القلق هو رد فعل طبيعي نشعر به تجاه مواقف معينة مثل مشكلة ما أو قبل اتخاذ قرار مهم في حياتنا، لكن عندما يتحول إلى أكثر من مجرد مشاعر مؤقتة، ويستمر الشعور لفترات أطول فيعرف باضطراب القلق المرضي.

وفقًا لمنظمة الصحة النفسية الأمريكية يعرف اضطراب القلق المرضي بأنه شعور مزمن بالقلق والشد العصبي يصاحبه تغيرات جسدية مثل ارتفاع ضغط الدم أو زيادة عدد ضربات القلب. وطبقًا لـAPA يؤثر القلق المرضي على نحو 30% من البشر في مرحلة ما من حياتهم؛ إذ يعتبر القلق والخوف استجابة عاطفية طبيعية نتيجة للتعرض لتهديد فوري، وبشكل عام يتحول القلق العادي إلى اضطراب مرضي في الحالات التي تعيق الشخص عن ممارسة حياته.

لماذا نشعر بالقلق؟

يوجد ما يسمى بيئة العوائد الفورية (Immediate-return environment) والمقصود به هو كافة الأفعال التي يمارسها الكائن الحي ليحصل على المكافأة بشكل فوري في نفس الوقت أو المستقبل القريب.

المثال الذي طرحه الكاتب الأمريكي James Clear، أنك زرافة تعيش في غابة أفريقية، ومن وقت للآخر تكتشف مجموعة من البشر يتجولون في رحلات السفاري المعتادة ويلتقطون العديد من الصور، فما الفارق بينهم وبين البشر؟

بجانب الفارق بين الأحجام بالطبع، إلا أن الفارق الأكبر هو أن أي قرار تتخذه الزرافة يوفر فوائد فورية لحياتها، فمثلًا في حالة الجوع تمشي وتأكل من العشب، في حالة وجود أي عواصف أو اضطرابات مناخية تلجأ لمكان ما للحماية، وفي حالة ملاحقة أحد الحيوانات للقطيع فتسعى للهرب، الأمر بهذه البساطة ففي حالة الزرافة فإن التركيز باستمرار على الأفعال والاختيارات تأتي بتأثير مباشر على حياتك مثل الأكل والشرب ومكان النوم ومتى يمكن تجنب المفترسات.

الآن دعنا نفكر بشكل معاكس، فالبشر يعيشون في بيئة العوائد الآجلة delayed-return environment، حيث إن معظم الخيارات والأفعال التي تقوم بها لن تفيدك بشكل مباشر.

فمثلًا تقوم بعملك اليوم لكي تحصل على الراتب بعد أسابيع قليلة، وهكذا تم تصميم عديد من جوانب المجتمع الحديث لتأخير الحصول على المكافآت.

لم ينتقل مجتمعنا مؤخرًا إلى بيئة المكافآت الآجلة إلا في آخر 500 عام تقريبًا، وزادت وتيرة التغيير أضعافًا مقارنة مع عصور ما قبل التاريخ.

في المائة عام الماضية شهدنا ركوب السيارة والطائرة والتلفزيون والكمبيوتر والإنترنت، كل ما يشكل حياتك اليومية تقريبًا ظهر في فترة صغيرة جدًا من الوقت. حيث يمكن أن يحدث الكثير في 100 عام، ومع ذلك فمائة سنة ليست رقمًا كبيرًا في عالم التطور، إذ قضى الدماغ البشري الحديث مئات الآلاف من السنين في تطور لنوع واحد من بيئة العوائد الفورية وفي غمضة عين تغيرت البيئة بأكملها إلى العوائد الآجلة.

فبالتالي، يوجد عدم توافق بين دماغنا وبيئتنا الجديدة، وهو ما يخلق تأثيرًا كبيرًا على مقدار التوتر المزمن والقلق الذي نعيشه اليوم. فمنذ آلاف السنين عندما عاش البشر في بيئة العوائد الفورية كان التوتر والقلق مشاعر مفيدة لأنها ساعدت على اتخاذ إجراءات في مواجهة المشاكل العاجلة؛ فمثلًا: عند ظهور أسد عبر السهول فتشعر بالتوتر ثم تهرب فتتخلص من التوتر، هذه هي الطريقة التي تطورت بها عقولنا لاستخدام القلق والتوتر.

كان القلق من المشاعر التي ساعدت في حماية البشر في بيئة العوائد العاجلة؛ تم تصميمه لحل المشكلات الحادة قصيرة المدى، لم يكن هناك شيء اسمه القلق المزمن لأنه لا توجد مشاكل مزمنة في بيئة العوائد العاجلة.

ماذا يحدث في داخل المخ أثناء القلق؟

الأسباب الحقيقية للقلق غير معروفة، ووفقًا للمعهد الوطني للصحة العقلية يعتقد الباحثون أن مزيجًا من العوامل الوراثية والبيئية تلعب دورًا في ظهور القلق، حيث تزداد احتمالية الإصابة بالقلق في حالة إصابة قريب من الدرجة الأولى بالقلق أكثر ثماني مرات من أي شخص آخر.

السيروتونين والدوبامين عبارة عن مواد كيميائية تعمل كنواقل عصبية أو رُسل في المخ، تقوم بإرسال رسائل بين مناطق مختلفة من المخ، ويعتقد أنها تؤثر على الحالة المزاجية والقلق. إحدى نظريات اضطراب القلق هي أن الأعراض تنتج عن خلل في واحدة أو أكثر من هذه المواد الكيميائية. وتُعرف هذه النظرية باسم النظرية البيولوجية لاضطرابات القلق، دعم هذه النظرية هو ما حدث من اختفاء أو تقليل لظهور أعراض القلق التي يواجهها عديد من المرضى عند تناول مضادات الاكتئاب التي تغير المواد الكيميائية في الدماغ.

تطور القلق في آخر 100 عام

القلق عبارة عن حالة معقدة ومنتشرة في كل مكان، وكانت جزءًا من التجربة البشرية لعدة قرون. ومع ذلك شهدت المائة عام الماضية تحولًا كبيرًا في طريقة فهمنا للقلق ومعالجته.

في أوائل القرن العشرين، كان يُنظر إلى القلق في المقام الأول من خلال عدسة التحليل النفسي وكان سيجموند فرويد هو الأبرز في هذا التخصص. واعتقد أن القلق ناتج عن صراعات غير واعية بين الهو والأنا والأنا العليا، كما اقترح أن القلق إشارة إلى أن الأنا كانت تفقد السيطرة على دوافع الهو وأن العلاج يمكن أن يساعد في حل هذه النزاعات.

وفي منتصف القرن العشرين، بدأ الطب النفسي في تطوير علاجات جديدة للقلق، وتم تقديم الجيل الأول من الأدوية المضادة للقلق، وفي الستينيات كانت هذه الأدوية فعالة للغاية في تقليل أعراض القلق ولكن كان لها أيضًا آثار جانبية مثل التعود أو مخاطر الإدمان، وصولًا لأواخر القرن العشرين، ظهر العلاج السلوكي المعرفي (CBT) كعلاج لاضطرابات القلق. حيث يركز على تغيير أنماط التفكير والسلوكيات السلبية التي تسهم في ظهور القلق. وثبت أن تلك الطريقة فعالة للغاية في علاج القلق.

اليوم القلق منتشر أكثر من أي وقت مضى مع وجود 40 مليون بالغ في الولايات المتحدة يعانون من القلق (لا توجد إحصائيات مؤكدة عن عدد المصابين بالقلق في الشرق الأوسط وإن كانت النسبة أعلى لاختلاف نمط الحياة والمشكلات التي يواجهها سكان الشرق الأوسط)، ولكن الفارق هو توفر المزيد من خيارات العلاج أكثر من أي وقت مضى سواء طرق علاج دوائي أو طرق أخرى مثل اليوجا وتمارين الاسترخاء وغيرها، ومع مرور الوقت من المحتمل أن تستمر العلاجات والأساليب الجديدة في الظهور مما يساعد على تخفيف عبء القلق عن الملايين حول العالم.

وسائل التواصل الاجتماعي والقلق المزمن

في السنوات الأخيرة استحوذت وسائل التواصل الاجتماعي على حياة كثير من الناس حيث يعتمد عليها للبقاء على اتصال ومعرفة كما أنها أصبحت متشابكة بشكل متزايد، ونتيجة لذلك زادت مستويات القلق بشكل كبير بين الناس.

الطريقة التي تسبب بها قنوات التواصل الاجتماعي القلق هي الضغط المستمر لتقديم صورة مثالية عن النفس، حيث تم تصميمها لإبراز الملامح البارزة في حياة الناس، مما يؤدي إلى ثقافة المقارنة مع الآخرين، وبهذه الطريقة يظهر القلق حيث يشعر الأفراد بالحاجة إلى تصوير أنفسهم باستمرار في صورة أفضل مما قد يكون مرهقًا وحافزًا قويًا لتطور للقلق.

هناك طريقة أخرى تسبب القلق عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي وهي من خلال زيادة المعلومات، مع إتاحة كثير من المعلومات في متناول أيدينا، مما يؤدي إلى الشعور بالارتباك والقلق ويظهر ذلك بشكل خاص في أوقات الأزمات مثل جائحة COVID-19 إذ تنتشر الأخبار والمعلومات بشكل مستمر كما يمكن أن تسبب القلق عن طريق الضغط على الشخص ليكون متاحًا ومتصلًا لأوقات طويلة وباستمرار، مما يؤدي إلى الشعور بعدم القدرة على التوقف عن العمل والاسترخاء.

القلق من وجهة نظر تطورية!

تلعب النواقل العصبية الموجودة في المخ (السيروتونين والدوبامين) دورًا مهمًا في الوظائف المعرفية والعاطفية العليا للإنسان، ويعتبر الجين المسئول عنها أحد الجينات التي تطورت في السلالة البشرية، حيث تعرف علماء من جامعة توهوكو في اليابان على طفرتين أدتا إلى عدم إعادة امتصاص النواقل العصبية (Neurotransmitter Reuptake ) ويزداد في حالة الاكتئاب والقلق.

قام الفريق بفلورة النمط الجيني (Fluorescent substrate) للأسلاف والبشر حاليًا ومن ثم مراقبة وقياس امتصاص النواقل العصبية، وأظهر بروتين الأسلاف زيادة في امتصاص الناقلات العصبية مقارنة بالنمط الجيني الحالي وتم إثبات أن الشكل الحالي للجين يرتبط بشكل كبير بعدم استغلال النواقل العصبية (reuptake) في حالات القلق والاكتئاب.

نتائج هذه الدراسة تشير إلى أنّ أسلافنا كانوا أكثر قدرة على تحمل القلق أو الاكتئاب، وسيحاول الباحثون في ما بعد معرفة النتائج السلوكية والعصبية لهذه الطفرات في الفئران.