عندما أشرب القهوة معكِ … أشعر أن شجرة البن الأولى زُرعت من أجلنا.
نزار قباني

عبر التاريخ الإنساني المُدوَّن الذي نعرفه، لم ينل أي مشروب ما نالته القهوة من شُهرة واهتمام ذي طابع خاص جدًا؛ جعلها مقصدًا لتغني الشعراء والأدباء بمذاقها وتأثيرها على شاربها، خاصةً في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي، وشيوع استخدام السوشيال ميديا بمنصاتها المختلفة بين العرب؛ حيث أصبح احتساء القهوة بمثابة «الموضة».

بعدها انتشرت الكتابات التي تربط بين احتساء القهوة وصوت «فيروز» في الصباح، وهو ما يُضفي على الإنسان «رُقيًا» من نوع خاص، أُطلق عليه مع مرور الوقت «العُمق»، وهو ما تحوّل- فيما بعد- للفظ يُقصَد به السخرية ممن يتداولون هذا الكلام بجدية. إلا أن التاريخ يحمل لنا ما يجعل لهذا «العمق» جذورًا، حتى لو اختلفت الظروف بشكل كبير بين الماضي والحاضر.


القهوة و«فتنة» المزاج

كان الجدل هو الصاحب الأوفى للقهوة منذ انتشارها الأول، بدءًا من تسميتها نفسها؛ فقد ذكر ابن منظور في كتابه «لسان العرب»، المؤلَّف قبل اكتشاف البُن بقرنين تقريبًا أن: «القهوة: الخمر، سُميت بذلك لأنها تُقهي شاربها عن الطعام، أي تذهب بشهوته». فلفظ «القهوة» كان يُطلق على الخمر، خاصة «النبيذ»، وكل ما يُشرَب فيُذهِب شهية وعقل شاربه، حيث اشتق اللفظ من فعل «قهى»؛ لذا كانت دلالات الكلمة سلبية عند معظم الفقهاء والناس، مع بداية ظهور القهوة كمشروب بعد اكتشافها.

ويُقال إن أول من نقل القهوة من «الحبشة إلى اليمن» هو المتصوف «عمر الشاذلي»، وقد كان منتسبًا للطريقة «الشاذلية»، أحد الطرق الصوفية الممتدة حتى الآن؛ لذا سمّى بعض العرب القهوة باسم «الشاذلية» في بداية انتشارها، قبل أن يشيع مسماها «القهوة».

وقد جاءت التسمية بسبب ما لاحظه مكتشفوها في اليمن من تأثير تناولها على المزاج النفسي والحضور الذهني لشاربها، مرورًا بذيوع تناولها بين المتصوفة في «اليمن»؛ لاعتقادهم أنها تساعد عقل الإنسان على الوصول لأعلى درجات الصفاء الذهني، ومن هنا أطلق عليها البعض أيضًا «خمر الصالحين».

ثم وصلت القهوة مصر في القرن السادس عشر الميلادي، وذلك بحسب ما قاله جمال الغيطاني في كتابه «ملامح القاهرة في ألف سنة»، وكان أول من اهتدى إليها هو الصوفي «أبو بكر بن عبد الله» المعروف بالعيدروس؛ حيث وجد في سياحته شجر البن مهملًا متروكًا بالرغم من كثرته، فوجد فيه تجفيفًا للدماغ واجتلابًا للسهر، وتنشيطًا للعبادة، فاتخذه طعامًا وشرابًا، وأرشد أتباعه إليه.

ثم وصل أبو بكر إلى مصر عام 1500 ميلاديًا (905 هجريًا)، وهكذا أدخل الصوفية شراب القهوة إلى مصر، ومن هنا جاء انتشار المقاهي فيما بعد في محيط الجامع الأزهر، ووقتها انقسمت الآراء وتبارى الفقهاء كل بفتواه حول شرعية تناول هذا المشروب «القهوة»، حيث كانت تُشرب سرًا خوفًا من المفتي ومن عيون «البصاصين»، الذين كانوا يلقون القبض على من يشرب القهوة ويقدمونه للمحاكمة.

ومن هنا نجد أن موضة احتساء القهوة التي روّج لها بعض مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي لم تأتِ من العدم؛ فالرافد التاريخي لارتباط احتساء القهوة كمزاج من نوع خاص بالحالة الذهنية والعقلية للإنسان موجود وثابت فيما رواه المؤرخون، بل إن الأمر وصل إلى أن احتساء كوب من القهوة كان من الممكن أن يكلف شاربه حياته نفسها!

ففي القرن السابع عشر، أصدر السلطان العثماني «مراد الرابع» فرمانًا يوصي بإعدام كل من يتم ضبطه وهو يحتسي القهوة. لم يأتِ هذا القرار من العدم، بل كانت وراءه حرب قادها بعض رجال الدين ضد مشروب «القهوة» الذي بدأ شيوعه خلال هذه الفترة، حيث امتلأت المقاهي بالراغبين في مزاج «القهوة»، في مصر وسوريا واليمن وفي إسطنبول، مهد الخلافة العثمانية، وهنا بدأ بعض رجال الدين ذوي الحظوة لدى الخليفة العثماني في تحريم وتجريم تناول القهوة، وقالوا إن القهوة أفرغت المساجد من روادها، الذين ملأوا المقاهي، وعزفوا عن حضور مجالس العلم، حتى استقر رأي الأئمة -فيما بعد- على عدم حُرمانية تناول القهوة، بالرغم من تشبيه بعضهم لدوران القهوة بين شاربيها بدوران النبيذ بين السكارى.

وكعادة كل شيء يرتبط بمزاج الإنسان، وبتحسين حالته النفسية والذهنية، صمدت القهوة أمام كل الحروب ضدها، وزاد انتشارها بين البشر، ولم ينقطع الجدل حولها إلى يومنا هذا، بل ساعد في اتساع سوق استهلاكها حول العالم، وساعد مروجو القهوة ومن يتاجرون فيها في زيادة حالة الجدل هذه عن عَمد، من خلال الوسائل الدعائية المختلفة، بطرق مباشرة أحيانًا وأخرى ملتوية؛ مما جعل تجارة القهوة سوقًا اقتصادية مهولاً، لا يمكن تخيل حجم ضخامته إلا بالتتبع والنظر بدقة.


زمن القهوة: لكل مزاج ثمن

تُعد القهوة حاليًا ثاني أهم سلعة تجارية في العالم -بعد النفط- طبقًا لموقع factslides، حيث يصل حجم سوق تجارتها إلى نحو 100 مليار دولار، ويعمل فيه قرابة 25 مليون شخص، ما بين مزارعين وعاملين في مختلف النواحي المتصلة بالقهوة حتى تصل إلى شاربيها.

يصحو مليارات البشر حول العالم، وأول ما يفكرون به هو تناول «كوب القهوة» الذي يحمل مع رائحته بداية يومهم بشكل فعليّ، كلٌ منهم يتناوله من النوع الذي يفضله، وبطريقة الإعداد الشائعة في مجتمعه، لكنها تظل هي القهوة مهما اختلفت نكهتها وطريقة تقديمها.

فوفقًا لإحصائيات «منظمة البُن العالمية»، يتم استهلاك قرابة الـ 500 مليار كوب قهوة سنويًا حول العالم. رقم مخيف عندما تتأمله، لكنه لم يأتِ عن طريق الصدفة، فازدياد حجم سوق القهوة خلال السنوات الأخيرة كصناعة -بمعدل يصل إلى 5% كزيادة سنوية في حجم السوق عالميًا كما تشير إحصائيات شركة Euromonitor- لم يأتِ على سبيل الصدفة، بل بدعاية مدروسة، معظمها غير مباشر؛ حيث تنهال الأخبار يوميًا على المستهلكين عن فوائد تناول القهوة، وتأثيرها الإيجابي على الصحة العقلية لمستهلكيها، وهي أخبار لا تخلو من الصحة في بعض عناصرها، لكنها ليست بريئة أيضًا من المبالغات المقصودة في أحيان كثيرة.

كل هذا ساعده نمط الحياة الحديثة الذي يعمل فيه الفرد عددًا متزايدًا من الساعات يوميًا لسد احتياجاته المادية، وهو ما يترتب عليه المزيد من الضغط البدني والنفسي، وما يصاحبه من قلة التركيز.

هنا يأتي الدور السحري للقهوة، التي قد تتحول لنوع خاص من «الإدمان» لدى البعض ممن يتناولونها بمعدلات مفرطة، وهو إدمان لا يُعاقب عليه القانون، وتُشجعه الشركات العملاقة التي تتحكم بسوق القهوة، التي أوهمتْ البعض بأن تناول كوب من القهوة الفلانية قد يحل بعض مشاكله، أو قد يجعله ناجحًا في عمله أو مبتهجًا أكثر، أو قد يضفي عليه مظهر «المثقف» حتى لو لم يُكمل في حياته كتابًا جادًا، أو حتى قد يحل له مشاكله العائلية والدراسية كما تشير بعض الإعلانات الدعائية!

المهم أن يقنعك أن تتناول المزيد من القهوة السحرية التي تحمل علامته التجارية المميزة؛ فلعبة السوق لا تعرف إلا تحقيق الهدف المطلوب، وهو زيادة رقم المبيعات من المُنتَج المستهدَف تسويقه.

كل هذا النمو المضطرد لسوق القهوة، شجع شركة عالمية مثل «كوكاكولا» -التي عرفها الناس كواحدة من أكبر مُصنّعي المياه الغازية- على الاستحواذ على سلسلة مقاهيCosta العالمية في سبتمبر/أيلول الماضي، مقابل 5.1 مليار دولار، وهي الخطوة التي تؤكد الانطباع العام القائل بأننا نعيش «زمن القهوة». لذلك يأتي سعي «كوكاكولا» لدخول سوق القهوة في الوقت الذي يشهد فيه قطاع المشروبات الغازية تراجعًا ملحوظًا؛ بسبب المخاوف المتعلقة بالصحة ومخاطر السمنة.


تراجع عربي… حتى في القهوة

مع التوسع الهائل في سوق تجارة القهوة عالميًا خلال السنين الأخيرة، جاء التراجع العربي في زراعة وإنتاج البُن، تحديدًا في «اليمن»، بالتزامن مع اندلاع الحرب هناك، وهي البلد التي تُعد مهد اكتشاف القهوة في العالم، حيث تراجع ترتيبها عالميًا إلى المركز الـ 35 في قائمة الدول المُنتِجة للبُن.

ولا تُعد المنطقة العربية من أسواق استهلاك البُن التي تتصدر الإحصائيات عالميًا، حيث تأتي الدول الإسكندنافية في صدارة البلدان المستهلكة للقهوة، فبحسب موقع «إندي 100» التابع لجريدة الإندبندنت البريطانية، يأتي ترتيب أول 10 دول عربية استهلاكًا للقهوة (كيلو/ للفرد سنويًا) كما يلي:

لبنان 4.8 – فلسطين 3.8 – الجزائر 3.5 – قطر 2.2 – الأردن 1.9 – السعودية 1.6 – الكويت 1.6 – تونس 1.1 – عمان 1.0 – المغرب 0.9

وبالرغم من أن مصر لا تأتي ضمن الدول العربية العشرة الأولى في استهلاك أفرادها للقهوة، بمعدل 0.1 كيلو/ للفرد سنويًا، إلا أن ما تنفقه على استيراد القهوة وصل إلى 133 مليون دولار خلال عام 2016، بحسب ما ذكره «حسن فوزي» رئيس شعبة البُن في تصريحات صحفية، وهو الرقم الذي يضيف عبئًا على قائمة واردات مصر، والمنطقة العربية بشكل عام.

انتشرت القهوة لأوروبا والأمريكيتين من الجزيرة العربية، حيث كان أهلها أول من زرعوها وصنّعوها وبنوا لها المقاهي، إلا أن قائمة الدول الكبرى المصنّعة للقهوة حول العالم الآن لا تضم بلدًا عربيًا واحدًا حتى، في تراجع يمكن فهم أسبابه ضمن سياق عام من التراجع العربي في معظم المجالات، حتى فيما يخص إنتاج وتصنيع المزاج الحلال للمواطنين العرب، الذين كان أجدادهم سببًا رئيسيًا في ظهوره وتصديره إلى العالم.