يمثل السيد هيثم منَّاع الناشط الحقوقي السوري أفضل تجسيد للتيار الغالب في العلمانيين العرب اليوم. فبعد قرنين من الحملة الفرنسية التي احتلت مصر والتي نقلت أول تصورات علمانية للعالم العربي، وما تبع ذلك بقرن حين كتب فرح أنطون كتابه الأشهر ابن رشد وفلسفته، وفي الإهداء كتب جملته الشهيرة: «إلى العقلاء من كل ملة وكل دين في الشرق الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانبًا في مكان مقدّس محترم ليتمكنوا من الاتحاد اتحادًا حقيقيًّا، ومجاراة تيار التمدن الأوروبي الجديد»، لا زال العلمانيون العرب يعتقدون أن العلمانية في هذا الشرق لا يمكن فرضها إلا بالإكراه على غرار العلمانية الأتاتوركية المحمية بالجيش والدولة، وأنه إذا ما هدَّدت الحريات العامة القيم العلمانية فلتذهب الحريات إلى الجحيم ولتبقى العلمانية ولو كانت علمانية إرهابوية كعلمانية النظام السوري والليبي.


لماذا انقلب هيثم مناع على الثورة السورية؟

كان السيد هيثم مناع من أوائل الداعمين للثورة السورية في الأسابيع الأولى، لدرجة أنه على قناة الجزيرة القطرية، كان من أوائل المتحدثين عن الحراك في سوريا، وأنه ثورة. وبعد أن تم قمع المظاهرات السلمية باستخدام الجيش، وبعد أن استخدمت المدفعية والطلعات الجوية لفض التظاهرات، وظهور فيديوهات تعذيب المعتقلين، كان رد الفعل الطبيعي أن يقرر غالبية الشعب السوري أن يلتفوا حول شعارات طائفتهم ضد إرهاب دولة تقوده إحدى الأقليات.

عندها غيَّر هيثم مناع أقواله مع ظهور الشعارات الإسلامية، وأصبح يتحدث عن السلاح رغم أن الثورة في ذلك الوقت لم تتسلح؛ ولكن هيثم مناع فكّر بعقلية أقلياتية فاعتبر نفسه في تلك اللحظة من الأقلية العلمانية التي يحمي بشار الأسد مصالحها، وتعامل على هذا الأساس معتبرًا أن بشار الأسد ونظامه أصبح يمثله أكثر من ما تمثله شعارات المتظاهرين في شوارع حماة وأزقتها وحمص وريفها ودرعا والدير.

المرء يتعجب في الحقيقة من سلوك منّاع، فالرجل لم يعد يثق في شعبه رغم أن الشعب السوري معتدل دينيًّا، وما يجسد هذا الاعتدال أن مؤسس أكبر حزب في سوريا «حزب البعث» هو ابن إحدى الأقليات، وأن الإخوان المسلمين السوريين وزعيمهم مصطفى السباعي كانوا حلفاء لرئيس وزراء مسيحي؛ فما الذي جد حتى يختار هيثم مناع بملء إرادته أن يتحالف مع النظام السوري مرة، ومرة مع الوحدات الكردية ذات التوجه الانفصالي الصارخ؟.

في الحقيقة لا يوجد سبب يدفعه لذلك سوى الرابط الوحيد بين البعث والميليشيات الكردية، وهو الرابط العلماني. هل بسبب العلمانية يقبل هيثم مناع بغارات البراميل المتفجرة والتهجير القسري للسكان المحليين؟!، وهل العلمانية هي قرار يُفرض بقوة السلاح من الدولة على الشعب؟، وهل عدِمت العلمانية مدافعين عنها حتى يقاتل في سبيلها ميليشيات حزب الله؟!.

إن افترضنا جدلاً أن فرض العلمانية ممكن، فهل ما يطمح إليه هيثم مناع الحقوقي الشهير، علمانية دوغمائية كعلمانية كوريا الشمالية، أو، على أفضل الأحوال، علمانية نظام الرئيس فلاديمير بوتين، أم ما يطمح إليه هو علمانية ليبرالية؟. يقول فيلسوف الليبرالية العظيم جون ستيوارت ميل مهاجمًا الاستعمار الإنجليزي للهند: «إن السماء لم تكلف الإنجليز بأن يحتلوا الهند لينشروا فيها الحضارة ويحاربوا التخلف، فإن من حق المتخلف أن يظل كما هو طالما أنه لن يعتدي على حريتك».

ما فائدة علمانية الوحدات الكردية إذا كانت تتحدث عن ما تسميه بروج آفا وتوحيد أقسام كردستان. لا فائدة ترجى من أي علمانية قومية. وكأن السيد مناع لم يستوعب الدرس الذي تعلمته شعوب أوروبا التي حاربت القومية، هذه الفكرة التي ولَّدت الفتن والحروب في القرن الماضي قبل أن يأتي إرهاب الجهاديين ويخطف الأضواء من الإرهابيين القوميين ومنظماتهم المتطرفة.

وحتى بعد أن استقال السيد مناع من رئاسة مجلس سورية الديمقراطية فإن هذا لا يعفيه من تحمل دور المحلل لهذه الوحدات التي بسببه وبسبب غيره أصبحت تتحدث باعتبار أنها ليست عنصرية بدليل أن فيها ممثلين من كل جهات سوريا، كما يخدع النظام السوري بعض المغفلين عندما يتحدث عن أن فيه ممثلين من كل طوائف سوريا مستخدمًا أسلوب الترميز التضليلي، فيحدثك النظام عن فاروق الشرع و نجاح العطار و…

وفي الحقيقة إن كل من يذكرهم النظام هم من المسؤولين المدنيين الذين لا يملكون سلاحًا، ومعلوم في العالم الثالث أن الحاكم الحقيقي للدولة هو الذي يستطيع احتكار حق استخدام العنف. مهما كان لرئيس الدولة من شرعية فإنها تتبخر مع أول مواجهة مع حملة السلاح الشرعيين في الجيش والشرطة والأمن.


العلمانية ليست حلًّا لمشكلة الأقليات

الأستاذ جورج طرابيشي صاحب الهرطقات له فكرة جميلة هي أن العلمانية هي حل وحيد لحل الإشكال الإسلامي الإسلامي قبل حل مشكلة الإسلامي المسيحي. في الحقيقة أنا أختلف مع هذا العملاق، وأقول له: لماذا نشأت الطائفية في داخل الدولة الحديثة ولم تنشأ قبلها؟، وهل انتبه السيد طرابيشي لانتقادات كارل ماركس في «المسألة اليهودية» للواقع الفرنسي؟. فرغم الدستور العلماني استمر الاضطهاد يلاحق اليهود في فرنسا؛ وبالتالي فإن العلمانية ليست حلًّا بالتأكيد لليهود في ألمانيا.

وأزيد على انتقادات ماركس للعلمانية فأقول: الطائفية تنشأ دومًا بسبب محاولة الأقليات احتكار السلطة. فالصراع الطائفي في جوهره ليس صراعًا على موارد اقتصادية أو على احتكار الحقيقة الدينية كما يزعم العلمانيون؛ بل إن الصراع الطائفي في جذره صراع سياسي يأتي دومًا نتيجة لأن الأقليات يصعدون أو يحاولون الصعود للسلطة على حساب الأغلبية. فالأمثلة التي ساقها طرابيشي في كتابه هرطقات للصراع السني الشيعي كلها كانت مرتبطة بصعود الأقلية البويهية للحكم في بغداد، ومحاولتها اضطهاد الأغلبية. ومصر مثلًا لم تعرف الفتنة الطائفية بين مسلميها ومسيحييها قبل صعود الأقباط للسلطة متحالفين مع الفاطميين أولاً، ثم مع الفرنسيين ودولة محمد علي ثانيًا. وكذلك الحال في كل مناطق الصراع الطائفي في العالم العربي من العراق مرورًا بسوريا وحتى اليمن؛ كلها بدأت بصعود أقلية للحكم بالقوة سواء بشعارات القومية العربية أو بشعارات المسيرة القرآنية أو الصحوة الإسلامية.


لماذا فشل المشروع الحداثي في العالم العربي؟

أزمة المشروع الحداثوي العلماني في العالم العربي هو عدم اهتمام هذا المشروع بقيمة الحرية مقدار اهتمامه بقيمة المساواة؛ ربما لأن أغلب الحداثويين العرب هم من خلفيات يسارية، واليساريون هم أكثر من يكره الحريات باعتبارها إحدى ألاعيب البرجوازية؛ ولذلك فإن فلاديمير لينين اعتبر أن الحرية هي التحرر من الفقر!.

باعتبار أن جوهر الماركسية هو احتقار للذات لصالح المجموع، ربما تكون التجارب اليسارية قدمت نماذج ناصعة في العدالة الإجتماعية، لكنها لا زالت عاجزة عن تقديم أي نموذج تحرري حقيقي (لا أقصد التحرر من الاستعمار) يُعنَى باحترام الفردية؛ فكانت الدول اليسارية هي أسوأ الدول في تطبيق قوانين حقوق الإنسان، ويعيش مواطنو تلك الدول تحت حكم الحزب الواحد والإعلام الواحد، وفي بعض الحالات: الأسرة الواحدة (تجربة كوريا الشمالية، وكوبا، والنظام السوري).