هن المسئولات عما يحدث لهن من مضايقات، إن كن يرتدين زيًا محتشمًا لما تجرأ أحد على التحرش بهن.

هكذا يربط كثير من الناس في وطننا العربي بين التحرش ولباس المرأة، إذ يجعلون ما ترتديه المرأة شماعة يعلقون عليها ما لحق بالمجتمعات العربية من فساد أخلاقي كبير. ما قد يدحض ذلك الادعاء هو تفاقم ظاهرة التحرش في مجتمعٍ «محافظ» كالمجتمع السعودي، تلتزم فيه النساء بالعباءة أو النقاب، لكنه لم يكن بالرغم من ذلك في منأى عن تلك الظاهرة.

لعل غياب قانون صارم يردع كل من تسول له نفسه التعرض لامرأة كان عاملًا محوريًا في تزايد معدلات التحرش في المملكة. فلطالما طالب الكثيرون من الحقوقيين والنشطاء السعوديين بضرورة سن قانون لمكافحة التحرش من شأنه تطبيق عقوبات صارمة على المتحرشين.

كانت المحاولة الأولى منذ عام 2008، حين شرع مجلس الشورى السعودي في دراسة القانون، لكنه وبدون أي أسباب تم سحبه من جدول الأعمال بعد مرور عام. ظل القانون حبيس الأدراج عقدًا من الزمان حتى خرج إلى النور مرة أخرى، حين وافق عليه مجلس الشورى بأغلبية 84 صوتًا يوم الاثنين الموافق 28 مايو/آيار 2018، وأقره مجلس الوزراء برئاسة الملك سلمان بن عبد العزيز يوم الثلاثاء 29 مايو/آيار.

جاء ذلك القانون تماشيًا مع المكتسبات التي حظيت بها المرأة السعودية مؤخرًا، فقد شهد العام الحالي تطورات لصالح المرأة أثارت جدلاً مُوسعًا. إذ سُمح لها بقيادة السيارة ودخول الملاعب لاعبة ومشجعة، وارتياد دور السينما بعد أن كان محظورًا عليهن فعل ذلك.

وقبل التطرق إلى النظام الجديد والتعرف على حالة الجدل التي اجتاحت المجتمع السعودي على إثره، يجدر بنا الإشارة إلى أرقام ونسب التحرش في المملكة، وبعض الحوادث التي اشتهرت على مواقع التواصل الاجتماعي وساهمت بشكل أو بآخر في إصدار نظام مكافحة التحرش.


الأرقام تتحدث

على الرغم من عدم توافر أرقام حديثة تشير بدقة إلى نسبة التحرش ومعدله في السعودية في الوقت الراهن، فإن هناك دراسات أعدتها مراكز بحثية ونسب صادرة عن وزارة العدل حديثة نسبيًّا قد تفيدنا في التعرف على معدل التحرش في المتوسط.

فوفق دراسة أعدتها وكالة رويترز العالمية عن التحرش الجنسي عام 2012، احتلت السعودية المرتبة الثالثة من بين 24 دولة في قضايا التحرش داخل العمل. حيث صرحت 16% من النساء بتعرضهن للتحرش من قبل رؤسائهن داخل العمل، في مقابل 3% في ألمانيا و3% في السويد و6% في إسبانيا.

بينما أظهرت دراسة أعدتها الباحثة السعودية «نورة الزهراني» عن التحرش الجنسي بالنساء، أن 78% من السيدات المبحوثات تعرضن لتحرش جنسي مباشر، بينما أكدت 92% من النساء أن معدل التحرش الجنسي في تزايد.

فيما بيّنت دراسة ميدانية حديثة أعدها مركز «البحث العالمي» -مركز كندي مختص في البحث والاستطلاع في القضايا الاجتماعية- أن نسبة التحرش في السعودية وصلت إلى 11.4% في عام 2016، إذ اختير 15 ألفًا من السعوديات للاستقصاء، وأشارت الدراسة إلى أن 37% منهن تعرضن للتحرش اللفظي، بينما تعرضت 34% للتحرش بالنظرات، و36% لمحاولة «الترقيم» أي إعطاء المتحرش رقم هاتفه للضحية، وتعرض 25% منهن للمس أجزاء من الجسد.

بيد أن التحرش الجنسي في المملكة لم ينل النساء فحسب، بل الأطفال كذلك، إذ كشف دكتور «أحمد البوعلي»، المدير التنفيذي لمركز جلوي بن عبد العزيز بن مساعد لتنمية الطفل،أن نسبة التحرش الجنسي بالأطفال في المملكة تبلغ 22.5%.

ووفق ما كشفه المؤشر الإحصائي لوزارة العدل السعودية عام 2014، فإن المحاكم الجزائية استقبلت 3982 قضية تحرش وإيذاء للنساء واستدراج الحدث، بمعدل يومي بلغ 6 حالات تحرش،جاءت الرياض على رأس مناطق المملكة من حيث قضايا التحرش، إذ وصل عدد القضايا المسجلة لدى المحاكم لـ 1199 قضية، تليها مكة المكرمة بـ 494 قضية، ثم الشرقية بـ 335 قضية، ثم المدينة المنورة بـ 275 قضية.


مواقع التواصل تفضح الظاهرة

ظلت حوادث التحرش في السعودية من الأمور المسكوت عنها لفترة طويلة من الزمان، أو بمعنى أدق من الأمور المحظور على الإعلام إثارتها، إلى أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي لتثير الحقائق حول تلك الظاهرة، وما تعانيه النساء من مضايقات لفظية وجسدية، وذلك عبر تداول مقاطع فيديو لحوادث تحرش فردية وجماعية.

ففي مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي ظهرت فتاة تتعرض إلى تحرش ومضايقات وتصرفات غير لائقة من قبل شابين في مدينة الطائف، يُذكر أن تلك الفتاة لم تتقدم هي ولا ذووها بأي بلاغ عن الواقعة، شأنها شأن الكثيرات غيرها ممن يؤثرن الصمت في تلك الحالات خوفًا من «الفضيحة».

في حادثة أخرى وثّقها أحد الشباب في مقطع فيديو تداوله رواد التواصل الاجتماعي، ظهرت ملاحقة مجموعة من الشباب لفتيات في منتجع درة العروس، شمالي جدة. حيث بدأت المضايقات والتصرفات اللا أخلاقية من داخل المركز التجاري الموجود في المنتجع، ومن ثَمَّ تطورت الأحداث خارج المركز، سُمع في الفيديو صرخات الفتيات وهن يهربن بعيدًا عن المتحرشين، الأمر الذي أثار ضجة حينها واستنكارًا شديدًا من قبل السعوديين .

https://www.youtube.com/watch?v=39-wBI2Owg4

ومؤخرًا في المنطقة الشرقية أمام مجمع الظهران التجاري وقعت حادثة تحرش شهيرة تداولها السعوديون عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ قام مجموعة من المتحرشين بضرب الفتيات بعد قيامهن بالدفاع عن أنفسهن، كانت الحادثة في وضح النهار وأمام أحد الأماكن الشهيرة، الأمر الذي أثار حينها تساؤلات عن مدى فعالية دور الأجهزة الأمنية في الحد من تلك الحوادث.


جدل مُوسع حول القانون

جاء نظام مكافحة التحرش في محاولة للحد من تلك الظاهرة، واضعًا في مادته الأولى تعريفًا للتحرش على أنه:

كل قول أو فعل أو إشارة ذات مدلول جنسي تصدر من شخص تجاه أي شخص آخر يمس جسده أو عرضه أو يخدش حياءه بأي وسيلة كانت، بما في ذلك التقنية الحديثة.

وشدد النظام على تغليظ العقوبة، إذا وقعت في أماكن الحوادث أو العمل، كما نص على:

الحبس لمدة عامين وغرامة تقدر بمائة ألف ريال سعودي، أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من ارتكب جريمة التحرش دون الإخلال بأي عقوبة أشد تقرر عليها أحكام الشريعة الإسلامية أو عقوبة أشد ينص عليها نظام آخر.

وفي حالات «التحرش ضد طفل أو شخص من ذي الاحتياجات الخاصة، أو إذا كان للجاني سلطة مباشرة على المجني عليه، أو إذا وقعت الجريمة في مكان عمل أو دراسة أو إيواء أو رعاية، أو إذا كان الجاني والمجني من جنس واحد، وإذا كان المجني عليه فاقدًا للوعي، وكذلك إذا وقعت الجريمة في وقت أزمات أو كوارث أو حوادث»، فإن العقوبة تُغلظ لتصل إلى السجن لمدة خمسة أعوام وغرامة تقدر بـ 300 ألف ريال.

لاقى النظام الجديد جدلاً وردود أفعال واسعة في الشارع السعودي، سواء من المواطنين العاديين أو الكُتاب أو القانونيين؛ فبينما أثنى كُتَّاب سعوديون على هذا القانون ورأوا فيه حماية للمرأة السعودية وتدشينًا لمرحلة اجتماعية جديدة تستطيع فيها المرأة الخروج إلى الشارع والعمل في أمان، رأى آخرون أن القانون بحاجة إلى التريث وإضافة تفصيلات جديدة، حتى لا يحدث أي التباس في تطبيق العقوبات. إذ يقول الكاتب «عبده خال» في صحيفة عكاظ:

إن مواد القانون ستُدخل ثلاثة أرباع البلد إلى السجون، وذلك بسبب التباس بعض المواد وعدم انجلائها.

في حين اعتبرت عضو مجلس الشورى الدكتورة «لطيفة الشعلان» أن النظام إضافة كبيرة ومهمة لتاريخ الأنظمة في المملكة، لكنها رأت أنه أغفل إدراج مادة مهمة عن الآلية المحددة للتبليغ عن التحرش، وتعجبت من عدم ملاحظة ذلك من قبل اللجنة المختصة التي درست المشروع.

كذلك طالب المحامي والمستشار القانوني «خالد بن فهد العيسى» بضرورة إصدار لائحة تفسيرية لنظام مكافحة التحرش، للحد من وقوع أي التباس في فهم المواد، مستندًا في ذلك إلى حالة الجدل الثائر بين أوساط القانونيين والحقوقيين حول تعابير الوجه «الإيموجي»، إثر الإعلان عن نظام مكافحة التحرش؛ إذ اعتبر بعض القانونيين أن تلك التعابير ذات مدلول وإيحاء جنسي، ومن ثم فإن إرسالها يندرج تحت تعريف التحرش ويستوجب العقوبة، بينما رفض البعض الآخر ذلك التفسير واعتبروه «توسعًا في التجريم».

فيما ذهب آلاف المغردين من المواطنين العاديين إلى التغريد عبر تويتر تعليقًا على النظام. أغلب التغريدات لم تناقش المواد في حد ذاتها بقدر ما نقاشت أهمية أو مدى فاعلية ذلك القانون. بعض التغريدات حملت في طياتها استنكارًا من قبل البعض، متسائلين: لماذا يخاف الناس من القانون ولا يخافون من أمر الله؟

https://twitter.com/rabie1084/status/1001068851784749057

https://twitter.com/Fatimah_489/status/1001105802697027590

بينما قام البعض بإلقاء اللوم على النساء باعتبارهن السبب فيما يحدث لهن، فإذا تسترن فلن يجدن أية مضايقات، وقال آخرون إن المجتمع السعودي ليس بحاجة لقانون لمحاربة التحرش، وإنما يحتاج إلى قانون يمنع التبرج ويرسخ الالتزام بالدين.

https://twitter.com/MBSYSR/status/1001144014425526272

https://twitter.com/abdulmajed_yf3i/status/1001445687161212929?ref_src=twsrc%5Etfw&ref_url=http%3A%2F%2Fwww.bbc.com%2Farabic%2Ftrending-44291969

https://twitter.com/Dareaag/status/1001414629258678273?ref_src=twsrc%5Etfw&ref_url=http%3A%2F%2Fwww.bbc.com%2Farabic%2Ftrending-44291969

لكن تلك التغريدات استفزت آخرين، عبّروا في تغريدات أخرى، ردًّا عليهم،عن رفضهم الشديد لربط لباس المرأة بالتحرش.

https://twitter.com/NHMD_13_/status/1001096153948213248

لم يقتصر الجدل على ما سبق فقط، بل اتجه البعض لاعتبار القانون بمثابة «دعوة للعلمانية»، وأن من شأنه تنظيم العلاقات المحرمة ونشر الرذيلة.

https://twitter.com/KSA8OO/status/1001130721514311681