يقول الفيلسوف والاجتماعي الفرنسي «بيير بورديو» إن:

ذروة التمكن هو أن تكون قادرًا على الانخراط في قضايا تُسمّى «نظرية» حول موضوعات تُسمّى «تجريبية»، محددة جدًا، وغالبا ما تبدو بسيطة جدًا، بل ربما تبدو سخيفة كذلك.

ربما لهذا تحديدًا سنخوض تلك التجربة، محاولة استكشاف ثقافة وأنثروبولجيا «الحب» في مصر، ما هي السياقات التي انتشرت فيها ظاهرة الاحتفال بعيد الحب في مصر، وما دلالات ذلك اجتماعيًا وثقافيًا، وأود أن أشير هنا إلى دراسة «عيد الحب في مصر» لصامولي شيلكه، الصادرة عن مكتبة الإسكندرية، والتي ترجمها إلي العربية عومرية سلطان، وعليها اعتمدنا في أغلب المعلومات التي تسردها السطور التالية.


الفالانتين: رحلة من شوارع روما إلى حدائق القاهرة

ليس ثمة يقين حول الأصل التاريخي لعيد الحب في الثقافة الغربية، لكن الحقبة الرومانية قد حفلت بالكثير من الشهداء الذين يحملون اسم «فالانتين» وتدور الأسطورة المتداولة بشكل واسع هذه الأيام، أن قديسًا يُدعي فالانتين، قد خالف أوامر الإمبراطور الروماني «كلوديوس الثاني» الذي كان يرفض تزويج الشباب رغبة منه في الاحتفاظ بهم كمقاتلين متفرغين لخدمة جيشه، لكن القديس فالانتين قد خالف الأوامر، وقام بتزوج عاشقين سرًا، فكان مصيرة السجن حتى مات فى محبسه.

وإن تكن الرواية السابقة غير مؤكدة، وتتنازعها أساطير وحكايات أخرى حول سبب المنشأ، فقد لعب الشاعر الإنجليزي «شوسر» وأتباعه دورًا في الربط بين فالانتين وأشعار الحب الذي كان يلقيها، وفي أوائل القرن الخامس عشر حدث أن تم ابتداع تقليد كتابة الأشعار للمحبوب علي طريقة عيد الحب في باريس، وقد عارضت الكنيسة الكاثوليكية الموضوع في بداية الأمر إكرامًا لذكرى الشهداء المدعوين باسم فالانتين، لكن تقاليد كتابة الأشعار للمحبوب قد كانت قد استقرت بين البرجوازية المدنية ومنها إلى الأرياف.

ومع اعتماد تجارة المطبوعات في نهاية القرن الثامن عشر حيث انتشرت المطبوعات الصغيرة المزينة برسم وقصيدة ومعنونة بكلمة فالانتين valentine التي كانت تهدى إلى الحبيب، أو أفراد العائلة والأطفال، وفي النهاية انتشر الاحتفال بهذا اليوم بين المحبوبين في كل مكان تقريبًا على وجه الأرض، ولم تكن مصر استثناء من ذلك.

في مصر يوجد عيدان للحب، أولهما، يقع في الرابع عشر من فبراير كل عام، وهو اليوم المتفق عليه عالميًا Valentine s day، أما العيد الثاني، فيقع تاريخه في الرابع من شهر نوفمبر، تبعًا لمبادرة أطلقها الصحفي مصطفى أمين في الثمانينيات، كان غرضه منها «تعزيز التكافل الاجتماعي والمحبة داخل الأسرة باسم الحب»، لكن الأمر يختلط على الكثيرين، وإن كان التاريخ الأول هو الأكثر شيوعًا وانتشارًا، كما أن طقوس اليومين هي متماثلة تمامًا على مستوى الممارسة العملية، هي علامات دالة على «الحب الرومانسي» : التجوال على الكورنيش، الذهاب إلى المطاعم، إهداء زهرة أو زجاجة عطر للحبيب، أو دببة حمراء اللون مصنعة من القماش المخملي، أو غيرها من السلع الاستهلاكية ذات الطابع الرومانسي، أو حضور حفلة لفنان له شعبية كمحمد منير مثلاً.

تشيع تلك التقاليد بين الشباب غير المتزوجين بشكل أساسي، المخطوبين أو غير المرتبطين بميثاق رسمي، لكنها تنتشر بدرجة أقل بين الأزواج كطريقة للتعبير عن استمرار الحب النقي وكسر روتين الحياة، كما أن طقوس الفالانتين تلك تنتشر في المناطق الغنية والفقيرة على حد سواء.


الانتقادات الموجهة لعيد الحب، والردود عليها

ثمة ثلاثة مستويات من الانتقادات الموجهة لمسألة الاحتفال بعيد الحب في السياق المصري، المستوى الديني والمستوى القومي والمستوى المتعلق برفض السلوك الاستهلاكي المرتبط بطقوس الاحتفال.

دينيا: يتم التأكيد دومًا على اقتصار الأعياد في الإسلام على عيدي الفطر والأضحى، ويتم إدانة عيد الحب بوصفه بدعة، كما يتم التركيز علي أصوله المسيحية، كما تتركز بعض الانتقادات علي العيد بوصفة تشجيعًا على الانحلال الأخلاقي.

على المستوى القومي: تتم إدانة عملية استيراد عيد أجنبي، كما يتم التحسر على الأخلاق النقية الصارمة التي كان يتمتع بها السكان، «دي مش أخلاق صعايدة»، كما أن بعض المناهضين للنزعة الاستهلاكية يتم إدانة التباهي بالإسراف «الفشخرة » المرتبطة بطقوس ذلك اليوم.

لكن ثمة ردودًا ما لدى من يحافظون على الاحتفال بالفالانتين، فإن يكن عيدًا مستوردًا، فما دام يعبر عن عاطفة لطيفة فلا يضير الاحتفال به،إسلاميًا كان أو مسيحيًا أو هندوسيًا، قد يتم كذلك الإشارة إلى «الفالانتين الوطني» كوسيلة للدفاع عن الاتهامات بشأن استيراد تقاليد أجنبية.

وفيما تبدو كمحاولة لتبرئة مشاعر الحب من الاتهامات التي قد تطالها بأنها قنوات تؤدي إلى علاقات محرمة، قد تتم الإشارة إلى اختيار «الدببة القطنية» كهدية متعارف عليها لما تتضمنه من دلالات طفولية تشي ببراءة صاحبها، كل هذا فضلاً بالطبع عن التنويه بأن الاحتفال ليس مقصورًا على «الحبيبة» غير المرتبطين، فالخطبة تعد إطارًا شرعيًا للتعبير عن الحب الرومانسي، وعيد الحب يتم الاحتفال به بشكل واسع بين المخطوبين وبدرجة أقل بين الأزواج.


سياق الحب في مصر

إن يكن استحضار روح العاشق المتغزل شائعًا منذ القدم في الشعر والأدب العربي، فإن «صامولي شيلكه» يتخذ من سنوات العشرينات بداية لقراءته في سياق الحب في مصر الحديثة، ففي تلك الفترة بدأت مسيرة أم كلثوم وعبد الوهاب، وحفلت السينما المصرية التي كانت للتو في مهدها بمساحات واسعة من قصص الحب.

كانت هذه الفترة هي بداية عملية «التحديث العاطفي» على حد وصف شيلكه، حيث الأسرة النووية التي تسود فيها مشاعر الحب بين الزوج وزوجته والوحيدة مع أطفالهما، كانت السينما تحفل بالحكايات التي تتناول إشكالية اختيار الزوج، هل هي حق أصيل للوالدين أم للشباب، أما قصص الحب التي يتم تحويلها لمعاناة وخيبة أمل فكان يتم استحضارها بشكل أوسع في الأغاني.

كانت العناصر الأساسية لمرجعية التحضر حينئذ تجمع بين التعليم والصعود الاجتماعي ومشاعر الحب، حيث صار الأخير جزءًا من الحياة المدينية ونموذجًا مرتبطًا بالطبقات الوسطى المتعلمة. ومع إعادة اتساع فجوة الثروة في عصر السادات بشكل أدى لزيادة الضغوط، ومع سنوات الدراسة الطويلة للشباب التي لم تعد تؤمن مستقبلاً مضمونًا للعيش كما مضى، ومطالبات الأهالي المتنامية بشأن المهور وشروط الزواج من ناحية أخرى، فضلاً عن دخول المجتمع في مرحلة «أسلمة» على كافة الأصعدة، فقد عادت الرقابة على الأخلاق سيما المرتبطة بمسائل الحب والعزوبية والزواج لتمثل موضوعًا رئيسيًا للنقاش في الفضاء العمومي.

في السياق المعاصر، فإن ظروف الممارسة العملية المتعلقة بالشعور العاطفي قد تغيرت، توسع جمهوري المثاليات الرومانسية أكثر من أي وقت مضى، صار هناك عدد أقل من الشباب الذين يتزوجون قبل الحصول على شهاداتهم، ومع التوسع في مساحات العلاقات الاجتماعية وزيادة مساحات الاختلاط بين الجنسين، وانتشار وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف النقال والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وبرامج المحادثات، بشكل جعل من الرقابة الأسرية أمرًا أكثر صعوبة، في ظل المعطيات السابقة، يمكن تفسير توسع هوامش الاستقلالية وانتشار علاقات الحب والغرام على مستوى واسع بين الشباب.

وإن تكن ثمة محاذير معينة نشأت على الجانب الآخر، كالمعاكسة، والتحرش، والإغواء الرومانسي الذي قد ينتهي بإقامة علاقات جنسية تحت غطاء وعد بالزواج في كثير من الأحيان.


الدلالات الثقافية والاجتماعية لانتشار الاحتفال بالفالانتين

640px-Church_of_Saint_Valentine_in_Woźniki_Slaskie_polychrome_2
640px-Church_of_Saint_Valentine_in_Woźniki_Slaskie_polychrome_2

إذا كان شعور الحب بخصائصه النفسية والبيولوجية، والتعبير عن هذا الشعور، ليسا بالأمر الجديد تمامًا، فإن شيلكه يلاحظ في دراسته أن انتشار هذا التعبير في شكل الاحتفال بعيد الحب قد تزامن مع استقطاب اجتماعي متنامٍ، إذ فقدت الطبقة الوسطى مكانتها لرائد لمشروع التحديث – بسبب انخفاض قدرة القطاع العمومي على تنمية الطلب المتزايد كمًا وكيفًا من أبناء تلك الطبقة – وأصبح التعليم شيئًا فشيئًا أمرًا أقل أهمية في مسيرة الصعود الاجتماعي والتطلعات المستقبلية، وبالتالي كان من الطبيعي أن تفقد تلك الطبقة هيمنتها الثقافية في المجتمع، سيما مع انتشار وسائل الإعلام والفواعل المؤثرين الذين ينتمون إلى القطاع الخاص.

مع هذا الفراغ والإحساس بالضياع وفقدان القيمة، توجه أبناء هذا الطبقة – كما يرى ليشكيه – نحو السعي لامتلاك «رأسمال ثقافي كوزموبوليتاني»، ويشار هنا إلى تفرقة ييير بورديو بين أنواع الرأسمال، فهناك الرأسمال المالي الذي يملكه الأفراد، والرأسمال الاجتماعي متمثلاً في شبكة علاقاتهم، ورأسمالهم الثقافي الذي يعبر عن التعارفات التي تمكنهم من الاندماج في الفضاءات المختلفة، كما رأس المال الرمزي المتمثل في مكانة الأفراد وسط التسلسلات الهرمية لمجتمع ما،وهذه الأنواع تتلازم وتتبادل مع بعضها البعض بحيث إن امتلاك بعضها قد يصل بالبعض إلى امتلاك الأخرى.

إن استحضار وتمثّل هذا الرأس مال الثقافي العالمي برأي –شيلكيه- ينمي قدرة الفاعلين على التفاعل مع ممثلين من الجنس الآخر في سياقات أماكن العمل أو المقاهي دون أن يؤثر ذلك علي احترام النساء الحاضرات، أو اختزال التبادل مع الآخر إلي محض لعبة غواية أو استيلاء، ثمة مظاهر أخرى للتماهي مع رأس المال كما في زيادة شعبية المجمعات التجارية الفخمة، وظهور فضاءات المقاهي المختلطة في أحياء المدينة، لقد استفاد عيد الحب من هذه الوضعية، ليكتسب موضع قدم له في مصر ويفعل ذلك خارج الأوساط التقليدية للأثرياء.

يمكن اعتبار أيضا أن ثمة علاقة متبادلة بين الحب والتعليم والتعبير عن الذات في سياق الإصلاحية التحديثية الجارية في مصر، فالعاطفة هنا ذات طابع وظيفي فرداني وجمعي معا، فالفرد يستخدم الحب في سعيه نحو الاكتمال العاطفي، كما أن الحب يعزز أواصر الترابط بين الأفراد وهو ما يؤدي بالنهاية إلى زيادة تماسك الجماعة، وإن بقي التساؤل مفتوحًا حول الكيفية الغامضة التي قد ينتقل بها المرء بين الحماسة تجاه الوطن أو حب الله -القومية أو الدين- إلى المشاعر الموجهة تجاه الحبيب.