الأرض جوعى وتستعد لاستقبال لُقمة دسمة وكبيرة، فرحت الأرضُ كثيرًا باستقبال جسد مولانا جلال الدين الرومي، ولم تلق بالا لمن يبكيه من المسلمين أو المسيحيين أو اليهود، يُقال إن ضجّة كبيرة صارت في قونية حينما أعلن نبأ وفاة هذا الصوفي الكبير، فقد صارت قونية بلدة عظيمة بسببه، وحتى يومنا هذا من الطبيعي أن تسمع وتقرأ لافتات مكتوبة تخبرك أن قونية بدون مولانا لاشيء.

لا يزال الناس يهرعون لزيارة تلك البقعة التي تضم رفات مولانا جلال الدين أملاً في بث شكاياتهم كما بثّ شكواه هو عبر آلاف الأبيات الشعرية الرائعة، باكيًا فرحًا مسرورًا مندهشًا معلّمًا شارحًا رامزًا باسطًا يدًا للمريدين والأحباب ورافعًا يدًا لرب السماء طالبًا لقاء مفتوحًا وقبولاً دائمًا، فخدمة العباد الراغبين في الحياة حياة لقلب هذا الجميل.

حينما نقرأ ما كتبته شيمل عن مولانا لا نقرأ نصًّا استشراقيًا صاحبه هوس الغريب والنبش في أمور لم يعتد المسلم أن يفكر فيها، بل نقرأ نصًّا لمسافر (في) قلب الإسلام وروحه وإن كان منهجها في الكتابة حسب تصنيف الدارسين منهجًا ظاهراتيًا.. سافرت شيمل عبر روحها أولاً ثم عبر أرواح صادقة استطاعت أن تسافر في (الشرق) وفي (الله) أوصلتها بركة مولانا إلى بلاد الأناضول تدرّس الأديان وستعود إلى تركيا بعد ذلك لتتسلم الدكتوراه الفخرية من جامعة سلجوق.

توزّع اهتمام شيمل على كافة فروع الإسلاميات فما اقتصر نشاطُها البحثي على التصوف فحسب، ففي الخط والرسم والفنون كان لها إسهامها، وفي الأدب العربي كذلك، وفي الحوار الإسلامي المسيحي، وفي التاريخ، وكذلك في تحقيق النصوص، وما إن نقف على عتبات نصوصها تقابلنا زهور المتصوفين.

منذ وقت مبكّر في حياتها –كما تخبرنا شيمل في سيرتها- كان الورعُ الصوفي يبهرها، خاصة في ترجمات الألمان لروائع الشعر العربي والفارسي، وقد فتنتها بشكل خاص في هذه الفترة ترجمة فردريش رويكرت Ruckert لأشعار جلال الدّين الرّومي التي نُشرت عام 1820م، وببساطة المحبّ تروي في سيرتها أنها ابتاعت من أول مرتب حصلت عليه كتاب المثنوي المعنوي للرومي، الذي سيصبح خير صديق لها في أسفارها.

زيّنت أنا ماري شيمل أوراقها ودفاترها الخاصة بأبيات من أشعار مولانا، وضمن مقتنياتها الشخصية نجد صورًا ورسومات للوحات خطّية بعضها مكتوب بالفارسية والتركية (يا حضرة مولانا) وبعضها مكتوب بالعربية (الحركة بركة) لا شيء من هذه المقتنيات جُمع من باب اشتهاء الحصول على شكل زخرفي فحسب، بل تعبّر كل ورقة عن رحلة حياة للسيدة مع (شرقها المحبوب) أو (شرقها المتخيل) كما يقول معاصروها.

رأت شيمل في مولانا جلال الدين الرومي الرجل الذي لا ييأس حتى في الساعات الأكثر عتمة، وفي الأوقات الأكثر شدّة، ومن الكوارث نفسها يستخرج عناصر الأمل والتفاؤل .. وقد مكنتها أشعار وكتابات الرّومي من التغلّب على اليأس والتشاؤم اللذين أصابا روحها. لذا لم يكن غريبًا حضور الرومي بكثافة في إنتاجها.

تعلّمتْ شيملُ الكثيرَ من دروس مولانا جلال الدين، واستحضرته في لقاءاتها العلمية ومحاضرتها، وكانت تحفظ الكثير من حكايات المثنوي، وحِكم الرومي الغزيرة المعنى، وحاضرت عن الرومي في إيران وطشقند وبخارى وباكستان وأفغانستان وأمريكا وتركيا وغيرها من البلدان، أينما ذهبت كان الرومي مرشدها وموضوعها الأبرز.

لم تنس شيمل في محاضراتها المركّزة عن مولانا بعض التفاصيل التي تبدو تافهة وصغيرة، فالهرّة التي كانت تعيش في بيت مولانا بعد وفاته لم تطعم شيئًا وحزنت عليه وما لبثت أن ماتت ودفنت في جوار مقامه! مثل هذه المعلومة تجعلني لا أندهش وأنا أقرأ لشيمل أنها تمنت أن تكون قطّة في عصر مولانا تجلس بجواره وتسمع الأشعار والعظات وترى شمس تبريزي وتتحدث مع سلطان ولد وتناقش العلماء المعاصرين له في النظريات الصوفية، فتتحدث مع صدر الدين القونوي وتسمع منه شرحه لأفكار ابن عربي، وتعرف من نجم الدين داية الرازي كيف استطاع أن يكتب نصّه المهيمن (مرصاد العباد) الذي ذاع في قونية وانتشر في أرجاء البلاد وصار دليلاً ومرشدًا للصوفية والسُّلاك في الهند.


يا حضرة مولانا

«يا حضرت مولانا» على مقام الرومي

كيف تجلّت حياة جلال الدين الرومي عبر الزّمان؟

تجيب شيمل على هذا السؤال باستعراض جغرافية الحضور المولوي فتتحدث عن بلخ التي كانت في العهد الغابر أحد المراكز العلمية الإسلامية. فالمدينة القديمة قد لعبت دوراً هاماً خلال مرحلة نشأة التصوف في الشرق. كما أنجبت العديد من العلماء خلال القرون الأولى للهجرة و لما كانت في العهود الغابرة مركزا بوذيا، فيحتمل أن يكون مناخها وسكانها قد لعبوا دور الوسيط في نقل بعض الأفكار البوذية التي انعكست في اتجاهات عصر التصوف الأولى. أولم يولد إبراهيم ابن أدهم، أمير الفقر الروحي، في وسط رفيع في بلخ؟! ولا ريب بأن قضية تحوّله، هي أشبه ما تكون بأسطورة زهد بوذا وتحوّله [1].

لو كان للعقل أن يتبين سبيل الهداية وصراطه المستقيم، لكان فخر الدين الرازي حامي حمى الديانة وصاحب أسرار الدّين.[2]

تناقش شيمل ما أثير حول خصومة والد مولانا جلال الدين والمفسر الشهير الفخر الرازي، وتغوص في أشعار مولانا كاشفة عن أثر هذه الخصومة بين نمطين من أنماط التفكير الديني لطالما شهدنا صراعًا دائرًا بينهما ومسجالات عدّة خلّدتها الآثار. ولا تكتفي شيمل بالحديث عن الخصومات بل تجمع في طيّات حديثها عن مولانا سير وأخبار كثير من الصوفية المعاصرين الكبار من أمثال الشيخ الأكبر ابن عربي، وتتحدث عن الرحلة العلمية لمولانا جلال الدين الرومي في بلاد الشام التي تلقّى فيها تعليمًا دينيًا ظلّ أثره واضحًا في مؤلفاته الشعرية والنثرية، فمن يقرأ أشعار الرومي سيجد حضورًا واضحًا لشعراء العربية الكبار من أمثال أبي الطّيب المتنبي [3]، ولا يعجزه أن يتعرف على معالم الثقافة الدينية الواسعة عند الرومي.


شمسُ تبريزي

من هو هذا الرجل، الذي تسبب في ذلك الانقلاب الشمولي لحياة مولانا جلال الدين الرومي؟

ليس لدينا من المعلومات ما يؤكد موضوع انتماء التبريزي إلى أيّ من السلاسل الصوفية، بل إنه كان يدعي لنفسه تسلّم خرقة التصوف من النبي صلى الله عليه و سلم مباشرة [4]. وليست تلك الخرقة المادية التي تتسخ وتبلى، بل هي خرقة الصحبة التي لا تقوى عليها الأيام. هذا ونتفق مع العالم التركي عبد الباقي كُلْبينارلي على أن شمس الدين قد كان، قلندراً، أو درويشاً متجولاً. وهو إن لم ينتم إلى جماعة بعينها، فقد كان أقرب، ما يكون إلى فرقة الملامتية، تلك الفرقة التي يسعى أفرادها إلى إثارة سخط الجماهير عليهم، بممارستهم لأعمال تدعو، بظاهرها، إلى الملامة والانتقاد [5].

تناقش شيمل ما أثير حول هذه الشخصية الغامضة معتمدة على المصادر التاريخية التي عاصرت الرومي أو كُتبت بعد وفاته، في أسلوب قصصي يجعلنا طامحين إلى مزيد من المعلومات التي تكشف لنا أكثر عن شخصية شمس، وإن كانت شيمل تستند إلى جزء من «مقالات شمس» إلاّ أننا لا نزال في حاجة ماسة لقراءة هذه المقالات التي تجسّد لنا آراءه في كافة أمور التصوف في عصره.

جرّب مولانا كرامة الحبّ الكامل، فعاد بعد غياب شمس يتطلع إلى مرآة جديدة، فما كان إلاّ أن وجدها في ذلك الإنسان البسيط، صلاح الدين الذي تحقق فيه النقاء والخلاص من أدران الدنيا وسفاسفها، فزوّده ذلك الإنسانُ بالصداقة، وأتاح له فرصة طيبة ليجد فيها ذاته المقهورة حزنًا من جديد. وتركّز شيمل في معالجتها على وصف مولانا الصور المتغايرة التي يتجلى فيها المحبّ قائلاً:

إن الذي جاء لسنين خلت، تعلوه خرقة حمراء، جاء هذه السّنة وقد لفّه بنّي الرداء؛ والتركي، الذي أتاك حديثه في هذه السنة كعربي قد أتاك. الصديقُ واحدٌ وما يتغيّر سوى الرّداء؛ عاد إليك وقد استبدل الزّي بالرداء. القوارير هي التي تتباين، وواحدٌ هو الخمر.

أحبّ الرومي زركوب حبًّا جمًّا ووطد صلته به فعمل على تزويج ابنه سلطان ولد من فاطمة خاتون ابنة صلاح الدين، وقد أحبها مولانا وأنصفها كثيرًا على ابنه.

الأصل صلاحُ الدين زركوب وكل ما يمسّه يمسّ مولانا، لذا لا يتوانى مولانا عن نصرته ونصرة أبنائه ولو على حساب نفسه. نقرأ في كتاب «فيه ما فيه» في الفصل الثاني والعشرين توبيخ الرومي وتأنيبه لأحد الأشخاص المعروف باسم «ابن جاوش» لأنه لم يراع حرمة الشيخ صلاح الدين في غيابه؛ لذا وقع في ظلمات وغشاوات بسبب سبّه له! إذ قال ابن جاوش عن صلاح الدين زركوب «إنه ليس شيئًا».

ما أراده مولانا لنفسه حين انتقاله إلى حضرة ربّه فعله مع صلاح الدين زركوب، فبعد أن فارق صلاح الدين عالم الحياة الدنيا، لينعم بملكوت الحياة الروحية الخالصة، وما إن تمّ الفراغ من دفن جثمان الصديق الراحل حتى اشترك مولانا وأفراد عائلته وعدد من الأصدقاء بإقامة حفل سماعٍ ورقصٍ صوفيّ بهيج، تخللته آهات الناي وترجيعات الطبول. إذ أنّ الموت ليس بفراق، بل هو عُرسٌ من أعراسِ الروح.


[1] شخصية «إبراهيم بن أدهم» شخصية فريدة في تاريخ التصوف الإسلامي، وحياته تشبه حياة جوتاما بوذا، ومن هنا كانت مصدرًا لقصص كثيرة ونوادرٍ أمعن في الأسطورة منها في التاريخ. ويتفق «عبد الرحمن بدوي» في دراسته لتاريخ التصوف الإسلامي مع «جولد تسيهر» و«لويس ماسنيون» في كون أسطورة ابن أدهم تشابه أسطورة بوذا وأن أسطورة هذا الصوفي المسلم قد صيغت على غرار أسطورة حياة مؤسس البوذية، راجع تاريخ التصوف، الفصل الخاص بإبراهيم بن أدهم. ومن المفيد لمن أراد أن يتعرّف على مسيرة إبراهيم بن أدهم الصوفية في صورة مدققة، عربيًّا، أن يراجع دراسة محمد عبد الحميد محمد التي أنجزها تحت إشراف الأستاذ أحمد الجزار، وطبعت في دار الهدى، المنيا (صعيد مصر)، 2007.[2] يقول مولانا في المثنوي: إن قدم الاستدلاليين من الخشبِ، والقدمُ الخشبيةُ لا تمكين لها البتّة. ويقول أيضًا: إن المتفلسف لا قدرة له على أن ينطق بكلمة، ولو نطق بها لأتلفه الدّينُ الحقُّ، إن المتفلسف الذي ينكرُ معجزة الجذعِ الحنّان غريبٌ عن حواسّ الأنبياء.[3] أنجزت فرح ناز رفعت جو، دراستها عن «العرفان الصوفي عند جلال الدين الرومي»، وقد خصصت الباب الثالث من كتابها لدراسة شعر الحكمة والأمثال الحكمية لدى مولانا جلال الدين الرومي والمتنبي لتكشف عن مظاهر تأثير المتنبي في مطاوي مثنوي مولانا، نُشرت هذه الدراسة بالعربية في دار الهادي، ببيروت 2008م.[4] يقول شمس في مقالاته: كلّ إنسان يتحدث عن شيخه وقد أعطاني الرسول عليه السلام في المنام الخرقة، ولا أعني تلك الخِرقةُ التي تتمزّق بعد يومين وتهترئ وتُلقى في المواقد ويُستنجى بها. بل خِرقةُ الصُّحبة، الصُّحبةُ التي لا يتسعُ لها الفهمُ، الصُّحبةُ التي ليس لها أمس واليوم وغدًا راجع مقالات شمس نقلاً عن فرانكلين، ص 328.[5] ردد نفس الفكرة الأستاذ شتا في مقدّمته لترجمة المثنوي، فقال: «إن شمس الدين كان عارفًا فريدًا في بابه، ثائرًا متمردًا رافضًا لكل ما يؤمن به القوم، رافضًا تمامًا لأن يُعرف، وحيدًا منفردًا متميزًا في تصرفاته وأفكاره وأقواله وتعبيراته، ساخرًا من كل ما هو مألوف ومعترف به ومتعارف عليه، وكان يحس دائمًا أن فيه شيئًا ما، شيئًا لم يدركه شيوخه الذين حضر عليهم في سياحاته، ولم يكن ينزل في الزوايا والتكايا، بل في الخانات، ولم يكن يلبس لباسًا يدل على أنه من أهل العرفان، ومن هنا قيل: قلندر، أي درويش متجول وقيل ملامتي» مقدمة إبراهيم الدسوقي شتا للمثنوي 1/16.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.