تقول الرواية إنهما وُلِدا ملتصقين، فكانت رجل أحدِهما «عمرو» – الذي سيشتهر باسم هاشم – ملتصقة بجبهة الآخر «عبد شمس»، فاضطر الطبيب لفصل الالتصاق بالجراحة، فلما سال الدم تشاءم البعض وقالوا أن سيكون بين أبنائهما دماء.

هاشم، واسمه الحقيقي «عمرو»، ابن سيد مكة «عبد مناف بن قصي»، من زوجته «عاتكة بنت مُرّة»؛ وقد وُلِدَ معه أخ توأم هو «عبد شمس». وإليه ينتسب أحفاده فيقال «هاشميون» أو «بنو هاشم».

هو هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مُرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مُضر بن نزار بن مَعد بن عدنان بن أدد، من نسل نابت بن النبي إسماعيل بن النبي إبراهيم.


التحدّيات وتأسيس السيادة

شب «عمرو» وقد اكتسب مع الوقت سمعة طيبة بين القرشيين، وخاض أول تحدياته «السيادية». فبنو عمه عبد الدار، كانوا قد حازوا بوصيّة الجد «قصيّ» السيطرة على أهم وظائف مكة من سقاية الحجيج ورفادتهم (ضيافتهم) ودار الندوة (حيث تدار المناقشات حول الأمور الهامة) وحجابة الكعبة وعقد اللواء للحرب، وكان مبرر «قصي» في تفضيل ابنه عبدالدار بذلك هو أنه كان ضعيفًا خاملًا بعكس أخيه عبد مناف الذي كان عظيم الثروة وصاحب الكلمة بين المكيين، فأراد أن يساوي الأخ الضعيف بالقوي.

واجه هاشم ومعه أخوته تحديات كُبرى أبرزها: انتزاع استحقاق السقاية والرفادة لحجّاج البيت الحرام، ووقاية أعزّاء النفوس من أهل مكة من خطر «الاعتقاد».

أراد عمرو وإخوته – عبد شمس ونوفل والمطلب – أن يأخذوا السقاية والرفادة من بني عمهم، فوقع الخلاف وأطلت نذر الاقتتال الأهلي، إذ تحالف بنو عبد الدار على ألا يتركوا ما بأيديهم ووثقوا الحلف بأن غمسوا أيديهم في جفنة مملوءة بالدم فلُقّبوا بـ”لَعَقَة الدم”، بينما تعاهد بنو عبد مناف على تحقيق هدفهم ووثقوا حلفهم بغمس أيديهم في جفنة طيب فلقبوا “المُطَّيبين”. ثم تدخل عقلاء مكة بين أبناء العمومة ليتفق الجميع على أن يحصل بنو عبد مناف على السقاية والرفادة ويُبقي بنو عبد الدار على الحجابة واللواء ودار الندوة. واقترع عمرو وإخوته على من يلي الوظيفتين فوقعتا من نصيبه ليتولى سقاية الحجيج وإطعامهم. وكان قيام قريش بمهام السقاية والرفادة تقليد وضعه قصيّ بن كلاب – مؤسس السيادة القرشية على مكة – حيث قام في قومه خطيبًا يذكرهم أنهم «جيران الله» و«أهل بيت الله الحرام» مما يضع على القرشيين مسئولية أخلاقية هي أن يضيفوا ويكفلوا هؤلاء الحجيج مما تيسر من فضل أموالهم، فكان متولي السقاية والرفادة ينفق من ماله عليهما مع ما يتبرع به أغنياء مكة.

وبالفعل، فقد قام عمرو خطيبًا في قومه – صباح أول أيام شهر ذي الحجة – وألصق ظهره بباب الكعبة ثم قال لهم: «يا معشر قريش إنكم سادة العرب، أحسنها وجوها، وأعظمها أحلاما أي عقولا، وأوسط العرب: أي أشرفها أنسابا، وأقرب العرب بالعرب أرحاما. يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله تعالى، أكرمكم الله تعالى بولايته، وخصكم بجواره دون بني إسماعيل، وإنه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من أكرم أضياف الله أنتم فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح فأكرموا ضيفه وزوار بيته، فو رب هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم إلا طيبا، لم يؤخذ ظلما، ولم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصبا».

استفزت كلمات عمرو أغنياء قريش، فصاروا يتبرعون من أموالهم ويشتركون معه في ضيافة الحجيج، فكان يجعل أحواضًا من الجلد يضع فيها الماء والزبيب للحجاج، ويصنع لهم طعامًا يكفيهم طوال موسم الحج.

التحدي التالي في حياة عمرو كان بعد إنجابه ابنه «أسد» من زوجته «قيلة بنت عمرو بن مالك الخزاعي»، فهذا الابن كان له صديق من بني مخزوم، وكان أهل هذا الصديق فقراء، فيومًا وجد أسد صديقه يبكي فلما سأله قال «يريد أبي أن نعتقد».

و«الاعتقاد» كان تقليدًا عند بعض أعزة النفوس من فقراء مكة، حيث كان الرجل منهم إذا لم يجد قوت يومه أغلق باب داره على نفسه وأهله حتى يموتوا جوعًا كيلا يصاب بعار السؤال واستجداء الإحسان.

وتزامن ذلك مع أزمة مالية تعرض لها القرشيون، فأراد عمرو أن يخفف عنهم العبء المادي، فلم يطلب منهم أن يتبرعوا لضيافة الحجاج وإنما سافر إلى الشام فابتاع كميات من الطعام وتولى بنفسه تكاليفها وإعدادها وتقديمها للحجيج، وكان يهشم للحجاج والفقراء الخبز بيده فعُرِفَ بـ«هاشم»، ومن هنا حمل هذا الاسم وحمله أحفاده إلى الأبد.


إيلاف قريش

كان لا بد من حل حاسم للأزمات المالية التي تتعرض لها مكة، فهي وإن كانت قبلة العرب في مواسم الحج، فإنها كانت – آنذاك – مجرد محطة على طرق التجارة تخرج منها قوافل تجارية محدودة، وكان الحائل بين توسعها تجاريًا يقع في إحجام ملوك الدول الكبرى مثل بيزنطة وتتبعها الشام، وفارس ويتبعها العراق، والحبشة ومنافسوها في اليمن، عن إرسال القوافل إلى عمق الحجاز بسبب تعرضها لخطر اعتداءات القبائل الأعرابية الواقعة على الطرق.

كان «إيلاف قريش» أكبر اتفاق تجاري عربي في العصور القديمة، عقده «هاشم» وأخوته بين قريش وعظماء ممالك الروم وفارس وغسّان والحبشة.

من هنا جاءت فكرة «الإيلاف»؛ فقد تفتق أذهان هاشم «عمرو» وإخوته عن أكبر اتفاق تجاري عربي في العصور القديمة، فسافر هاشم إلى الشام ومنها إلى بيزنطة للقاء قيصر الروم (ويقال إنه لم يلتقه وإنما التقى بعض حكام الغساسنة التابعين لبيزنطة في الشام)، وتوجه عبد شمس إلى نجاشي الحبشة، وتوجه المطّلب إلى ملك اليمن، بينما ذهب نوفل إلى ملك الفُرس، وأقنع كل منهم من التقاه من الملوك أن يفتح باب التبادل التجاري مع القرشيين وأن يستقبل تجارتهم، ثم توجه الإخوة إلى زعماء القبائل والعشائر الواقعة على طرق التجارة من وإلى مكة، وأقنعوهم أن يؤمنوا القوافل المارة عبر مناطق نفوذهم مقابل أن تحمل تلك القوافل تجارات هذه القبائل والعشائر إلى أسواق اليمن والحبشة والشام والعراق، فيستفيد الجميع.

ولم يتوقف هاشم عند هذا الإنجاز، بل أقنع أغنياء قريش أن يضعوا نسبة من أرباح كل رحلة – رحلتا الشتاء والصيف – لتكون بمثابة معونة لفقراء مكة وحماية لهم من الحاجة والسؤال.

بهذا الاتفاق رسّخ بنو عبد مناف – وعلى رأسهم هاشم – سيادتهم لقريش، وسيادة قريش لعرب الحجاز، حتى قيل فيهم:

يا أيها الرجل المحوّل رحله :: هلا نزلت بآل عبد منافِ

الآخذون العهد من آفاقهم :: والراحلون لرحلة الإيلافِ

والخالطون فقيرهم بغنيهم :: حتى يعود فقيرهم كالكافي

وتنازعت قبيلتا قريش وخزاعة في بعض «المفاخرات» فحكمتاه بينهما فقام خطيبًا وقال: «أيها الناس نحن آل إبراهيم وذرية إسماعيل وبنو النضر بن كنانة وبنو قصي بن كلاب وأرباب مكة وسكان الحرم، لنا ذروة الحسب ومعدن المجد ولكل في كل حلف يجب عليه نصرته وإجابة دعوته إلا ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم، يا بني قصي أنتم كغصني شجرة أيهما كسر أوحش صاحبه والسيف لا يصان إلا بغمده ورامي العشيرة يصيبه سهمه ومن أمحكه اللجاج أخرجه إلى البغي، أيها الناس الحلم شرف والصبر ظفر والمعروف كنز والجود سؤدد والجهل سفه والأيام دول والدهر غير والمرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء وأكرموا الجليس يعمر ناديكم وحاموا الخليط يرغب في جواركم وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضع الشرف وتهدم المجد وإن نهنهة (زجر) الجاهل أهون من جريرته ورأس العشيرة يحمل أثقالها ومقام الحليم عظة لمن انتفع به».

فأخمد بذلك اقتتالًا كاد أن يقع – وما أكثر القتال الذي كان يجري لأسباب تافهة – وارتضاه الحيّان حكمًا وسيدًا لمكة كلها.


المنافرة وبدء تحقّق النبوءة

في الوقت الذي كان هاشمًا يتسيّد فيه قومه، كانت الغيرة تسيطر على أُميَّة ابن أخيه عبد شمس، فكان أمية يحاول أن يقلد عمه في مظاهر الكرم، ولكنه مع ذلك عجز عن مجاراته، فقرر أن يتحداه إلى المنافرة. والمنافرة هي تحدٍ بين رجلين في أيهما أكثر كرمًا وأعظم شرفًا، يشهدون عليه بعض الكهنة، فمن حُكِمَ له فاز بالتشريف ومن حُكِمَ ضده التزم بعقوبة غالبًا مالية.

لم يكن هاشم يميل لمثل تلك التحديات وكان يعتبرها من النقائص، لكن قومه ألزموه قبول التحدي، فاتفقا أن يحكما بينهما كاهن خزاعة، وأن من يخسر التحكيم يلتزم بذبح خمسين ناقة وأن يرحل عن مكة عشر سنوات. وما إن رأى الكاهنُ المتنافرَين حتى صاح: «والقمر الباهر والكوكب الزاهر والغمام الماطر وما بالجو من طائر وما اهتدى بعلم مسافر من منجد وغائر، لقد غلب سبق هاشم أمية إلى المفاخر». ثم التفت لأمية لائمًا وأردف: «تنافر رجلًا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأحسن منك وسامة، وأقل منك لامة (ملامة)، وأكثر منك ولدًا وأجزل منك صفرًا (ذهبًا)!».

فقدم أمية الإبل لهاشم الذي سارع بذبحها للفقراء، ورحل أمية بن عبد شمس إلى الشام حيث غرس الجذور الأولى لبني أمية هناك. وبهذه المنافرة وجد التنافس المرير طريقه بين أبناء هاشم وأبناء أمية والذي تطور بعد عقود ليصبح حربًا ضارية.


النهاية والميراث

كانت المنافرة بين «أمية بن عبد شمس»، وبين عمّه «هاشم»، أولى تجليّات النبوءة بوقوع الدم بين أبناء الشقيقين.

كانت شعبية هاشم في تصاعد مستمر، خاصة وأنه استطاع أن يحقق نوعًا من العدالة الاجتماعية بين أهل مكة، وأن يسارع لإطفاء جذوات الاقتتال بينهم.

داهمَ الموتُ «هاشمًا» في غزة بفلسطين، وتولّى أخوه «المطّلب» رعاية «شيبة بن هاشم»، الذي عُرف بعد ذلك وإلى الأبد بـ«عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف»

لهذا لم يكن غريبًا أن تصاب مكة كلها بالصدمة عندما بلغها خبر موته في مدينة غزة بفلسطين خلال إحدى رحلاته التجارية، فالرجل الذي أثقلته الأعباء داهمته وعكة مباغتة أودت بحياته، فدفنه رفاق رحلته وأقاموا الحزن على قبره، ووضعوا فوق قبره ناقته وقد ربطوها وتركوها بلا طعام أو شراب حتى تموت فوق القبر وفقًا للمعتقد السائد أن الميت حين يُبعَث ينبغي أن يجد مطيته فوق قبره حتى لا يُبعَث ماشيًا.

كان هاشم قد تزوج ستًا من النساء، وكانت أبرزهن «سلمى بنت عمرو»، من عشيرة بني النجار من قبيلة الخزرج بيثرب، وأنجبت له رقية وابنًا اسمه شيبة (لأن مقدمة رأسه كانت بها خصلة شعر بيضاء).

كبر «شيبة» في رعاية أمه بيثرب بعد موت أبيه هاشم، حتى تصادف أن مر رجل من أهل مكة بسوق يثرب ورآه وقد كبر وشب ونبغ وتفوق على أقرانه، فسارع الرجل إلى مكة وأخبر عمه المطلب – أخو هاشم – الذي سارع بدوره إلى يثرب وأٌقنع سلمى أن ترسل معه ابن أخيه ليرث مجد أبيه بمكة، وعندما دخل المطلب مكة ووراءه شيبة على الناقة حسب الناس أنه اشترى عبدًا فقالوا «المطلب اشترى عبدًا» فزجرهم وقال لهم «هذا شيبة ابن أخي هاشم». ولكن «شيبة بن هاشم» شابه أباه في أن غلب لقبه على اسمه، فعُرِفَ بالاسم الذي استمر معه إلى الأبد: «عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف».

المراجع
  1. عبدالحميد جودة السحار: محمد والذين معه
  2. د. حسين مؤنس: تاريخ قريش
  3. د. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام
  4. د. محمد سهيل طقوش: تاريخ العرب قبل الإسلام
  5. د. شوقي أبو خليل: أطلس القرآن
  6. برهان الدين دلو: جزيرة العرب قبل الإسلام