عندما نبحث عن تعريف إجرائي للفلسفة بالمفهوم الذي يرسم لنا حدودا معرفية بينها وبين المسارات والدروب الأخرى التي يسعى من خلالها الإنسان إلى فهم وتفسير الوجود، كدرب العلوم بمنهجياتها وأدواتها المختلفة ودرب التجارب الدينية مثل التصوف، نجد أن الفلسفة وكما يعرفها فرانسيس بيكون هي: «المعرفة الناشئة عن العقل».

والفلسفة وفق ذلك التعريف والمفهوم الذى قدمه بيكون، والذى سنعتمده هنا على الأقل كتعريف ومفهوم إجرائي، هي نتاج عقلي بالأساس، تُكتسب المعرفة فيه عقليا عبر عمليات متعددة من الاستدلالات والمحاججات المنطقية، ولا تُكتسب فيه بطبيعة الحال بشكل حدسي أو عبر الوحي كما هو الحال في التصوف والتجارب الدينية.

وهذا التعريف المفاهيمي هو نفسه ما يفسر لنا بشكل أو بآخر لماذا كانت دائما محاولات التأريخ للفلسفة تبدأ عادةً من «طاليس المالطي» في المنتصف الأول من القرن السادس (ق.م) ، وليس من التجارب الأسبق في الهند أو مصر أو العراق، ذلك رغم وجود تراث كبير لتلك الحضارات من الحكمة الفلسفية المختلطة بالأديان والتصوف.

ففي تلك التجارب الأسبق حال اختلاط التفلسف بالتجارب الروحية والباطنية في تلك الحضارات الشرقية القديمة في النهاية دون إنتاج معرفة موضوعية أو فلسفة ذات بنية منطقية تقوم على البرهان والاستدلال. ناهيك عن عجز اللغة عن النقل الدقيق لنتاج تلك التجارب الروحية، اللهم إلا بالمقاربات الأدبية الشعرية والنثرية في بعض الأحيان، وذلك عبر استخدام مكثف للمجازات والرموز.

ولكن وبالرغم من تلك الحدود المعرفية آنفة الذكر التي فصلت مجال نشاط وحركة الفلسفة عن الدين والتصوف، فإن الفلسفة تفاعلت منذ نشأة التفلسف حتى يومنا هذا مع الأديان بشكل كبير، بدءا من طرح التأويلات المتعددة تفاعلا مع النصوص الدينية المؤسسة لتلك العقائد، وصولا إلى بناء الفضاء المذهبي الكلامي وتشكيل البنية اللاهوتية لكل دين أو مذهب عقائدي، حيث قام فعل التفلسف هنا بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة كوسيط بين النص الديني وبين اُثره على العديد من مستويات المعرفة الدينية المختلفة.

وقد تفاعلت الفلسفة كذلك مع التصوف، حيث تجد أفكار هذا الأخير ثاوية في لب قضايا وإشكاليات الفلسفة ومتخللة لتضاعيفها بصورة تفوق توقع الكثيرين، وهذا التداخل هو ما نطرحه هنا محلا للبحث والتساؤل.


تقاطعات التصوف مع الفلسفة

التصوف بطبيعته ظاهرة دينية تتسم بالعالمية في الخبرة الإنسانية. وهي كما يصفها الراحل د. «عرفان عبدالحميد» تشبه المفاهيم النفسية الأخرى التي لا تسمح بطبيعتها بالتعريف وتستعصي عليه، وسبب هذه الصعوبة التي تقترب من حدود الاستحالة -بحسبه- جملة أسباب يمكن إجمالها في كون التجربة الصوفية بتباين صورها وتعدد أنماطها تجربة فردانية خالصة تنزع إلى الاحتجاز دون المشاركة، ولا تستهوي إلا القلة من أتباع الأديان عموما.[1]

وقد تقاطعت الفلسفة مع التصوف تاريخيا في حالات استثنائية كما يقول عزمي بشارة في الجزء الأول من كتابه «الدين والعلمانية في سياق تاريخي»، تحولت الفلسفة خلالها إلى ما يشبه النحلة الدينية، كما في حالة فيثاغورس وبعض تيارات الرواقية والأفلاطونية، وكما في حالة بعض الفلاسفة الثيولوجيين الأكثر حداثة، مثل ابن سينا (980 – 1037 م ) ومايستر إيكهارت (1260 – 1327 م) وصدر الدين الشيرازى (1572 – 1640) من الذين تتميز فلسفتهم -وهي بحسب بشارة فلسفة من دون شك- بأنها آتية من اللاهوت، لكنها تخرج عن البنية اللاهوتية العادية، وتبدأ بالتفلسف حول الغيب بوجدانية إلى حد الإشراقية، حتى حدود التعبد والتصوف فتعود لتتجاوز حدود الفلسفة.

ولا مجال هنا للتوسع بحسب بشارة في مسألة هل تكسب العالمين، عالم الفلسفة و عالم اللاهوت، أم تخسرهما. اللاهوتيون يقولون «هؤلاء فلاسفة»، والفلاسفة يقولون «هؤلاء لاهوتيون»، و لا مجال -بحسب بشارة- للمكوث طويلا عند هذه الحالات. [2]

التصوف والفلسفة الحديثة

يورغن هابرماس
الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس مصدر الصورة : (Wikimedia Commons/ Wolfram Huke/ CC BY-SA 3.0 )

ذهب الفيلسوف الألمانى «يورجن هابرماس» إلى أن فكر التصوف اليهودي قد حكم الفلسفة الغربية الحديثة بوجه عام، وهذه العلاقة بين الفلسفة والتصوف اليهودي لا تظهر ولا تفهم وفق هابرماس إلا من خلال تتبع نفاذ الفكر اليهودي من الشرخ الذي أحدثه انهيار هذا التواصل المركب بين الدين والفلسفة في العصر الكلاسيكي.

ولقد نفذ هذ الفكر في رأي هابرماس انطلاقا من ميزتين، التأويل والدعوة الصوفية الكابالية المتمحورة حول فكرة الخلاص، فباسم شمولية العلم الحديث وتحوله إلى مرادف للفكر طوع المفكرون اليهود الفلسفة لتصبح ظاهرا نظرية معرفة أو أبستيمولوجيا. وذلك بجانب أن تفسير نصوص التوراة، التفسير الحاخامى وخاصة التفسير القبالي، هو الذى أعد طوال القرون الفكر اليهودي لممارسة التأويل من خلال التعليق والشرح والتحليل وصياغة تقنية التأويل المجازي.

أما فيما يتعلق بانجذاب المفكرين اليهود إلى نظرية المعرفة فهذا يعود دون شك إلى هذه الطريقة التي توفر شكلا معقلنا لإشكالية صوفية ضاربة في القدم، حيث كان لا بد للطليعة اليهودية،كما يشير هابرماس، من القفز فوق حقيقة المجتمع الألماني الذي ارتطمت به، فوجهت الفكر نحو العمل على ذاته.[3]

بحسب هابرماس اضطر التصوف اليهودي فقط عند دخوله إلى قلب الأكاديميا الغربية الكلاسيكية والاندساس في شرايين علومها الاجتماعية إلى التخلي عن حقائقه العقائدية الظاهرة في البداية، غير أن هذا التخلي لم يكن إلا مؤقتًا، فلقد فكك الفكر اليهودي نفسه واقتحم الفكر الجامعي من زوايا متعددة، ثم لحم أجزاءه في الداخل.[4]

يرى هابرماس أن التصوف اليهودي في ألمانيا والمتمثل حينئذ في التيار الحاسيدي قد وجد تعبيره الفلسفي الفعلي في فكر فرانز رونزويغ الذي سبق أن ترجم مع صديقة بيوبر التوراة إلى الألمانية، وقد حاول روزنزويغ في كتابه المؤلف من ثلاثة أجزاء، و كما يوحي بذلك عنوانه «نجمة الخلاص»، تأويل الفكر المثالي منطلقا من عمق التصوف اليهودي.[5]

ويعد من أهم من أسهموا فى جعل القبَّالاة موضوعا أساسيا للدراسة ومكونا أساسيا في تفكير كثير من المفكرين الغربيين المحدثين المؤرخ اليهودي من أصل ألماني جيرشــوم شـوليم (1897 – 1982)، وقد درس شوليم الفلسفة والرياضيات في بادئ الأمر. ولكنه قرَّر أن يتخصص في القبَّالاة، فتَعلَّم قراءة النصوص العبرية وكتب رسالة عن كتاب الباهير نال عنها درجة الدكتوراه من جامعة ميونيخ عام 1922. وفي العام التالي، هاجر إلى فلسطين حيث عُيِّن في الجامعة العبرية محاضراً في التصوف اليهودي، ثم أستاذاً وظل فيها إلى أن تقاعد عام 1965.[6]

وقد كان من أبرز من تأثروا بالأخير الفيلسوف وعالم الاجتماع والناقد الأدبي الألماني المعروف ولتر بنجامين، وكذلك الناقد الأدبي الأمريكي الشهير هارولد بلوم الذي تعود الكثير من مقولاته التحليلية بأصلها إلى القبالاة وإلى فلسفة مارتن بيوبر التصوفية الحسيدية.

وقد تجاوز تأثير التصوف دائرة الفلسفة الحديثة إلى دائرة العلم، فعلم النفس الحديث لم ينج هو الآخر من تأثيرات التصوف، حيث يتشابه التحليل النفسي لسيجموند فرويد والتراث القبالي في نقطتين رئيستين، هما تقنيات الأحلام ومركزية الجنس في كليهما[7]، فقد اعتمد فرويد في تفسيره الأحلام على عنصر تقني أساسي هو تجزيء الحلم إلى قطع مختلفة، ثم يحصل الترابط بعد ذلك وفقا لكل قطعة على حدة . [8]

ويذهب دافيد باكان إلى أن هذا النوع من التفاسير نجده في العديد من الكتابات اليهودية، وهو يشكل تصميما للأدب الحاخامى وللزوهار، كما أن الباحثين اكتشفوا أن اهتمام فرويد بالجنس إنما يعود بالأساس لمركزيته في التراث القبالي، كما أن مفهوم الجنس في المنظومة الفرويدية شبيه إلى حد كبير بمفهومه في القبالاة.

كما أن تقسيم فرويد للنفس الإنسانية للهو – الأنا – الأنا الأعلى مستمد من تصور التصوف اليهودي القبالي عن الإله الذي تنقسم ذاته، وفق الرؤية القبالية، إلى «الهو – الأنت – الأنا»، ونستطيع أن نفهم هذه المقاربة المعقودة بين الله والإنسان في التحليل الفرويدي أكثر حينما نفهم أن ذلك يدور في حقيقة الأمر داخل إطار فكرة قبالية أخرى أكبر وهي أن الإنسان هو العالم الأصغر الذي يمثل صورة مصغرة -ميكروكوزم- من الإله الذي يمثل العالم الأكبر، ماكروكوزم.

كما تقسم القبالاة البشر أيضاً إلى خمس مراتب، تتناظر المراتب الثلاثة الأولى فيها تماما مع التقسيم الفرويدي للنفس البشرية الهو والأنا والأنا الأعلى، ويتبقى وفق ذلك التقسيم بعد ذلك مرتبتان لا يحوزهما إلا الأتقياء والأنبياء من بني إسرائيل، وهى بذلك تنحصر فقط في اليهود، والمرتبتان الأخيرتان هما بلا نظائر في التقسيم الفرويدي.

والعلاقة بين التقسيم الفرويدي والتقسيم القبالي هي علاقة لا تخفى في الحقيقة، ذلك أن فرويد قام على الأرجح بعد نزع التصور القبالي من دينيته بإلغائه المرتبتين الأعلى الخاصتين باليهود، بتحويل المراتب العامة الأساسية للنفس البشرية في القبالاة إلى مركب واحد متآلف داخل كل نفس بشرية على حدة، وبذلك خرج لنا بهذا التقسيم الثلاثي المعروف للنفس، الهو والأنا والأنا الأعلى.

ونستطيع أن نفهم هنا كما يذكر د. عبد الوهاب المسيري مسألة تأثر فرويد بالتصوف اليهودي من خلفية أبويه الحسيدية – الحسيدية هي حركة اجتماعية دينية يهودية نشأت في أوروبا في القرن السابع عشر – وأمه بوجه خاص، حيث جاءت من برودي (في جاليشيا) أحـد أهـم المعـاقل الحسـيدية، وكان جـدها الأكبر تسـاديك حسيدي. وكان أبوها أحـد تلاميذ الواعظ أدولف جلينيك (1820 ـ 1893) القبَّالي الشهير، الذي كان يُلقي محاضراته في فيينا.[9]

المراجع
  1. في التصوف المقارن: ملاحظات منهجية د. عرفان عبد الحميد – دورية إسلامية المعرفة – السنة التاسعة – العدد 36 – ربيع 1425 ه / 2004
  2. عزمي بشارة , الدين والعلمانية في سياق تاريخي , الجزء الأول , المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية, الطبعة الأولى , الدوحة , يناير 2013 , ص 43
  3. يورجن هابرماس, الفلسفة الألمانية و التصوف اليهودى , ترجمة نظير جاهل , الطبعة الأولى, 1995 , المركز الثقافى العربى ,ص 5 & 6
  4. المصدر السابق , ص 7
  5. المصدر السابق ,ص 53
  6. د.عبد الوهاب المسيرى ,موسوعة اليهود و اليهودية والصهيونية, المجلد الخامس , الطبعة الأولى, 1999 , دار الشروق , القاهرة
  7. المصدر السابق, ص 458 ,(بتصرف)
  8. دافيد باكان – فرويد والتراث الصوفى اليهودى – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر – ط1 – 1988 – ص 210
  9. د.عبد الوهاب المسيرى ,موسوعة اليهود و اليهودية والصهيونية, المجلد الثالث , الطبعة الأولى, 1999 , دار الشروق , القاهرة (بتصرف)