منذ صنع المخرج الروماني كريستيان مونجيو فيلمه الشهير (4 أشهر، ثلاثة أسابيع ويومان) في عام 2008 وأصبحت فكرة قمع أجساد النساء والتحكم بها والجدال الدائم حول حق الاختيار مقابل حق الحياة تمثل مجازًا متكررًا للتحكم المنظم في الأجساد عمومًا وأجساد النساء خصوصًا وطبيعة النظم القمعية بشكل عام.

كيف تتوغل السلطة حتى تصل إلى أكثر المواضع حميمية في الجسد؟ تفرض عليها الرقابة والعقوبات، وتعرضها لأخطار دائمة لأهداف متعددة، بعضها دينية وبعضها أخلاقية، بل من الممكن كما هو الحال في رومانيا الثمانينيات التي يصورها مونجيو في فيلمه أن تكون الأسباب قومية متعلقة بزيادة عدد السكان، وهو ما تناقضه طبيعة النظام في الصين على سبيل المثال والتي تسعى لتقليل عدد السكان بأكثر الوسائل عنفًا مثل التعقيم الجبري أو فرض العقوبات على إنجاب الأطفال.

ربما يبدو ذلك ديستوبيا أو منتميًا لماضٍ لم يعد موجودًا، لكن موضوع الحق في الإجهاض أكثر تعقيدًا من أن ينتهي الجدل عنه بسهولة، تعقيدات دينية وأخلاقية واجتماعية، لكن ما يجعلها مادة مناسبة لمناقشة كيف تسيطر الأنظمة ذات الطابع الأبوي على الفئات المستضعفة هي العواقب المختلفة التي تقابل الرجال على عكس النساء والطبيعة الاختراقية للأنظمة الفاشية، عندما صدر فيلم مونجيو أثار جدلاً كبيرًا نظرًا لموضوعه الحساس وطريقته المباشرة والصادمة في تناوله، لكنه أيضًا فتح المجال أمام السينما لمناقشته، بل إنه غير بعض القواعد التي تتعامل بها المؤسسات الأمريكية مع الأفلام مثل اختيار أفلام ذات طبيعة جريئة لجائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار.

مشهد من فيلم «4months, 3 weeks and 2 days»

في عام 2021 صدر فيلم «حدث» Happening للمخرجة أودري ديوان وتقع أحداثه في ستينيات فرنسا حيث هناك قانون صارم يجرم الإجهاض، حصد الفيلم الأسد الذهبي وهي أكبر جائزة في مهرجان فينيسيا السينمائي، وعرض ضمن مهرجان الجونة السينمائي في مصر ثم على نطاق أوسع في وسط القاهرة ضمن برنامج بانوراما الفيلم الأوروبي، اقتبست ديوان الفيلم من مذكرات آني إيرنو التي تحكي رحلتها في محاولة النجاة من حمل غير مخطط له أثناء دراستها في الجامعة، يتناول «حدث» موضوعه بوضوح وطبيعية وقسوة تجعل منه تجربة مشاهدة صعبة ربما لن تستطيع أن تستكمله بعينيك الاثنتين مفتوحتين، فما هو مكانه بين الأفلام التي تناولت الموضوع نفسه؟ وهل أصبح ذلك نوعًا في حد ذاته؟

الوحدة والمؤازرة النسائية

يعتمد «حدث» في أسلوب سرد قصته على تتبع الشخصية الرئيسية آن (آناماريا فارتولومي)، تتبعها الكاميرا أينما ذهبت وتجعل وجهة نظرنا هي وجهة نظرها، ترينا عن قرب وجهها وعينيها التي تحمل بعيدًا عن جمالها الواضح مزيجًا بين البراءة والنضوج.

يبدأ الفيلم بتعريفنا على طبيعة شخصية آن، فتاة جامعية متميزة دراسيًا، ذكية تهوى القراءة وتدرس الأدب، لكنها ذات أسلوب حياة تحرري تحب الاحتفال والاستكشاف مثل أي فتاة في عمرها، لكنها تملك صديقات أكثر حرصًا منها وربما أكثر خوفًا من العواقب التي يمكن مواجهتها إذا تحولت المتعة إلى كارثة، يعزز أسلوب التكثيف والتتبع هذا من توحدنا مع شخصية آن وتفهم دوافعها ومعاناتها لكنه أيضًا يرسخ وحدة تجربتها وذاتيتها الشديدة، تمر آن بكل ما تمر به وحيدة تمامًا إلا من مساعدات متأخرة بعد عناء، فتاة لم تتخطّ العشرين يجب أن تجد حلًا لا يؤدي بها إلى السجن بعدما حملت عن طريق الخطأ من أحد الشباب الذي سيكمل حياته وكأن شيئًا لم يكن.

مشهد من فيلم Happening

تفصل تلك الوحدة فيلم حدث عن سابقيه مثل 4 شهور، 3 أسابيع ويومين والفيلم الأمريكي المتميز أبدًا، نادرًا، أحيانًا، دائمًا 2020 (Never, Rarely, Sometimes, Always) ، كلا الفيلمين يميل نحو حكي قصة تدمج النقد السياسي بطبيعة الصداقات النسائية والمؤازرة التي تجعل النساء تتخطى مواقف من أصعب ما يكون دون دعم إلا من صديقة مقربة تتفهم تمامًا ماذا يعني أن تعيش في ذلك الجسد، وتضع نفسها بسهولة مكان الأخرى.

حتى أن فيلم 4 شهور يحكي في الأساس قصة الصديقة وليست الفتاة صاحبة الأزمة الرئيسية وتميز صورتها ملصقاته الدعائية، كذلك فيلم أبدًا، نادرًا الذي يصنع قصة عن الصداقة بين فتاتين مراهقتين يمضيان رحلة للوصول إلى ولاية أمريكية تسمح بإجراء عملية مقننة، في «حدث» تتخلى صديقات آن عنها خوفًا من السجن ويتخلى الشاب الذي يشاركها الحدث تهربًا من المسئولية، تصبح قصتها أكثر ثقلاً ورعبًا بسبب عنصر الوحدة وغياب الصحبة، تمر بمواقف داعمة من حين لآخر لكنها غير كافية للتخفيف من وقع الحادث، يدرك الفيلم وتدرك ديوان طبيعة ذلك الرعب فتصوره على أنه كذلك.

رعب الجسد

لقد أصابني ذلك المرض الذي يصيب النساء فقط ويحولهن إلى ربات بيوت.

يعمل «حدث» كفيلم رعب بجانب كونه دراما دراسة شخصية، يصنع من حدث حقيقي يمكن حدوثه مشاهد منفرة ومرعبة، محاولات آن في التخلص من جنينها وحدها أو بمساعدة طبيبة غير رسمية تشبه أفلام رعب الجسد يصعب النظر إليها، عادة ما تهتم أفلام الرعب تلك بعناصر مثل التشويه والتعذيب أو الأمراض الغرائبية أو تدفع بالجسد البشري إلى أقصى حدوده وتختبر قدراته التحولية، يجعل ذلك طبيعة الفيلم ثنائية فمن جانب هو نقد واضح للسيطرة على أجساد النساء وتعريضهن لمخاطر العمليات تحت الأرضية المميتة، لكنه أيضًا يصلح كقصة تحذيرية من التعرض لما تعرضت له آن في بلد وزمن غير آمنين، لكن ألا يعتبر حدث الولادة نفسه مادة خصبة لرعب الجسد؟

ما يجعله غير ذلك فقط هو الرغبة في حدوثه والحب الذي يصاحبه، يمكن رؤية ثقل تلك المشاهد كوسيلة للتعاطف مع آن أو جنينها، فالفيلم والأفلام التي تناولت الموضوع نفسه من قبل لا تستخف بتراجيدية فقد جنين لن يتسنى له أبدًا أن يحظى بمستقبل ولن تستطيع أمه أن تكون أمًا.

ترى آن أن الحمل غير المرغوب فيه واضطرارها إلى تحمل مسئولية سوف تغير حياتها إلى الأبد هو مرض، ومثل جميع الأمراض مؤلم ومروع ويتطلب علاجه معاناة كبرى، لكنه محاط بكل أشكال الأحكام الأخلاقية والجدالات، لكنه بالنسبة للطرف الآخر حدث عابر لن يتغير بعده شيء، لن يترك بسببه الجامعة أو يتخلى عن حلمه بالكتابة، لن يجبر على أن يصبح أبا وهو في التاسعة عشر، ربما يفسر ذلك ترجمة الفيلم من الفرنسية المعرفة الحدث L’evenement إلى الإنجليزية النكرة حدث Happening، فعلى الرغم من بساطة وتفاهة حدث مثل وقوع علاقة بين شاب وشابة جامعيين في ستينيات فرنسا فإن الحياة تتغير بشكل جذري بالنسبة لطرف بينما يظل الأمر مجرد حدث بالنسبة للآخر.

أحداث مستمرة

تقع أحداث الفيلم في أيام قليلة تؤدي إلى ذروة مروعة تمكن بطلته من حمل هموم أخرى أكثر ملاءمة لعمرها وطبيعة حياتها مثل القلق بشأن الامتحانات مثلاً بعد المرور بتجربة صادمة، تدور تلك الأيام في عام 1963، لكن ديوان لا تحمل هم صناعة التفاصيل التي تجعل من الفيلم دراما فترة Period Drama، تظهر الفترة التاريخية بشكل سلس وبدون مجهود أو مبالغات في الملابس وتسريحات الشعر، وتختار كذلك أسلوب تصوير محكم ومقيد، أبعاد شاشة مربعة ضيقة ومشاهد مقربة، يندر أن نرى مشهدًا واسعًا أو لقطة بعيدة، كل لقطة على الرغم من جمال الإضاءة وتصميم المناظر تمثل إطارًا خانقًا على بطلته وعلينا، لا يسمح لنا بالتنفس إلا برؤية سواد الشاشة بعد النهاية.

مشهد من فيلم Happening

تساعد الخيارات الإخراجية مثل عدم التحديد البصري الصارم للفترة الزمنية في جعل الفيلم ملائمًا لأي زمان وأي مكان، يمكن التعامل معه على أنه دراما معاصرة أو قطعة من التاريخ، لكن موضوعاته لا تصبح أبدًا جزءًا من الماضي، ليس من المرجح في أي وقت قريب أن تصبح الأجساد تحت سيطرة مالكيها أو أن ينتهي خوف النساء من تحمل عواقب أصغر الأفعال بينما تمر الأحداث كأن لم تكن على الآخرين، يعزز أسلوب ديوان من عالمية وصلاحية فيلمها لكل الأزمنة لكنه أيضًا يخصص حالة بطلته إلى أبعد حد، فتصبح تجربة فردية تمامًا وكونية في الوقت ذاته.

فيلم «حدث» تصعب مشاهدته وربما ينفر بعض المشاهدين منه أو يجعله مكروهًا، لكن صراحته وعدم مساومته في تناوله لموضوعه رغم حساسيته هو ما يجعله إضافة مهمة لما أصبح أشبه بالنوع الفيلمي الذي يربط حق التصرف في الجسد بطبيعة الأنظمة القمعية.