ماذا لو كان للأزهر دور رقابي على الخطاب الديني في مصر كدور السيد نقيب المهن الموسيقية في المنع والمنح؟

لم نسمع من فناني مصر وملحنيها و«طباليها» و«راقصيها» من يصف نقيبهم المحترم (وهو حقًّا رجل ذو خلق) بأنه يمارس الكهنوت الفني، وأن نوتاته الموسيقية ومعاييره المهنية القادمة من العصور الوسطى لم تعد تناسب زماننا. لماذا لم نسمع بناقد فني يحدثك عن ضرورة تجديد الخطاب الفني الذي لم يعد يناسب الزمان ولا المكان؟

كيف لم يخرج علينا صناديد الإعلام المصري ليوجهوا رسالة لنقيب المهن الموسيقية مفادها «تعبتنا يا حضرة الفنان»، فالتجديد والتطوير ضرورة من ضرورات الزمان، وأنتم لا زلتم تقفون عند الضوابط والقواعد مما تسبب في عزوف الشباب عنكم وتوجهه لهذا الفن الجميل الذي يخاطب الغرائز ويحقق عشرات ملايين المشاهدات.

لماذا لم يتكلم أحد مثقفي وزارة الثقافة ممن منعوا منتقبة من تسلمها لمهام عملها كمديرة لأحد قصور الثقافة! لماذا لم يخرج علينا هؤلاء ليحدثونا عن كهنوت هاني شاكر، وكيف أن ما قاله الأخ شاكوش هو وصف غنائي لما يكتبونه في رواياتهم الجنسية و«أدب السرير» الراقي؟

لماذا لم يخرج علينا مقاولو الإنتاج السينمائي ليعلنوا أنه من الظلم منع فنان شاب من مواصلة رحلة عطائه لشباب الأمة لأنه جسد بكلماته مشهدًا عابرًا من مشاهد السينما المصرية فيها بعض الخمور والحشيش؟

أخشى ما أخشاه أن نقيب الموسيقيين قد أخذته نوبة من الشجاعة الزائدة ليقوم وحده بدور أمة في التربية والتوجيه.

لن يمر وقت طويل حتى يوصف نقيب الموسيقيين ونقابته بأوصاف الكهنوت التي تمهد لسحب تلك الصلاحيات الهائلة الممنوحة له بموجب القانون، فليس لدينا ترف الوقت ولا الجهد الذي نوجه فيه الشباب نحو الفن الهادف أو غير الهادف، فلدينا كتل خراسانية تحتاج لمن يلفها بالطوب ويزين واجهاتها بالرخام وما شابه، تلك يا صديقي هي معركتنا الحقيقية، أما أن تمنع الشباب من سماع مهرجاناتهم وتعاطي أفيونتهم فتلك معارك من زمن فات!

كيف يجرؤ السيد هاني شاكر على مخاطبة منصات السوشيال ميديا لمنع عرض تلك المهرجانات، لعله ظن نفسه يعيش في القرون المظلمة، والعالم اليوم يسمح للناس بتناول المخدرات والمحرمات طالما كانت تلك رغبتهم وإرادتهم.

عودة لموضوع الأزهر ودوره في توجيه الشباب

كيف هو الحال لو كان للأزهر حقًّا سلطة منع وتهذيب وتوجيه، فيوكل إليه القانون ويوكل إليه المجتمع مهمة الانضباط العلمي والدعوي وشروط الصلاحية الخاصة بتلك المهنة المشرفة (مهنة الدعاة إلى الله)؟ ماذا لو كان للأزهر تلك السلطة التي يمنحها القانون النقابات المهنية وإصدار تراخيص العمل ومزاولة المهنة؟

سيفاجئك العلمانيون وأبواقهم والساسة وغلمانهم بأنك تريد أن تحول الأزهر لسلطة كهنوت تحلل وتحرم. فأرد عليهم بأننا في الأزهر أيضًا نخشى من مسايرة من يعلقون مشاكلهم على شماعة الدين، ويبحثون في تطوير ما لا يحتاج للتطوير، نخشى على الدين من مرتزقة جعلوه سلمًا لنيل رضا أولياء الأمر أيًّا كان توجههم، نخشى عليه أن يتحول لأداة تبرير كهنوتية للاستهلاك المحلي.

قبل أن تحاسب الأزهر وشيخه عما قدموه من تطوير للخطاب الديني فاسألهم أولًا ما هي صلاحياتهم في عملية التطوير المزعومة تلك، وهل أوكل لهم القانون سلطة ما ليحاسبهم الساسة والإعلاميون على آفة ما.

انتزعت الأوقاف وأملاكها من الأزهر الشريف منذ العهد الناصري وتسلمها وزير أوقاف قصارى مهمته هو القيام على شئون الوقف وصيانته، ليصبح لاحقًا هو المنفذ لتوجهات الدولة السياسية، ثم أصبح شغل هذه الوزارة الأول تعيين وإدارة المساجد وتأميمها بنفس العقلية الناصرية البغيضة، وهو ما يناقض الدستور المصري الذي نص على أن هذا هو دور الأزهر دون غيره، بل إنه يناقض اسم الوزارة نفسها فهي (وزارة الأوقاف).

لقد حدث مثل هذا الانهيار والانحدار في الذوق ومستوى الوعي في المجال الدعوي منذ عشرات السنين، ولكن الكثيرين لا يعرفون أن الدين تخصص وعلم له ضوابطه الشرعية، ولا يستطيعون التفريق بين «الدين» كعلم وبين «التدين» كسلوك، فالأول منظومة علمية أخلاقية منضبطة بالتعريف القانوني والإجرائي المعتبر، والثاني هو محض سلوك ذاتي فردي ليس له أي ضابط أو رابط سوى مسايرة الجو العام ومعرفة من أين تؤكل الكتف ومعرفة ما يطلبه المستمعون، وما يطلبه أولو الأمر حسب أجنداتهم الحزبية ومصالحهم الآنية.

العجيب بعد كل هذا أن تجد من يُحمِّل الأزهر المسئولية ويوجه إليه أصابع الاتهام بتحمل تبعات أمر لم يكن له فيه جمل ولا ناقة.

المتحدثون باسم الدين ليس لهم نقابة مهنية كسائر النقابات التي يمنحها القانون ولوائحه التنفيذية سلطة الرقابة والمحاسبة والمنح والمنع لرخص مزاولة المهنة.

لا بأس إذًا أن يخرج علينا أحد النابهين فيخترع حديثًا مكذوبًا يرويه بالسند المتصل إلى جبريل أمين الوحي في فضائل مصر المحروسة، لا حرج عليه طالما أنه يطعم الناس ذلك النوع الجميل من الأفيون، وطالما أنك تحض الناس على طاعة ولي الأمر فأنت أهل لتصدر لك تراخيص الخطابة ولو كنت ترى في تهنئة النصارى بأعيادهم كفرًا بواحًا وشركًا صراحًا، وطالما أنك تحض الناس على الصبر على المكاره والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله حتى لا نكون كسوريا والعراق فأنت أهل للخطابة في أكبر مساجد مصر وعلى منابر موالدها العامرة، ولو كانت مؤهلاتك في علوم الدين لا تتجاوز معرفة كيفية الاستنجاء والوضوء، لا بأس أن نمنح من يعتقد أن الأزهر ومنهجه شرك وضلال مبين أن نمنحه تصاريح خطابة مفتوحة طالما أنه سيقوم بالواجب الوطني الذي تقاعس عنه إمامنا الأكبر حين رفض تكفير الدواعش وإعلان حرمانهم من دخول رحمة الله، ورفضه تطهير الأزهر من بقايا فلول الإخوان.

لا يغيب عنا ما يحصل في موالد الصوفية من منكرات يندى لها جبين الحر، ولكن تلك الموالد التي ارتبطت في أذهان المصريين بجملة من المنكرات والفواحش لا يجوز لنا وقفها لأنها تجمع لملايين من المصريين الذين يسهل توجيههم لما نحب وقتما نحب، وإلا فما هي مؤهلات مشايخ الطرق الصوفية سوى جملة من المناصب السياسية التي تجعلهم مغناطيسًا يجذب الناخبين ويحشد العامة والدهماء في كل استحقاق انتخابي.

ختامًا

أرى أن حملة الرجل الخلوق (هاني شاكر) ستساهم أكثر مما يعتقده الكثيرون في تعميق هذا اللون الجديد من الفن العشوائي، وليس ذلك إلا لأن العشوائية في مصر صارت أساسًا (بلغت نسبة العشوائيات السكنية في كثير من محافظات مصر ما يجاوز 60% بقليل) ، فنحن ولله الحمد بلد قد وضع للعشوائية نظامًا! حتى أن من يعملون في أي مجال (من مقاولات أو تجارة أو زراعة أو تعليم أو صحة) يعلمون كيف يكون (النظام) ولا تعني الكلمة أكثر من تلك اللوائح العرفية غير المكتوبة التي تنظم لنا تلك الحالة من العشوائية المرتبة، بل أكاد أجزم لك يا صديقي أن أصحاب المهن المختلفة لا يعرفون عن لوائحهم وقوانينهم إلا كمعرفتهم بدستور بلدهم الذي تم حشدهم يومًا ما للتصويت عليه وليس منهم من قرأه أو فهمه.

أراهن أن هذه الحملة النبيلة ضد المهرجانات سوف تزيد هذا العبث ترسخًا، فليس الفن استثناء يا صديقي من بحر العشوائية الذي غرقت فيه مصر، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.