محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2017/06/26
الكاتب
ليندروس فيشر
كان هلموت كول (1930-2017) هو من مهّد الطريق لهيمنة ألمانيا الحالية في أوروبا.

لم يجسد أي سياسي آخر بلاهة السياسة الألمانية في الثمانينيات ومعظم التسعينيات كما فعل هلموت كول. فباعتباره مستشارًا لألمانيا منذ 1982 حتى 1998، أشرف كول على إعادة توحيد ألمانيا ومعاهدة ماستريخت، وقام بتجسيد علاقة ألمانيا الغرامية بالسياسيين مفتقدي الكاريزما، ورسّخ توافقًا اجتماعيًا كاملًا قام بالإعلاء من مصالح رأس المال الألماني فوق الجميع.

أشادت بيانات النعي المنشورة في الإعلام الألماني بدور كول المحوري في التكامل الأوروبي. وحيوا إرادته التضحية بالمارك الألماني المحبوب لصالح اليورو في خطوة تتسم بنكران الذات لصالح أوروبا؛ مما أثبت أن ألمانيا تخلت للأبد عن طموحاتها الإمبريالية. وكان كول بعيدًا كل البعد عن كونه مثاليًا أو ذا رؤية، بل كان دائمًا في خدمة رأس المال الألماني.

لم يمتلك كول كاريزما ويلي براندت ولا مهارات هلموت شميت الخطابية، لذا اعتمد في بناء حياته المهنية على علاقاته الشخصية التي نماها في حقل الصناعات الكيميائية الألمانية القوي. ويمكن القول إن هذه الشبكة هي التي صنعت من كول مستشارًا، لكنها كانت أيضًا في قلب العديد من فضائح الفساد، وخاصةً قضايا متعددة للتمويل الحزبي غير القانوني.

نتيجةً لخصوصيات اقتصاد ألمانيا الغربية، أفلتت من الهجوم الرأسمالي الكاسح الذي وسم ثمانينيات القرن في بريطانيا والولايات المتحدة. إلا أن كول استغل البطالة المتزايدة في بدايات منتصف السبعينيات –ثم الإنشاء التالي لجيش احتياطي من العمال- كي يفرض تدابير نيوليبرالية.

وجعل كول من عكس مسار الإرث الاجتماعي لعام 1968 أولويته الأولى، كما فعل ريجان وتاتشر. فمن خلال شعاره «تحولٌ روحي-أخلاقي»، سعى لغرس روحٍ نيوليبرالية في بلده، وكذا تحرير السياسة الألمانية من القيود الأخلاقية المفروضة عليها من ماضيها القريب. أثمر هذا الجهد عام 1985 عندما زار هو وريجان مقبرةً لوحدات الحماية النازية SS في مدينة بيتبرغ الألمانية.

أدرك كول أن مكانة ألمانيا باعتبارها فاعلًا عالميًا تعتمد على تقوية التكامل الأوروبي. فأحلام إحياء القوة القومية، وليس الأخوة الأوروبية، كان كامنًا في اهتمامه بالعملة الموحدة. وسمح للولايات المتحدة بنصب صواريخ نووية متوسطة المدى على التراب الألماني، وتحت مراقبته، باعت الشركات الألمانية أسلحةً للمملكة العربية السعودية، ومكونات أسلحة كيماوية لصدام حسين.

وعندما برزت معلومات عن هذه الأخير، أثارت حالةً من عدم الثقة في إسرائيل، ولذلك أنشأ كول التقليد، الذي أصبح تقليدًا عريقًا الآن، الذي يقضي بإرسال غواصات نووية إلى تل أبيب. وبنفس روح دبلوماسية دفتر الشيكات هذه، مولت ألمانيا الحرب الأمريكية الأولى على العراق عام 1991.

واختبر كول مواطن قصور السيادة الألمانية الكاملة من خلال الاعتراف بالاستقلال الكرواتي والسلوفيني بشكل منفرد، رافعًا من تسارع انفجار الحروب اليوغسلافية الدموية، ومُلقيًا بالمعسكر الغربي كله في مستنقع البلقان.

وعلى الرغم من أن فترة مستشاريته مثلت تغيرًا جوهريًا في السياسة الخارجية الألمانية، إلا أن دوره في إعادة توحيد ألمانيا يعد أحد أبرز جوانب إرثه.

لم يقم كول بتوحيد الألمانيتين، بل رتب لضمٍ كامل لألمانيا الشرقية. فدفع من خلال وعده «بمجالات متفتحة» دفع في اتجاه توحيد سريع، وعطل أي محاولة لإقامة تحول ديمقراطي مستقل في ألمانيا الشرقية.

لم يؤدّ التوحيد إلى معجزة اقتصادية، بل دفع بالبطالة إلى عنان السماء. فقد أثبت كول ولاءه للطبقة الرأسمالية الألمانية من خلال تسليمه مرافق ألمانيا الشرقية لشركات ألمانيا الغربية المفترسة من خلال مؤسسة الثقة المسئولة عن الإشراف على عمليات الخصخصة الواسعة. عمليات البيع هذه كلفت عشرات الآلاف من عمال ألمانيا الشرقية وظائفهم. وبعد عام، رشقت الحشود في قاعة هال الشرقية «مستشار التوحيد» المزعوم بالبيض.

وبينما بدأت خيبة أمل الألمان الشرقيين في النمو، بدأ كول وحزبه الديمقراطي المسيحي (CDU) في التضحية بالمهاجرين، وتنظيم حملة للحد من حق اللجوء السياسي. أدى خطابهم إلى تمكين سلسلة جديدة من المذابح العنيفة من قبل نازيين جدد في ألمانيا الشرقية، كان أشهرها مذبحة روستوك في صيف 1992. وفقط عندما بدأت هذه الأحداث تؤثر على الصورة الدولية لألمانيا توقف كول عن سياساته.

وبحلول الوقت الذي خسر انتخابات 1998، كانت شعبيته قد انخفضت إلى أدنى مستوى. فبعد التوحيد، زادت البطالة، وركد الاقتصاد، وأصبحت ألمانيا «رجل أوروبا المريض».

أظهرت حكومة كول ترددًا في تطبيقها للإصلاحات النيوليبرالية. فبعض أعضاء ائتلافه خافوا من رد فعلٍ عنيف كإضرابات القطاع العام الفرنسي عام 1995، بما أن الاتحادات الألمانية كانت لا تزال قوية.

فبعد ستة عشر عامًا في الحكم، أصبح كول يمثل كل شيء يكرهه المواطنون عن الرأسمالية الألمانية؛ ميلها نحو الفساد، صفقاتها الخفية، عدم اهتمامها بالبيئة، عنصريتها الواسعة، وعلاقتهم الخبيثة بالمستبدين. [ساعتها] انتهت فائدة كول لطبقته، ووضع رأس المال رهانه على ائتلاف الحزب الديمقراطي الاجتماعي والخضر تحت قيادة جيرارد شرودر.

فبعد ضمان خضوع الاتحادات، نفّذ هذا الائتلاف أكبر مشروع إعادة هيكلة نيوليبرالي في تاريخ ألمانيا الحديثة. فمن خلال تقديم نفسه باعتباره «طريقًا ثالثًا» نشطًا بديلًا عن كول، بنى شرودر على ما تركه سلفه، محققًا أكثر مما تمنى المسيحيون الديمقراطيون أنفسهم.

وأطلق شرودر أول تدخل عسكري ألماني منذ الحرب العالمية الثانية في صربيا، وهو القرار الذي يدين لكول بالكثير نتيجة حزمه الشديد بعد التوحيد. وأيضًا، تضافرت لبرلة شرودر لسوق العمل والتخفيض المستمر للأجور الحقيقية، مع بنات أفكار كول في قضية العملة الموحدة لتؤدي إلى الوضع الحالي في أزمة منطقة اليورو.

وفي حالة نموذجية من إعادة التدوير، سلّم شرودر المستشارية إلى مستشار جديد من الحزب الديمقراطي المسيحي CDU عام 2005؛ إلى تلميذة كول السابقة، التي دعاها بمودة بـ «البنت». رسّخت آنجيلا ميركل ما ورثَه سلفاها، متمسكة برؤية كول عن أوروبا تهيمن عليها ألمانيا، وبالواجهة الليبرالية الاجتماعية التي بناها شرودر.

يُذكر هلموت كول اليوم بشكل عام باعتباره سياسيًا خرج بفضيحة، حيث أدى تحقيقه لعملية التوحيد إلى إنشاء هامشٍ متخلف وغير صناعي بشكل مزمن في شرق البلاد. لكن، تظهر ميركل على الجانب الآخر باعتبارها قائدة النظام الليبرالي المتنور الذي يواجه هجوم عصر ترامب. إلا أنه لا يزال السعي الحثيث لكول من أجل مصالح ألمانيا، وضمه العنيف لألمانيا الشرقية، هو الذي وضع أسس الهيمنة الألمانية.