كثيرون من كتاب وعلماء الغرب بمختلف تخصصاتهم تحدثوا عن العرب، لكن قليلين من أنصفوهم واعترفوا بإنجازاتهم سواء السياسية أو العلمية أو الأدبية خاصة بعد ظهور الإسلام وتبني العرب له. من بين هذه القلة المؤرخ والمستشرق الفرنسي لويس سيديو الذي قدم لنا كتابه «تاريخ العرب العام»، عام 1884م، تبنى فيه الرؤية العربية والإسلامية لتاريخهم السابق الذي اعتمد كثيرون من نظرائه الأوروبيين على تحريفه خاصة وقت وقبل ظهور كتابه بسنوات في ظل موجة الاستعمار الأوروبي التي اجتاحت هذه الدول وكان لا بد من إظهارهم بمظهر المتخلفين والوحشيين طوال تاريخهم تبريرًا لاحتلالهم وسرقة ما في أيديهم.

كتاب تاريخ العرب العام لويس سيديو ترجمة عادل زعيتر  تعليق سارة مجدي
كتاب «تاريخ العرب العام» – لويس سيديو – ترجمة: عادل زعيتر – تعليق: سارة مجدي

قد يرى كثيرون أن كتاب سيديو لم يقدم جديدًا من حيث المعلومات باعتبار أن هذه أمورًا معلومة لدى علماء العرب والمسلمين، إلا أن أهميته تنبع من توقيت كتابته وتبنيه رواية أصحاب هذه الحضارة ومخالفته الواضحة لأقرانه الأوروبيين. تقديم سيديو هذه الرؤية للقارئ الأوروبي أمر مهم ينبغي التوقف عنده كثيرًا ومعرفة طريقة رؤيته لتاريخ الحضارة العربية والإسلامية، الأمر الذي سيتضح لنا خلال عرضنا لكتابه «تاريخ العرب العام».

الدولة الإسلامية تشق طريقها

الجنة أمامكم والنار خلفكم

بهذه الكلمات المبشرة بالجنة والمثيرة للحماسة، انطلق المسلمون نحو الفتوحات. كان عام 633م بداية الانطلاقة حيث حكم الخلفاء الراشدون بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفي مقدمتهم الصحابي أبو بكر الصديق.

ورغم عدم إلمام المسلمين العرب بطرق تعبئة الجيش العلمية، فإنهم اهتموا بمعرفة استعدادات أعدائهم الحربية وطرقهم العسكرية؛ فأخذوا يقلدونهم حتى عودوا جنودهم الانتظام، وعرفوا كيف ينتفعون بفرسانهم بوضعهم على ميمنة الصفوف وميسرتها وقت القتال.

بدأت الفتوحات زمن أبي بكر بفتح العراق. كانت معركة ذات السلاسل أولى معارك المسلمين. ولاقى فيها الفرس هزيمة كبيرة. من بعدها توالت انتصارات المسلمين وبدأت الإمبراطورية الفارسية تتهاوى في المثني والبصرة والولجة والحيرة والأنبار وعين تمر والجندل؛ وغيرها من المدن حتى سقط العراق بأكمله.

بعد العراق، توجه المسلمون لمواجهة الروم في الشام استكمالًا للفتوحات، انتصرت جيوشهم في مؤاب، ثم في أجنادين وغيرهما من المعارك. استمروا في طريقهم حيث تم حصار دمشق وفتحها، والانطلاق إلى بعلبك وحمص وحماة ووادي اليرموك وحلب وأنطاكيا ومختلف المدن إلى حدود الأناضول.

لم يخلُ الأمر من الصعاب، إذ تعرضوا لغارات متكررة وهجوم مضاد من الفرس في العراق، أفقدتهم كثيرًا مما كسبوه. وفي هذه الأثناء، توفي أبو بكر الصديق، وتولى من بعده عمر بن الخطاب، فأعطى أمرًا بفتح سائر بلاد فارس عام 642م. لم يمض عامان على أمر الخطاب، حتى هُزمت الإمبراطورية الفارسية وفُتحت بلاد فارس برمتها.

شهدت خلافة عمر أيضًا اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية لتصل إلى مصر، وأرمينيا واستمرت في التوسع من بعده لتضم قبرص، وبعض دول شمال أفريقيا. لكن التوسع الحقيقي حدث مع فتوحات الدولة الأموية التي كان معاوية بن أبي سفيان أول خلفائها.

الخلافة الأموية: التوسع الحقيقي للدولة الإسلامية

تحت راية الأمويين امتدت الدولة الإسلامية حتى الهند. وصلت إلى أجزاء واسعة من الصين وحتى جنوب فرنسا. استطاعت بنجاح فتح إفريقيا وإسبانيا وأجزاء أخرى من أوروبا وغيرها. فنجدها توسعت في الهند وإلى حدود الصين بعهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان (705- 715م)، الذي أمر واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي بالتوسع في الفتوحات، فأرسل حملات إلى الهند بقيادة القائد العسكري قتيبة بن مسلم الباهلي الذي ولاه على خراسان، ومنها استطاع أن يعبر بلاد ما وراء النهر، ويضم بخارى وسمرقند إلى الدولة الإسلامية. كما مضى بالفتوحات إلى الحدود الشرقية للإمبراطورية الصينية، حيث فتح مدينة كاشغر التي كانت تعد أولى بوابات الصين الغربية.

وفي عام 714م تم فتح الأندلس (إسبانيا حاليًا) بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير، ليستمر العصر الإسلامي بها طيلة 800 عام. كان هذا الفتح أهمّ الفتوحات الإسلامية في أوروبا قاطبة. فبعده بدأ الإسلام ينتشر بأوروبا الغربية. ورغم أنه لم يحقق انتشارًا واسعًا، فإنه ساهم في تأسيس بعض الدول الإسلامية في شبه جزيرة إيبيريا.

إلى هنا وقفت الفتوحات العربية لخشية خلفاء بني أمية، اتساع الأقاليم وما قد يترتب عليها من مطامع قادة الجيوش واستقلالهم بما فتحوه من دول. أدت هذه المخاوف، إلى إطاحة بني أمية وفي مقدمتهم الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان، بكل من: موسى بن نصير، وقتيبة، وسبق هذا الإطاحة بطارق بن زياد لاستمراره في فتح إسبانيا، خشية استقلاله بها. ورغم أن هذه المخاوف لم تكن حقيقة، لكنها أدت لوقف تمدد الدولة الإسلامية.

رغم انتهاء الفتوحات حتى قبل انتهاء الدولة الأموية، لكن ذلك لم يعن نهاية لانتشار الإسلام. فخلال فترة الخلافة العثمانية، تم إنجاز عدد من الفتوحات الإسلامية في أوروبا، مثل فتح رومانيا والصرب والبوسنة والهرسك والمجر وألبانيا واليونان وجورجيا وكرواتيا، وأجزاء شاسعة من روسيا والقوقاز وشبه جزيرة القرم. كانت هناك أيضًا محاولاتٍ لفتح بلجراد وإيطاليا، وأثينا. وانتشر الإسلام بهذه الدول آخذًا طابعًا أوروبيًا ذات صبغة تركيّة.

فضل العرب على العالم

ما بين الخلافة الأموية والعثمانية، كانت هناك الخلافة العباسية. تلك الخلافة لم تستطع الحفاظ على الدولة الإسلامية مترامية الأطراف التي تركها الأمويون. فقد شهدت استقلال العديد من الأقاليم كما هو الحال في الأندلس التي استقل بها عبدالرحمن الداخل الأموي. ونشأت بعدها العديد من الدول مثل: السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا، والعراق الأدارسة والمرابطين والموحدين في المغرب، والفاطميين والأيوبيين والمماليك في مصر.

لكنها مع ذلك تميزت بازدهار الحضارة الإسلامية في مختلف العلوم في مقدمتها الفلك والعلوم الطبية والفلسفية وعلم الجغرافيا وغيرها الكثير. هذه العلوم لم يقتصر نطاقها على المسلمين العرب وحدهم، بل كانت عالمية الطابع، امتد تأثيرها لمختلف دول العالم والغرب، وكانت لها تأثيرها في النهضة الأوروبية فيما بعد.

اعتمد المسلمون في البداية على نقل وترجمة ما هو متاح من العلوم، لكنهم بعد ذلك، عمدوا إلى تنقيحها وتطويرها والإضافة عليها. فنجدهم مثلًا في علم الفلك، اعتمدوا في البداية على ترجمة مؤلفات اليونانيين والفرس والهنود والصينيين، فترجموا كتاب «المجسطي» لبطليموس في العصر العباسي.

ثم انتقلوا بعد ذلك للتأكد من دقة هذه المؤلفات ومحتواها. فأصلحوا غلطات كتاب بطليموس ونظريته الفلكية وقدموها بشكل جديد أكثر دقة. كذلك تم إنشاء العديد من المراصد الفلكية في عهد الخليفة العباسي المأمون، كان أبرزها في بغداد ودمشق وإيران، والمرصد الحاكمي على جبل المقطم بالقاهرة. وقد أغدق المأمون كثيرًا في تجهيز هذه المراصد وتزويدها بأحدث الأجهزة.

وكان أهم علماء المسلمين في ذلك الوقت، محمد بن جابر البتاني، الذي أثر على فلك القرون الوسطى، وفلك النهضة الغربية، عبر تتبعه لحركة النجوم لأكثر من ثلاثين عامًا في مرصد الرقة، في شمال سوريا، وحصوله على حسابات شابهت، إلى حد بعيد، الحسابات الحديثة. حتى قال عنه الغرب إنه بين المسلمين كبطليموس بين اليونان، وتمت ترجمة كتبه التي ذاع صيتها في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية. كذلك يحسب للمسلمين أيضًا حسابهم للخسوف والكسوف، ورصد الاعتدال الربيعي والخريفي.

وفي العلوم الطبيعية كالطب والصيدلة، قدم المسلمون إسهامات كبيرة للعالم عبر اتباعهم منهجًا علميًا في الوصول إلى الحقائق بدلًا من النظريات التي لا تستند إلى برهان أو دليل. وعبر اتباعهم لهذا المنهج تقدموا في علم التشريح. ومارسوا جراحة العظام والسرطان. واستحدثوا طرقًا جديدة لخياطة الجروح وتعقيمها في التخدير أثناء العمليات الجراحية.

ولعل أبرز علماء المسلمين بهذا المجال، ابن سينا، ويحيى بن ماسويه طبيب هارون الرشيد، الذي كتب في الطب كثيرًا من المؤلفات وتمت ترجمتها ونقلها إلى أوروبا. فضلًا عن الفخر الرازي محمد بن زكريا الذي ألف كتابًا من 20 مجلدًا في الطب ترجم أيضًا إلى اللاتينية. وبصفة عامة، فمؤلفات العلماء المسلمين، تمت ترجمتها ونقلها إلى أوروبا عن طريق الأندلس.

أما الكيمياء، فهناك أعمال جابر بن حيان الذي يعتبر أول من أسس علم الكيمياء بشكل صحيح ومنهجي، وطور طرق التبخر والتصفية والانصهار والتقطير والتبلور. والفيزياء هناك الحسن ابن الهيثم الذي ألف نظريات في البصريات والضوء، ومسائل مراكز الأثقال وصنع الميزان وغيرها. وإذا كان لعلماء اليونان الفضل الأول في وضع المبادئ الأولية لعلم الفيزياء، فالعلماء المسلمون كان لهم الفضل في ترجمته إلى العربية وتهذيبه وإيضاحه.

وفي الرياضيات، ترجموا هندسة إقليدس، وشرحوا مؤلفات أرشميدس، وكان لهم الإسهام المباشر في تطوير استعمال الأرقام، وانتقالها إلى أوروبا عبر انتقال طلبة العلم إلى الأندلس. واختراع الصفر بعد أن كان فراغًا حسابيًا عند الهنود. بخلاف تسهيل العمليات الرياضية التي مهدت لظهور اللوغاريتم. فضلًا عن إسهامات محمد بن موسى الخوارزمي في علم الجبر الذي وضع أصوله وجعله مستقلاًّ عن علم الحساب.

وفي الفلسفة، نجد أن الغرب دائمًا ما زعم أنه لم يكن هناك فلسفة عربية، والحقيقة أن هذا الزعم وإن دل فإنما يدل على جهلهم بأشغال العرب. فجميع الدروس بمدارس أوروبا في القرون الوسطى مستمَدة من مؤلفات العرب الفلسفية.

اطلع العرب على كتب أرسطاطاليس ومؤلفات أفلاطون وأرسطو وسقراط، وانطلقوا بعد ذلك في تقديم الإسهامات الفلسفية الخاصة بهم، فظهر أشهر الفلاسفة مثل الفارابي، وأصبحوا واسطة بين زمن الفلسفة القديمة والفلسفة التي يتم تدريسها في أوروبا.

ختامًا، تبنى سيديو الجانب الأكبر من الرواية العربية والإسلامية لتاريخهم، رغم عدم اعترافه بصحة دينهم ورسالة نبيهم، فإنه كان منصفًا فيما يتعلق بدورهم الحضاري والإنساني والسياسي، ولم يكن قلمًا إضافيًا في آلة التشويه الغربية لحضارة هؤلاء التي تجاوزت الألف عام وكانت أساسًا لجانب كبير من نهضة أوروبا التي ما زالت قائمة حتى اليوم، حتى إنها نهضة علمية وليست إنسانية أو عالمية في رسالتها كالحضارة العربية والإسلامية.