ثلاثةُ تفسيراتٍ تتنازعُ النظر إلى دار الإفتاء باعتبارها واحدة من مؤسسات الدولة المصرية الحديثة: التفسير الأول يرى أنصارُه أنها نشأت جنبًا إلى جنب الأزهر الشريف، ووزارة الأوقاف بقصد ترسيخ وجود الإسلام، وتعزيزه بتعددية التعبير المؤسسي عنه في هياكل الدولة.

والتفسير الثاني يرى أنصاره أنها نشأت لتكون مركزًا دينيًا داخل الحكومة، يقف منافسًا لمركز ديني آخر هو الأزهر الشريف؛ كي يقلل من قوة شيخه، وخصوصًا لكون شيخه يتمتع بدرجة من الاستقلالية عن سلطة الدولة.

والتفسير الثالث يرى أنصارُه أنها نشأت أساسًا لإضفاء مسحةٍ شرعيةٍ شكليةٍ على مؤسسات الدولة المصرية، التي انزاحت في العصر الحديث، وعلى نحو تدريجي منذ عهد محمد علي باشا، نحو العلمنة والقوانين الوضعية.

وقد يكون لكلِّ تفسيرٍ من تلك التفسيرات نصيبٌ من الصحة؛ ولكن أيًا منها وحده يظل تفسيرًا جزئيًا، ولا يقدم تفسيرًا شاملاً لمسيرة دار الإفتاء المصرية خلال القرن الأول من عمرها، ويحتاج التفسير الشامل لهذه المسيرة إلى المزج بين الآراء الثلاثة بدرجات متفاوتةٍ من حقبة زمنية لأخرى، ومن عهد لعهد.

وحول فتاوى دارِ الإفتاء ومفتييها خلال مائة سنة منذ تأسيسها 1313هـ/1895م إلى 1414هـ/1993م؛ وهي حقبة تمتد من عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، إلى عهد حسنى مبارك، عكفَ الباحث الدنماركي جاكوب سكوفجارد-بيترسون، على دراسةِ إسهام المفتين الرسميين الذين تعاقبوا على منصب «مفتي الديار المصرية» في خدمة سياسات الدولة، وفي تعزيز سلطة العلماء، ومناهضة الإلحاد والعلمنة، وتقديم الإسلام على نحو يتَّسِمُ بالبساطة والعقلانية، وسهولة التطبيق في ذات الآن. وقد حصل الباحث على درجة دكتوراه الفلسفة في هذا الموضوع سنة 1997. وفي سنة 2018، صدرت رسالتُه عن دار نهوض للدراسات والنشر، في طبعة عربية كثيرة الأخطاء المطبعية واللغوية (527 صفحة)، وقد ترجمها من الإنجليزية صديقنا العلامة الدكتور السيد عمر، أستاذ النظرية السياسية بجامعة حلوان.

وقبل أن نتناولَ مضمون هذا الكتاب ونناقش بعض الأفكار والإشكاليات المثيرةِ التي وردت فيه، تجدرُ الإشارة إلى أن هذا عمل علمي جاد. وعلامةُ جديته صبرُ الباحث وطولُ نفسه، وجلدُ المُترجم وغنى ثقافته. أما الصبرُ فعلى استقصاء واستيعاب المعلومات المتعلقة بدار الإفتاء ومفتييها وفتاواها وهي كثيرةُ العدد، ومتنوعةُ الموضوعات، ومتشعبةُ القضايا. وأما طولُ النفس فعلى تعقّبِ أداءِ الدار طوال قرن كامل من الزمن منذ نشأتها في سنة 1313هـ/1895م إلى 1414هـ/1993م. وأما جَلَدُ المترجم وغنى ثقافته، فقد جابَه بهما كِبَرَ حجمِ الكتابِ، وغزارةَ المصطلحات الفقهية والأصولية الدقيقة الواردةِ فيه. ولولا جلدُ أخي العلامة وثراء ثقافته − مرة أخرى − لكان من العسيرِ جدًا إنجازُ مثل هذه الترجمة. ويدفعنا تصدي الدكتور السيد عمر لهذه الترجمة إلى أن نقول: لقد «وافقَ شنٌ طبقَه»، وإلى أن نردد أيضًا مع دَغْفَلٍ − فيما صار مثلاً سائرًا − لقد: «صادفَ درءَ السيلِ، درءٌ يصدعُه».


تاريخ دار الإفتاء

تأسست «دارُ الإفتاء المصرية» في 4 جمادى الآخرة 1313هـ-21 نوفمبر 1895م. وكان تأسيسُها جزءًا من سياقٍ عام شهدت فيه مصرُ حركةً دؤوبًا لإعادة تشكل المجال العام وضبطه ووضعه تحت سيطرة مؤسساتٍ مركزية للدولة الحديثة في مختلف مجالات الحياة. وهذه المؤسسات ترجعُ بداياتُها إلى عصر محمد علي باشا في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، الأول من القرن التاسع عشر الميلادي.

ومنذ تأسيسها، أُلحِقت دار الإفتاء بوزارة العدل، وانتظمتها لائحةُ إجراءات المحاكم الشرعية الصادرة قبل ذلك في سنة1297هـ/ 1880م؛ وأُنيط بمفتي الديار اختصاصُ إبداءِ الرأي غيرِ الملزم في أحكام الإعدام الصادرة من المحاكم، وظل هذا الاختصاص محل جدل إلى اليوم. كما أنيط به اختصاصُ استطلاع أهلة شهور السنة القمرية وإعلان بدايتها، ومنها على الأخص هلالُ شهر رمضان وبداية فريضة الصيام ونهايتها.

وتعاقبَ على منصب مفتي الديار خلال مائة سنة سبعةَ عشرَ مفتيًا كما سبق القول؛ بدءًا بالشيخ حسونة النواوي والشيخ محمد عبده، ومرورًا بالشيخ عبد المجيد سليم والشيخ محمد حسنين مخلوف، وصولاً إلى الشيخ جاد الحق والشيخ سيد طنطاوي. وما يسترعي الانتباه في هذه المسيرةِ الطويلة لدار الإفتاء هو أن نشأتها الرسمية كانت نقطةَ تحولٍ كبرى في المسارِ التاريخي للإفتاء ذاته؛ إذ لم تَعُد فتاوى «المفتي» تستمدُّ قيمتَها من المرجعية العلميةِ للمفتى وما يحوزه من قدرات فقهية، وما يتسم به من سمات شخصية وحسب، وإنما باتت تستمدها أيضًا من سلطة الدولة التي أضحى «مفتى الديار» جزءًا رسميًا من إدارتِها؛ فهو يُعيّن بقرارٍ رسمي، وتنتهي خدمتُه بقرارٍ آخر؛ شأنه شأن الموظف العام. وفي جميع الأحوال بقيت «الفتوى» كما كانت عبارة عن بيانٍ للحكم الشرعي في المسألة المستفتى فيها، دون أن تكونَ ملزمة، فالمفتي مخبر وليس ملزِمًا.

تنَبَّه المؤلفُ إلى أن مفتيي الديار المصريةِ خلال المائة سنة (1313هـ/1895 ـــ 1414هـ/1993م) قد تغير موقعهم مع تغير موقع جماعة العلماء في المجال العام مرتين: الأولى بانتقالهِم من تقاليد العمل في «المدرسة الفقهية»، إلى تقاليد العمل في «القضاء» وذلك منذ جرى تنظيم العمل بالمحاكم الشرعية في أواخر القرن التاسع عشر، إلى أن أُلغيت هذه المحاكمُ في منتصف خمسينيات القرن العشرين. والثانية بانتقالهم من القضاءِ، وبمعنى أدق: بإزاحتهم من العمل بالقضاء، وإعادتهم مرة أخرى إلى العمل بالمدرسةِ الفقهية، بعد أن ألغت حكومة يوليو القضاءَ الشرعي في سنة 1955م. وهذه مسألة ذات أهمية كبيرة في رسم المسار العام لدار الإفتاء، وجدلية العلاقة بين المفتين والدولة وعمليات التحديث، وهي مسألة مهمة أيضًا في الكشف عن المشكلات الكبرى التي اعترضت هذا المسار.

في المرة الأولى، التي استمرت قرابةَ نصف قرن، أتاحَ العملُ بمحاكم القضاء الشرعي، وبالمحاكم الأهلية والمختلطةِ في بعض الأحيان، فرصةً كبيرة للعلماء – والمفتون من جملتهم – أن يشاركوا بفاعلية في تسيير مؤسسةِ العدالة باعتبارها إحدى المؤسسات الرئيسية للدولة. ومن خلال إلزامية أحكامِهم القضائية أسهموا أيضاً في ضبط جوانب من الحياة العامة وفق مرجعية الشريعة الإسلامية، وارتفعت مكانتهم الاجتماعية؛ حيث كانوا أعضاءً ضمن قضاة المحاكم، أو كانوا مفتينَ في الوزارات والمؤسسات الحكومية، أو كانوا أساتذة للشريعة في الأزهر أو في مدرسة القضاء الشرعي، أو حتى محامين في المحاكم الشرعية والأهلية.

أما في المرَّة ِالثانية، والتي استمرت مدةَ نصفَ قرن آخر، وزادت هذه المدة وما تزالُ مستمرةً إلى اليوم، فقد جرى تهميشُ جماعة العلماء، ومن جملتهم المفتون والقضاة وأساتذة الشريعة، وتراجع دورُهم في ساحة القضاء، وفي المجال العام الرسمي بصفة عامة. فبعد إلغاءِ المحاكم الشرعية، لم يكن أمام أغلب الذين عملوا قضاة بتلك المحاكم بدٌ من العودة إلى العمل وفق تقاليد المدرسة الفقهية، وهي تقاليد مبنية على «الاجتهاد وحرية الاختيار»، ومبنية أيضًا على التعليم والوعظ والإرشاد، وهي بخلافِ تقاليد العمل بالمحاكم.

ولم يقف الأمرُ عند حد تهميشهم في ساحة القضاء؛ وإنما تعرضوا لمزاحمةٍ شرسة من جانب رجال القانون الوضعي في ساحات التدريسِ بكليات الحقوق في الجامعات المدنية الحديثة، وتعرضوا كذلك للمزاحمة في مجال المحاماة أمام المحاكم، وأيضًا تعرضوا للمنافسة على كسب ثقة الجمهور العام في المفكرين الإسلاميين والدعاة وقادة جماعات الإصلاح الإسلامي؛ الذين تكاثروا وعملوا كذلك في مجالِ التعريف بالإسلام و«الدعوة إلى الله».

وما انتبَه إليه المؤلفُ على هذا النحو صحيحٌ في مجمله. ولكن ما لم يكشف عنه في تحليله المسهب عبر فصول الكتاب الأحد عشر هو أن ذلكَ الانتقال من تقاليد الفقهِ إلى تقاليد القضاء، ثم العودة من الثانية إلى الأولى، كان ولا يزال جزءًا من التنازع على عمليات صوغ «هوية الدولة»؛ وهل تكون مطابقة لهوية المجتمع الذي تعبر عنه جماعةُ العلماء بشكل عام، أم تكون مفارقةً لها ومنتمية لهوية حداثية وافدة، تُعبر عنها «نخبة حديثة» ليس لها جذور شعبية، ولا تمتلك القدرة على التوسع الاجتماعي مقارنة بجماعة العلماء؟

وكانت ولا تزال هذه النخبة الحداثيةُ تتملك نزعةً وصائية، وميلاً واضحًا نحو حبِّ السلطة والتسلطِ على المجتمع، أو حبِّ من يحبُّ السلطةَ والتسلطِ على المجتمع.


مصطلح «السلفية»

ورغمَ الجهد الكبير الذي بذله المؤلف لكي يبسط المسائلَ العويصة التي تصدى لها في جدليات العلاقة بين الإسلام والسياسة والمجتمع والدولة والنخب العلمائية والتحديث في مصر «الحديثة»، إلا أن بعض المصطلحات التي استخدمها قد ألقت بكثيرٍ من الغموضِ والتشويش على كثير من المقدمات التي بدأ بها، وعلى كثير من النتائج التي انتهى إليها.

من ذلك مثلاً: مصطلح «السلفية»، وهو أحد المصطلحاتِ الرئيسية التي وظفها المؤلف في أغلب فصول كتابه. وقد حاول أكثر من مرة أن يعرِّف مقصوده من هذا المصطلح، ولكنه ظل غامضًا وملتبسًا ومشوشًا في مواضع كثيرة من الكتاب.

في صفحتي 38 و39 تَرِدُ أولُ إشارةٍ إلى «السلفية» باعتبارها لفظة تدل على حركة إصلاحية إحيائية، ومن روادها الأفغاني ومحمد عبده، ورشيد رضا. ثم يقول المؤلف إن «تاريخ 1960-1962 يؤشر على الانتصار النهائي للسلفية بجامعة الأزهر»، مشيرًا بذلك إلى عمليات التحديث التي جرت بموجب القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر. وهو يحيلُ في هذا الموضوع إلى عدد من الدراسات السابقة، ومنها دراسات تشارلز آدمز، وهنري لاوست، ورينهارد شولتز، وبريان تيرنر، وغيرهم.

ويتطابقُ مضمون «السلفيةِ» الذي قصدَه مع ما يجري التعبير عنه في الخطاب العربي بمفهوم «الإحياءِ» وحركة الإصلاح والتجديد التي قادها الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وغيرهم ممن يوصفون عند أمثال طارق البشري، ومحمد عمارة، ومنير شفيق، ومحمد سليم العوا، وغيرهم؛ أنهم رواد «الإحياء» أو «النهضة» أو «الإصلاح» الإسلامي في العصر الحديث. وقد اختطّ هؤلاء منهجَهم الإصلاحي من خلال الرجوع إلى منهج السلف الصالح المبني على القرآن والسنة الشريفة.

لكن استعمالَ المؤلف لمصلطلح «السلفيةِ» وهو يقصد هؤلاء الرواد يجعلُ الأمرَ ملتبسًا مع المفهوم الشائع للسلفية باعتبارها حركة تتسم بالتشدد والتركيز على المظاهر الشكلية، أو قد تلتبسُ مع حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومدرسته “السلفيةِ” التي ركزت على محاربة البدع، وإصلاح العقيدة وتخليصها من الشركيات. وقد تجذرت هذه «السلفية» في شبه الجزيرة العربية، وارتبطت بها جماعات سلفية متعددة ومتشددة؛ تكاثرت منها وتناثرت على امتداد بلدان العالم الإسلامي، وهي سلفية ذات مضمون مختلف عن السلفية الإحيائية المشار إليها.

هذا الالتباسُ في معنى «السلفية» يستمرُ مع القارئ حتى ص99، وفيها ينقل عن آن ماير قولها إنه: «بدءًا من ظهورِ السلفية لم يعد الفقهُ يحتل المكانة السامية، بل حُرم من اعتباره مصدرًا قانونيًا جملة وتفصيلاً». وللمرء أن يتساءل هنا: عن أي سلفيةٍ يتحدث المؤلف؟ ولا يزيل هذا الالتباس التعريفُ الذي أورده في الصفحة التالية (ص100) للسلفيين، وقد كان من الأفضل لو أوردَه في الصفحات الأولى للكتاب وهو أن: «السلفيين مفكرون مسلمون أرادوا استعادةَ الإسلامَ في نقائه وبساطته وإنسانيته، في وقتٍ كانت القوى الأوروبية تهمين فيه على معظم أراضي المسلمين». ويقول أيضًا إن: «الإسلامَ في الرؤية السلفيةِ هو: دين عقلاني وعملي وموافق تمامًا للفطرة البشرية… ومن الملاحظ بحقٍ أن مفهوم الشريعة لدى محمد عبده − رائد السلفية في مصر − قريب من القانون الطبيعي» (ص100).

وبرغم هذا التعريف وبعد مائة صفحة كاملة، يستمرُ الغموض في المعنى الذي قصدَه المؤلف من مفهوم «السلفية»، وبخاصة أنه ذهب إلى أن السلفية ألغت الفقه كمصدر للقانون، والواقع هو أنه لا الاتجاه السلفي الوهابي حصريًا نادى بذلك، ولا الاتجاهُ الإحيائي التجديدي لدى الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا فعل شيئًا من ذلك أيضًا. كما أن المؤلفَ لا يقصدُ بكل تأكيد سلفية الجماعات أو التنظيمات السلفية التي نشأت متأثرة بالوهابية، وهي تقف بعيدًا عن سلفية الإحياء والتجديد، وتتمسك بالتقليد وتتسم بالجمود، وبسمات أخرى هي على النقيض من حركة الإحياء الإسلامي في العصر الحديث.