واقعية زادها الأحلام 

في عام 2020 عُرض الوثائقي الشهير «Ten Years with Miyazaki» الذي قدم لمُتلقيه إطلالة على عالم صانع السينما الشهير «هاياو ميازاكي» الذي قدم أفلامًا مُتفردة في أصالتها وغرابتها، عوالم سحرية شديدة الأصالة بحيث صارت نسيجًا وحدها، يصعب تقليدها ويصعب كذلك مُجاوزتها باعتبارها أفلامًا عادية أو واقعية.

يقول «ميازاكي» عن علاقته بالواقع:

لا بد أن نكون واقعيين لكن بشكل مثالي، الواقعيون من دون أحلام مثل عملة صدئة لا يُمكن إنفاقها.

يبدأ الوثائقي بلقطة واقعية يدخل فيها «ميازاكي» بخطوات بطيئة إلى ستوديو «غيبلي»، خطوات تُناسب عُمره الذي قارب الثمانين وقتها، وحفر أثره على ملامحه ولحيته البيضاء، بينما يرفع «ميازاكي» الستائر، ليعم الضوء المشهد، يُلقي سلامه فجأة على نُزلاء الغرفة، يُخبره المصور مُستغربًا أن الغرفة فارغة، يبتسم «ميازاكي» ابتسامة رجل تتخلل بصيرته بالواقع أحلامًا غامضة هامسًا:

هم دومًا هنا، لا أعرف أشكالهم، لكنهم موجودون.
ميازاكي يعمل في استوديو غيبلي

تمثل تلك اللقطة مٌفتاح عالم «ميازاكي» السينمائي كاملًا، لا تتهرب سينما «ميازاكي» من واقعها، تجد في أفلامه موضوعات مثل الحرب والظُلم الطبقي والاستغلال وتدمير البيئة وهي كلها قضايا تنتمي لواقعنا، لكن أبطال تلك القضايا لا يتصدون لها إلا بخلق وصال مع عالم الأسطورة والأحلام التي لا نراها بعين الواقع إنما عين الخيال.

سيُخبرك ميازاكي في فيلمه الشهير Princess Mononoke عن غابة جميلة يتم تجريفها بحيواناتها لصالح الزحف الصناعي لكن من يتصدى لهذا الزحف هي الأميرة «مونونوكي» التي ربتها الذئاب، بشرية لكنها تُجيد التواصل مع روح الغابة وحيواناتها.

مشهد من فيلم «Princess Mononoke»

في فيلم Castle in the Sky يحضر الجيش الياباني بقوته الغاشمة، وأساليب استجوابه القاسية، لكنه لا يبحث هنا عن نصر أمام الحلفاء في الحرب العالمية إنما يبحث عن قلعة سحرية في السماء، تُدعى «لابوتا»!، كل قوى العدوان الغاشمة تُطارد نبوءة خيالية.

في فيلم Porco Rosso، يشهد «بوركو» انحدار «إيطاليا» التدريجي نحو الفاشية، يرفض «بوركو» تسخير مهاراته كطيار حربي للقتال في حرب غير أخلاقية يقودها فاشيون مُتعطشون للدماء، في تلك الحبكة الواقعية تذكر أن «بوركو» خنزير قرمزي، يُحاول التحرر من لعنته بالحُب ليعود بشريًا!

مشهد من فيلم «Porco Rosso»

في كل أفلام «ميازاكي» توجد حبكة واقعية، قاسية، لكن أبطالها دومًا ينتمون لعالم الأسطورة والأحلام، ويستعيرون من هذا العالم الأدوات اللازمة لإنقاذ الواقع.

يؤمن «ميازاكي» بمُعتقدات «الشنتو»التي ترى في قلب كل شيء بهذا العالم أرواحًا تستحق التعريف والتقدير، وترى أن العالم بامتداده وجماداته وعاء لأرواح يُمكن وصالها، وإن لم يثبت العلم ذلك، قد تُثبته السينما.

يحاول هذا المقال الإبحار في هذا التجاور الساحر بين الواقع والخيال، الأسطورة والتاريخ، لساحر عجوز، يقف بقدم في عالمنا وقدم في عالم أرواح سحرية لا يراها أحد سواه. ساحر يستعير من مادة الخيال ما يجبر به قسوة واقعه وحكايته.

كيف تصير الأحلام ملعونة؟

أتعلم، الأشخاص الذين يصممون الطائرات، لا يهم ظنهم أن ما يفعلونه جيدًا، رياح الوقت تحولهم دومًا أدوات بيد الحضارة الصناعية، تتحول الطائرات من أحلام ساحرة إلى أحلام ملعونة.
هياو ميازاكي

في فيلمه الشهير The Winds Rises نرى قصة مُهندس الطائرات «جيرو هوريكوشي» الذي يقع في حب الطائرات منذ طفولته، لا يراها كوحش معدني إنما فن ساحر مادته الحديد، جيرو شديد الشعرية والرقة في حبه لأسرته وزوجته ومساعدته الغرباء في كل فرصة، لكن يقوده شغفه الأثير لأن يكون مُهندس الطائرة Mitsubishi A6M التي تحاول بها «اليابان» تحقيق انتصار دموي في الحرب العالمية. الطائرة التي ستُزيل مُدنًا بأكملها بسكانها الأبرياء في الحرب.

مشهد من فيلم The Wind Rises

يُعد «جيرو» تنويعًا خياليًا عن والد «ميازاكي» المهندس «كاتسوجي» الذي امتلك شركة لتصنيع الطائرات «زيرو» التي أمدت الجيش الياباني بالطائرات خلال الحرب العالمية، ولد «ميازاكي» في قلب الحرب العالمية الثانية عام 1941، وشاهد وهو ابن أربع سنوات قدرة الطائرات على تحويل مدينته Utsunomiya إلى رماد.

يؤمن «ميازاكي» أن الحكم الواقعي لن يرى والده إلا مُهندسًا للموت، لكنه في عيون الابن لم يكن سوى رجل شغوف بما يفعله، شغف أممته حضارته وجعلته سلاحًا للقتل. كيف يُمكن أن يُرمم الخيال شغفًا أممه الواقع؟

في فيلمه Porco Rosso يتخيل «ميازاكي» أن طيارًا قاتل بطائرة تشبه طائرة والده، وفي قلب المعركة بينما يتساقط سرب زملائه المقاتلين من حوله بقذائف العدو، لا يموت البطل إنما يستيقظ ليجد نفسه قد تحول خنزيرًا يُدعى «بوركو».

يُشاهد «بوركو» كيف تنحدر بلاده إلى نداءات الفاشية والحرب مُجددًا، يستميله الجيش رغم ملامحه الخنزيرية ليُقاتل في صفوفه من جديد، لأنه ما زال أبرع طياري البحر الأدرياتيكي، يقول «بوركو»:

لم أعد أحلق لأجل شركة أو حكومة، أحلق فقط لأجل نفسي. أفضل أن أكون خنزيرًا على أن أكون فاشيًا.
مشهد من فيلم «Porco Rosso»

يحيا «بوركو» خنزيرًا لكنه في اغترابه ورفضه القتل يصير أكثر إنسانية من كل أقرانه، طوال الحكاية لا يُدرك «بوركو» الهدف من لعنته، لماذا لم يمت مع رفاقه؟ لماذا عاد دون غيره ليقضي حياة جديدة كخنزير؟ لا يعود «بوركو» إلا بسُلطة خيال «ميازاكي» الذي يرى فيه طيف والده، طيف الخطيئة التي تحتاج لخلاص لا يُمكن أن يقدمه إلا الخيال.

 يستعيد «ميازاكي» وصفة الخلاص من أسطورة الجميلة والضفدع، وفيها يتحرر البطل من لعنة الحيونة بُقبلة حبيبته ليعود إنسانًا. يتحرر «بوركو» بقُبلة حبيبته ويعود إنسانًا بعدما فعل كل ما تمنى ميازاكي أن يفعله أبوه، لم يغادر شغفه، لم يتوقف عن الطيران، لكنه ارتقى بمهارته فوق وطن أصابه الجنون. الخيال هنا أنقذ الإنسان من حضارة تحوله لجندي في مذبحة.

مشهد من فيلم «Porco Rosso»

في أفلام ميازاكي تحضر الطائرات بلا انقطاع، كأدوات للصراع ومجازات بصرية للحرية، تستخدمها الأميرات للدفاع عن الغابة وعن الخير ضد الجيوش، في عالم ميازاكي البطل دومًا يطير، بطائرة، بمقشة سحرية، على كتف مخلوقات خيالية مثل التنانين أو في قلب قلعة مُتحركة في السحاب، لا يهم، الطيران لأبطاله دومًا وسيلة للانعتاق من الخطيئة الأصلية التي ورثها ميازاكي عن أبيه مهندس طائرات الحرب.

مشهد من فيلم «Castle in the Sky»
مشهد من فيلم «Nausicaä of the Valley of the Wind»

بينما قدم الأب لميازاكي الخطيئة الإنسانية، التي تحول دومًا الجمال إلى أداة للسيطرة والقتل، خلق ميازاكي أبطاله الأميرات المؤنثات دومًا اللائي يحاولن تحرير العالم من تلك الخطيئة كصورة خيالية من أمه، التي يعود لها الفضل الحقيقي في صُنع عالم ميازاكي السينمائي كما سنرى.

أن تكون عبدًا للأفلام لتحُرر حكايتك

عليك أن تعتزم تغيير العالم بفيلمك حتى لو لم يتغير العالم فعلًا، هذا ما يعنيه أن تكون صانع أفلام، عليك أن تدفع نفسك حتى يسيل الدم من أنفك ثم تنظر هل خلقت شيئًا؟ معظم الناس لا تستطيع فعلها.
هياو ميازاكي

يشتهر «ميازاكي» بوعوده عند تقديم كل فيلم أنه الأخير في مسيرته، لوح ميازاكي باعتزاله منذ عام 1986 حتى 2023 أكثر من سبع مرات، لكنه كل مرة يعود مُدركًا أنه لم يحكِ بما يكفي.

يقول ابنه «جورو» إن الأفلام هي وسيلة أبيه الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. لدرجة مناشدته لموظفي استوديو «غيبلي» بالمجيء لإكمال رسوم أفلامه في خضم زلزال 2011 الذي ضرب شرق اليابان وهدد مبنى الاستوديو.

في الوثائقي كثيرًا ما يظهر ميازاكي نكدًا وثائرًا على أخطاء الرسامين، يُعيد رسمها بنفسه قائلًا:

ما فائدة الرسم من دون روح؟

لا يمل ميازاكي من التعديل والتكرار وصولًا للقطة المثالية، في صناعة مرهقة قد تحتاج 5 ثوانٍ فيها من السينما إلى أسابيع من الرسم الشاق، ينظر الرسامون دومًا لميازاكي بافتتان وهو يقلد حركة سمكة أو طائر ليعيدوا رسمها، بينما يسأله المصور:

لماذا الأفلام مُهمة لك إلى هذه الدرجة؟

يقول ميازاكي مُبتسمًا:

أنا عبد للأفلام وتحت رحمتها
صورة لميازاكي في ستوديو «غيبلي»

في طفولته عانى ميازاكي من مُضاعفات بالجهاز الهضمي جعلته طريح الفراش دومًا، لم يتوقع أحد أبدًا أن يحيا للعشرين، كان يستمد القوة من أمه الشخصية الأكثر صلابة في عالمه، كانت تحمله وتجري به في الغرفة فيشعر للحظات أنه طبيعي.

في سن السادسة أصيبت الأم بالسل الشوكي، يتذكر «ميازاكي» جيدًا إصراره الطفولي على أن تحمله بينما هي تبكي وتُخبره أنها لم تعد تستطيع، ظن «ميازاكي» في ما بعد أنه ربما كان سببًا في إصابة أمه بالعجز مثله، يقول عندها إنه تمنى لو لم يولد أبدًا.

مشهد من فيلم «Kiki’s Delivery Service»

في تلك اللحظة ظهرت قصص المانجا وكراسة الرسم في عالمه، يرسم بشرًا يطيرون وأمهات تبتسمن، يرسم كل ما تمنى أن يحياه، تمنى «ميازاكي» أن يكون مفيدًا لأمه، أن يساعدها على الوقوف، أن يساعد نفسه على الأقل لكيلا يصير عبئًا عليها، وجه ميازاكي تلك الطاقة للرسم قائلًا:

ظننت أنني لو تمكنت من تسلية الناس وإسعادهم برسومي، فأنا إذًا أستحق الوجود.

تحول الرسم والأفلام في عالم «ميازاكي» من مهنة للعيش إلى لهاث مُستمر يثبت عبره أنه يستحق الحياة، مثل هامستر في دوارة ينشد بدوام ركضه النجاة، لذلك كلما توقف عن العمل يعود بفيلم جديد، يقول «ميازاكي» دومًا إنه يعود بسبب الأطفال لا المال، وأن الفيلم المثالي في تعريفه هو الفيلم الذي يود كل طفل رآه أن يُريه مستقبلًا لأبنائه.

مشهد من فيلم «Ponyo»

أن تصير أفلامه وصفة متوارثة من جيل أطفال لآخر، وصفة ساعدته على النجاة في طفولته من العجز. يصنع ميازاكي الأفلام لأطفال العالم ولطفل صغير بداخله يظن دومًا أنه لم يفعل ما يكفي ليستحق النجاة بينما تموت أمه.

مثلما كانت السينما طريقة ميازاكي في إنقاذ أبيه ومنحه الغفران، ستكون طريقته في تخليد أمه.

في فيلمه Howl’s Moving Castle تُصاب «صوفي» الفتاة الجميلة الحيوية بلعنة تُشبه لعنة «بوركو»، لا تُحولها حيوانًا، لكنها تحولها عجوزًا طاعنة في السن لا تستطيع الحركة إلا بصعوبة، عجوزًا تحمل ملامح أمه ومأزقها الجسدي لكنها كذلك تحمل روحها الصلبة.

مشهد من فيلم «Howl’s Moving Castle»

عبر أحداث الفيلم تتملك صوفي الشكوك من دمامتها وعجزها، تخوض رحلة تقابل فيها الساحر «هاول» الوحيد الذي يُمكنه تحريرها من لعنتها، «هاول» ساحر موهوب لكنه يُحاول الفرار بمهاراته من تجنيد الملكة له مثلما جندت كل السحرة لخوض حرب دموية باسم المملكة.

تنجح «صوفي» بهيئتها العجوز في إنقاذ «هاول» من نفسه، تٌدافع عنه وتُروض الوحش بداخله الذي يظهر كلما استسلم لأوامر الحرب، تمتد سُلطة الحب التي تمثلها صوفي لإنقاذ السيدة التي لعنتها والساحر والمملكة بأكملها من جنون الحرب.

مشهد من فيلم «Howl’s Moving Castle»

تمثل «صوفي» مجازًا جماليًا عن والدة «ميازاكي» التي استطاعت إنقاذ والده مهندس الحرب وإنقاذه وإنقاذ عالمه كاملًا بإلهامها، بينما لم تستطع إنقاذ جسدها من الموت البطيء.

في فيلمه The Wind Rises عندما تنتهي الحرب، يرى المهندس «جورو» آثار التدمير الذي خلفته طائراته، ويخسر زوجته التي تموت بالمرض، لكن يحضر طيفها في النهاية لتُخبره أنها تنتظره في أرض الأحلام، عليه فقط أن يحيا.

مشهد من فيلم «The Wind Rises»

في الوثائقي لا يخجل ميازاكي العجوز أن تظهر دموعه وتبتل لحيته البيضاء، وهو يستمع لأغنية عن الأمومة، يقول للكاميرا إنه تذكر أمه، ثم يُمسك ريشته بأيدٍ مُهتزة ويُحاول إكمال الرسم، مُتذكرًا النصيحة التي أوردها على لسان أمه:

أنتظرك في أرض الأحلام، عليك فقط أن تحيا.

الطفل يُنقذ الكبار والعالم

الأفلام العادية مملة، خطوط السرد المنطقية تضحي بالإبداع، أنا مع كسر القيود التقليدية، لا تشاهد الأفلام بالمنطق إنما بروحك، الأطفال تفهم ذلك.
هياو ميازاكي

يتذكر«ميازاكي» جيدًا حادثة مأساوية مر بها خلال الحرب، عندما كان يفر من القصف مع أبيه وأخيه، قائلًا:

كنت أفر مع أبي وأخي في شاحنة خلال القصف، توسلت لنا أم وطفلتها أن تركب معنا، في الحقيقة أننا تركناها، ظلت تطاردني لأعوام، كالشوكة في قلبي.

يصعب أن يلوم طفل نفسه على قرار إنقاذ مثل ذاك لم يحدث، مثلما يحاول «ميازاكي» في سينماه إنقاذ أبويه وإعادة تدويرهما في صورة أكثر جمالية، يُحاول إنقاذ ذاته دومًا من الشعور الدائم بالعجز الذي يأتي مع تلك الذكرى.

باعتباره طفلًا ولد في قلب الحرب، حمل «ميازاكي» شعورًا دائمًا بكونه ضحية مُحتملة، وعبئًا مؤكدًا على من يحمونه، لذلك تنقلب المعادلة في عالمه السينمائي، لا يصير الأطفال عبئًا في حكاياته إنما ينجحون دومًا في إنقاذ الكبار خلال الشدة.

مشهد من فيلم «Spirited Away»

في فيلمه الأشهر Spirited Away يُقدم ميازاكي الطفلة «شيهيرو» التي تنتقل لمنزل جديد مع أبويها لكن تصادف الأسرةَ في طريقها غابةٌ وممر مظلم ينقلهم إلى مدينة الأرواح، يجد الأبوان مأدبة طعام شهية في متجر مهجور من البشر، يستسلمان للجوع، وكما تحدث الخطيئة دومًا في الحكايات الخيالية من التهام التفاحة المُحرمة، يتحول الأبوان إلى خنازير، ويحل الليل لتظهر الأرواح ويصير على الطفلة عبء إنقاذ أبويها من لعنتهما.

يُجسد «ميازاكي» في فيلمه اليابان في القرن الـ19 حيث العالم مُنقسم طبقيًا بشكل كامل، عالم أقرب للعبيد والسادة، يصعب أن يحيا فيه طفل فضلًا عن أن يقوم بدور بطولي، عالم يُشبه الوقت الذي ولد فيه ميازاكي، ودور يشبه الدور الذي تمنى فعله لإنقاذ أبويه وضحايا الحرب.

مشهد من فيلم «Spirited Away»

لا تنجح «شيهيرو» في مهمتها لكونها الأقوى أو الأكثر شجاعة، إنما لكونها الأسرع تأقلمًا في البيئة الجديدة، لكونها طفلة، لا يجد الأطفال صعوبة في قبول الخيال بكل غرابته، والتأقلم معه، لذلك في كل أفلام «ميازاكي» يكون الأطفال دومًا أكثر رهافة للأرواح القديمة الكامنة في الجمادات، والغابات، والكيانات الخيالية التي يُمكنها المساعدة.

 يؤمن ميازاكي أن وصفة نجاته من الحرب هي أنه قضاها طفلًا، يرى الطائرات كوحوش معدنية، والنيران كأرواح غاضبة، والدمار كساحة تم تفريغها من زحامها للعب، ذلك الخيال الطازج هو ما جعله ينجو وهو ما جعله يُنتج عوالم خيالية طازجة للأطفال وهو شيخ سبعيني. تنجح «شيهيرو» في إنقاذ أبويها وتحرير صديقها من اللعنة.

مشهد من فيلم «Spirited Away»

في الفيلم يُخبرها صديقها ألا تنسى اسمها أبدًا، لو نسي المرء اسمه سينسى هويته برمتها، لذلك عندما تعود الأسرة للعالم الحقيقي لا يتذكرون ما حدث أبدًا بينما تتذكر هي، يصعب أن تتذكر الأم أو الأب كيف خلقت حادثة صغيرة في طفولة الابن «ميازاكي» كينونته كاملة؟ لكن الابن لم ينس أبدًا كادر العجز الذي أطر طفولته والأسرة التي لم تتسع لها الشاحنة، لو كان هذا مشهد من سينما «ميازاكي» كان سينجح الطفل ببطولة وبعض الذكاء في إيجاد مكان لتلك الأم.

في فيلمه الشهير My Neighbor Totoro الذي يدور حول أب ينتقل للسكن بطفلتيه في الريف ليكون قريبًا من المشفى الذي يُعالج الأم المريضة. تنجح الطفلتان بسهولة في التواصل مع أرواح الغابة التي تقوم بإنماء البذور وحراسة الأرض.

مشهد من فيلم My Neighbor Totoro

وعندما يستبد بالطفلتين الخوف من موت أمهما، تتحول الأرواح إلى شاحنة عملاقة على شكل قطة، شاحنة تسع الجميع، تخوض بها الطفلتان رحلة خيالية لتضعا ذرة طازجة أمام نافذة المشفى الذي ترقد به الأم.

مشهد من فيلم My Neighbor Totoro

في سينما ميازاكي الطفل يُنقذ العالم، يطير عبر آلات سحرية لا تقصف المدن، قد ينقذ الطفل عالمه من تلوث صناعي يُدمره، من حرب بين وحوش الغابة والبشر، وقد لا تتعدى مُهمة الإنقاذ جلب ذرة طازجة إلى أم ترقد في فراشها، مُهمة ربما وجدها «ميازاكي» في طفولته بطولية لأم رقدت على فراش المرض حتى موتها.

يعي «ميازاكي» جيدًا أن أفلامه خيالية وأن القدر أكثر قسوة من أن يمنح الأطفال تلك القدرة على تغيير مصائرهم مثلما لم يمنحه قدره القوة لإنقاذ أمه أو أبيه أو وطنه من الحرب، لكنه يقول بحكمة عجوز يستعيد الطفل الذي كانه:

ما يحرك شخوصي هي إرادتها، أنا لا أرسم القدر أنا أرسم الإرادة

شخوص «ميازاكي» هم بتعبير كونديرا الشهير (قدراتي غير المُتحققة) الإرادة التي امتلكها، وإن لم يمنحها القدر ساحة للتجلي والحضور.

الأفلام بصمة أرواحنا لا مهاراتنا المقلدة

كن صادقًا وأصيلًا لصنعتك من دون تظاهر، يأتي الندم عندما أصنع فيلمًا لا يعبر بصدق عما في قلبي.
هياو ميازاكي

في فيلمه Kiki’s Delivery Service تنحدر الطفلة «كي كي» من نسل ساحرات قديرات ومُتمكنات، لذلك عندما تبلغ الثالثة عشرة، يصير عليها أن تكمل عامًا للتدريب بعيدًا عن والديها وقريتها، تجد فيه موهبتها السحرية بنفسها، تحط «كي كي» برحالها في مدينة «كوريكو» وتعمل في خدمات التوصيل عبر مقشتها السحرية.

مشهد من فيلم Kiki’s Delivery Service

على مدار الحكاية تفقد «كي كي» قدراتها السحرية، لا تستطيع الطيران بمقشتها، يتعقد مأزقها فهي لا تستطيع العودة بفشلها لقريتها ولا تستطيع تأدية وظيفتها في «كوريكو» من دون قدراتها السحرية، تقول:

لو فقدت سحري سأفقد ما أنا عليه

تُخبرها صديقتها:

على كل إنسان أن يبحث عن الروح الكامنة خلف ما يفعله، هناك روح خلف مهارة الخباز، وريشة الرسام، وسحر الساحر، تلك الروح أكثر أهمية من الفعل نفسه.

تتحرر «كي كي» من شكوكها الذاتية عندما تجد تعريفًا لكينونتها لا يرتبط بأسرتها ولا تاريخها السحري ولا قدراتها الموروثة.

مشهد من فيلم Kiki’s Delivery Service

يؤطر الوثائقي العلاقة المتوترة بين «ميازاكي» وابنه صانع الأفلام «جورو» الذي يحيا في ظل أبيه وعباءته الأسطورية بينما يحاول إيجاد طريقه الخاص في عالم غيبلي بعيدًا عن نفوذ وشهرة الأب.

صنع «ميازاكي» الأفلام ليرى فيها انعكاسات أكثر جمالًا لأبيه وأمه وطفولته، لكنه يقول إنه صنعها كذلك لطفله الذي أحب الرسم كثيرًا فاستمر والده في الرسم لكي يجعل الابن سعيدًا، ولكن بالوقت انهمك «ميازاكي» في مشروعاته تاركًا الطفل وحده، يقول «جورو» إنه تربى عبر أفلام والده وليس عبر حضور والده ذاته. صارت الأفلام سبب غياب الأب وتعويضًا عن حضوره كذلك.

بورتريهات ذاتية برسم ميازاكي

ينتقد «ميازاكي» بشراسة مُحاولات الابن المصطنعة للمبالغة في زخرفة رسوم أفلامه بدلًا من منحها روحًا وصدقًا يخصها، يقول «ميازاكي» إنه اتبع طوال حياته قاعدة «نطاق 3 أمتار»، لا يحتاج أكثر من ملاحظة العالم في هذا النطاق حول الاستوديو، ليأتيه الإلهام.

مشهد من فيلم My Neighbor Totoro

ولد فيلم My Neighbor Totoro ومشهد انتظار البطلة الشهير للحافلة جوار روح الغابة من رؤية «ميازاكي» للبشر المنتظرين أمام محطة الحافلات المجاورة للاستوديو، بينما خلال الوثائقي يُثبت كاميرا في سيارته لتسجيل المشاهد التي يراها يوميًا ليعود في منزله بحثًا عن الإلهام فيها، يرى ميازاكي أن اليومي كافيًا بما يقدمه من مادة لإثارة الإلهام، مادامت أسئلة الروح حاضرة. فالخلق حسب تعريفه هو أن ترمي خيط صيد في عقلك لا في العالم، الإجابات هناك.

وجد «ميازاكي» أسئلته من طفولته وطبيعة والديه، على الابن فقط أن يجد أسئلته ولا يحاول خلق سينما بلا روح يحاول فيها التفوق على والده وحسب. إن وجد روحه الخاصة سوف ينصاع له السحر والخيال والحكايات مثلما وجدت «كي كي» طريقها لتصير ساحرة مثل أمها ولكن بطريقتها الخاصة.

الأفلام تجبر عجز الواقع

خلال الوثائقي نرى تقلبات «ميازاكي» كاملة بين العجوز الطيب والنزق والصبور والعجول، يقول ميازاكي إنه صادق في كل أحواله، وأصدق أحواله هو أنه رجل قلق دومًا يود أن يكون وحيدًا مع أفكاره، يخجل ميازاكي من الكاميرا ويخجل من الحديث عبر ذاته التي يؤمن أنها موزعة بأسئلتها وأجوبتها كاملة في أفلامه، قائلًا:

الأفلام انعكاس المخرج، إنها تعري من أنت مهما حاولت إخفاء ذلك.
جدارية لميازاكي بإحدى مدن اليابان

لم يستطع ميازاكي إنقاذ أمه، لم يستطع إنقاذ أبيه من صناعة وحوش معدنية جميلة قامت بمحو مدن كاملة، لم يستطع إنقاذ أمه من مرض يقتل جسدها ببطء، لم يستطع إنقاذ سيدة غريبة تبحث عن مكان في شاحنة مزدحمة لتنجو من القصف، لكنه خلق قوارب إنقاذ خيالية لكل تلك الحكايات، يٌشكل الواقع نصف عالم ميازاكي والخيال نصفه الآخر. في نصفه عجز ونصفه الآخر نجاة، يقول ميازاكي عبر أفلام صنعها رجل لإنقاذ الطفل الذي كانه:

ربما الهدف من كل أفلامي، أن أخبر طفلًا أن الحياة تستحق العيش … عليك فقط أن تحيا.