعدام نفسها يتم الموافقة عليها من قبل أعلى المستويات في الحكومة السورية، فيتم التصديق عليها من قبل مفتي الجمهورية، وينوب وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة عن الرئيس السوري في التوقيع على القرارات وتحديد موعد تنفيذها. وتستغرق عملية الإعدام من إصدار القرار في محكمة الميدان مرورًا بالتصديق عليه و انتهاء بتنفيذ الإعدام، حوالي شهرين. بينما يذكر التقرير أن عمليات الإعدام نفسها تتم مرة في الأسبوع أو مرتين في الأسبوع وتتراوح أعداد الضحايا بين عشرين وخمسين ضحية كل مرة.

هل يتفلت الشر بفعل تلك الهندسة من إمكاناتنا في الحكم الأخلاقي أو القيمي عليه، بحيث يمسي لا خيرًا ولا شرًا، أم أن الجريمة تضحي أبشع إذ أن هذا الإجرام «القانوني» يجرد المجرم لا الضحية فحسب من آخر علامات الإنسانية بداخله: ألم الضمير، المسئولية، وتحوله إلى أداة أرخص ثمنًا لدى المجرم «القانوني» الكبير، من الضحية؟ لقد بقي أمامنا خيار واحد لإنقاذ أنفسنا من ذلك الانتحار البشري الجماعي المسكوت عنه، هو الرفض الجذري لهذا العالم وقوانينه.

المراجع
  1. منظمة العفو الدولية: مسلخة سجن صيدنايا في سوريا
  2. حنة أرندت: أيخمان في القدس، تقرير حول تفاهة الشر
  3. زيجمونت باومان: الحداثة والهولوكوست