حظيت الكعبة المشرفة بعناية خاصة على مر العصور لما لها من مكانة، مما جعل السباق على خدمتها قائمًا من عصر الجاهلية إلى دول الخلافة المختلفة، ولا شك أن كسوة الكعبة المشرفة من أهم مظاهر الاهتمام، له دلالة عقائدية منذ البداية، فقد كان متاحًا للأفراد القيام بكسوتها بوصفه هدية أو وفاء لنذر، وصار له في ما بعد دلالات سياسية واقتصادية واجتماعية، لذا حرصت على نيل هذا الشرف كل جماعة تريد أن تعلن بسط سلطانها على هذه المنطقة، بالغة المكانة في نفوس الناس.

فطن قدماء العرب بشكل مبكر لأهمية مكة بوجه عام والبيت الحرام خاصة بما تمثله من بقعة استراتيجية في محيطها الجغرافي، للأهمية الدينية من ناحية، وأهميتها الاقتصادية كمركز تجاري على طريق الرحلة من الشمال إلى الجنوب أو العكس، ومكان يلتقي فيه العرب في سوق عكاظ يتبادلون فيه السلع ويعرضون فيه بضاعتهم من الشعر؛ ما أعطى المكان أهمية لا يقاربها أي مكان في كل جزيرة العرب، ومثل هذه المنطقة هدف للسيطرة الهيمنة السياسية لمن بيده أسبابها. 

وتدل كل الأحداث على رمزية الدلالة السياسية لعملية كسوة الكعبة كجزء من السيطرة على هذا المكان بالغ القيمة الاستراتيجية في محيطه الإقليمي. 

الأهمية السياسية لكسوة الكعبة

مع مجيء (تبع) ملك قبيلة حِمير وسيطرته على مكة، وتولي مقاليد الحكم ومن أبرز مظاهر الهيمنة قيامه على أمر الكعبة، وقد اختص بكسوتها، فكان كما قال المؤرخون أول من فعل ذلك، كما أوصى ولاته بالاستمرار في فعل ذلك،

كما ذكر ابن هشام أن «تبعا أول من كسا البيت، وأوصى به ولاته من جرهم وأمرهم بتطهيره» لرمزيته السياسية في فرض السطوة على هذا المكان الهام له. 

بعد ذلك قام قصي بن كلاب وقريش على أمر الكعبة، واعتبار تدخل غير قريش في هذا الشأن منازعة في الزعامة السياسية بشكل لا يقبل المساومة، حتى اقترح أبو ربيعة بن المغيرة كسوة  البيت، واستأذن قريشًا وأخذ موافقتها في أن يكسو الكعبة عام والعام التالي يكون لبقية قريش، واستمر ذلك حتى وفاته.

بعدما فتح المسلمون مكة، وآل أمر البيت لهم، تولى الرسول شؤون الكعبة كساها بنفسه، وتأكد بذلك الوضع السياسي الجديد في هذه المنطقة، وعندما خرج أمر الكعبة في بعض الفترات عن سيطرة الدولة في فترات التنافس السياسي، كما حدث عندما سيطر عبد الله بن الزبير على منطقة الحجاز، وأصبحت تحت ولايته، فنجده يتولى شؤون الحرمين، فكان يبعث إلى مصعب بن الزبير بالكسوة كل سنة، فكانت أمارة على سيطرته على هذا المكان. 

وعندما أحكم الأمويون سيطرتهم، وأقاموا ملكهم صار أمر الحرمين شأنًا أمويًا، فعندما استقرت الأمور السياسية بعد مقتل عبد الله بن الزبير، ودانت البلاد جميعها لحكم الأمويين ومنها بلاد الحجاز، قام الحجاج بن يوسف الثقفي بكسوة الكعبة المشرفة تأكيدًا على سيادة الدولة الأموية عليها، كما حرص عبد الملك بن مروان على كسوتها سنويًا وهو نشاط تولاه خليفة بعد آخر حتى سقطت دولتهم. 

وما قام به الأمويون فعله العباسيون، فكان حرصهم على كسوة الكعبة يحمل الوعي برمزيته الدينية والسياسية، في وقت كانت الدول المستقلة عن العباسيين كالدولة الفاطمية التي كانت تحكم مصر، وتخرج منها الكسوة، لعبت نفس الدور ونافست الخلافة العباسية في ذلك، وحرصت على إرسال الكسوة الشريفة بالرغم من الأحداث التي تمنع خروج الحجاج لأداء فريضة الحج أحيانا، مثلما حدث في عام 440 هجريًا، وقتها لم يسافر الحجاج ولكن السلطان لم يقصر في إرسال ما كان يرسله كل سنة من الكسوة.

مقابل ذلك كان العباسيون يتحينون الفرصة لكسوتها، فعندما اشتدت الأزمة بمصر نتيجة نقص فيضان النيل، وعجز الفاطميون عن إرسال الكسوة لأمراء مكة عام 462 هجريًا، فانتهز العباسيون الفرصة للسيطرة على بلاد الحجاز التي كان ترسل لها الدولة الفاطمية الغلال والزرع، وحاول العباسيون تعويض أمراء مكة ذلك النقص، فأعلن والي مكة ولاءه للخليفة العباسي (القائم بأمر الله). 

ولما تحسنت أحوال مصر السياسية والاقتصادية وأرسل الفاطميون الكسوة لأمير مكة الذي نزع الكسوة العباسية من فوق الكعبة، ووضع مكانها الكسوة الفاطمية البيضاء التي تحمل ألقاب الخليفة الفاطمي (المستنصر بالله)، ورغم ذلك لم يحكم الفاطميون سيطرتهم على الحجاز بسبب الظروف السياسية والاقتصادية وتغلب عليهم العباسيون، حيث كساها الخليفة (المستنجد العباسي) في أواخر العصر الفاطمي، وانفرد العباسيون بأمر الكسوة بعد سقوط الدولة الفاطمية، ولم يسمح لأي جهة أخرى بكسوتها.

بعد ذلك، تناوب اليمنيون والمماليك في مصر على كسوة الكعبة المشرفة إلى أن انفردت مصر بهذا الشرف في عهد السلطان المنصور قلاوون الذي تغلب على الملك المظفر يوسف بن رسول ملك اليمن الذي كان يكسو الكعبة، واستمر ملوك مصر يتناوبون على كسوتها للحفاظ على ما يرمز للولاء لدولة الخلافة كلون الكسوة الأسود بدلًا من الأبيض المتبع عند الفاطميين، وكتابة اسم الخليفة العباسي الذي يرمز إلى الولاء واستمرارية خلافة العباسيين. 

وقد أصرت مصر على مواصلة إرسال الكسوة طوال عهد المماليك، إلا أن كثيرين نازعوا تلك السلطة، مثل المجاهد ملك اليمن، الذي أرسل محمل لكسوة يمنية للكعبة، فأخبر أمير مكة الذي يتم تعيينه من القاهرة سلطته التابع لها في مصر، فتم القبض على المجاهد وأوتي به للقاهرة لمحاسبته على تلك الفعلة.

وقد حرصت الجهات التي فازت بشرف صناعة الكسوة الشريفة وتجهيزها على كسوتها بانتظام حتى في أصعب الظروف التي تعانيها البلاد، مثل مسارعة السلطان المملوكي (قنصوه الغوري) بإرسال كسوة الكعبة خلال حربه مع العثمانيين قبيل سقوط دولة المماليك؛ حفاظًا على هذا الرمز السياسي وإعلان بقاء دولة المماليك ولو صوريًا.

الرمز الاقتصادي للكسوة

كما كان لكسوة الكعبة بعد سياسي، لها أيضًا بعد اقتصادي يظهر النفقة عليها وعدد مرات كسوتها سنويًا، سواء كانت النفقة عليها من قبل الأفراد، أو الجهات المسئولة عن كسوتها، فهو تعبير عن قدرة  الأفراد المادية، ومؤشر على قوة اقتصاد دول الخلافة في فتراتها المختلفة.

في فترة الجاهلية، كانت النفقة على الكسوة الشريفة من قبل حكام مكة المكرمة، أو من قبل الأفراد الميسورين بوصفه هدية أو وفاء لنذر، فعندما قام تبع ملك اليمن بكسوة الكعبة كان هذا مؤشرًا إلى قدرته المالية. 

ولما تولى قصي بن كلاب أمر مكة المكرمة، قنن نظامًا للنفقة على الكسوة سنويًا، ما يعكس تحسنًا في الأوضاع الاقتصادية لمكة المكرمة عما كان  سابقًا، حيث أسهمت القبائل في النفقة على الكسوة من عهد قصي بن كلاب.

بعد فتح المسلمون لمكة، أخذت النفقة على كسوة الشريفة شكلًا نظاميًا بالتدريج، وصارت مسئولية الأمراء، وهو ما فعله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين كسا الكعبة بالقباطي من بيت المال، وكانت تأتي من مدينة الفيوم في مصر، وهو ما يظهر تحسنًا في الأحوال الاقتصادية للمسلمين.

في عصر الدولة الأموية زادت النفقة على الكسوة، منذ عهد معاوية بن أبي سفيان حيث كساها مرتين في السنة، بدلًا من مرة واحدة من قبل، واحدة في يوم عاشوراء والثانية في شهر رمضان، وهذا يعد مؤشرًا على انتعاش الحالة الاقتصادية في الدولة، وكانت الكسوة تأتي من دمشق عاصمة الدولة الأموية.

أما في عصر الدولة العباسية، فقد أنفق الخلفاء بسخاء على الكعبة الشريفة، فقد كساها الخليفة المهدي في عام 16 هجريًا، ثلاثة أنواع من الكِسْوات وهي (قباطي وخز وديباج)، وقام المأمون بكسوتها ثلاث كِسْوات بدلًا من اثنتين سنويًا، ومع تطور الخياطة في العالم، بحثوا عن أجود أنواع الحرير فوجدوه في مدينة تنيس في مصر، وهذه القدرة على الإنفاق من قبل الدولة تعكس ازدهار الجانب الاقتصادي للبلاد. 

أما المدّة التي سبقت دخول الفاطميين مصر، فقد ظلت النفقة على الكسوة بصورة تظهر اقتصادًا متماسكًا، على الرغم أن الكعبة عادت تكسى مرتين سنويًا، بدلًا من ثلاث كسوات سابقًا، وعندما تولى العباسيون أمر الكسوة بعد الفاطميين، صارت النفقة على الكسوة محدودة حيث كسيت الكعبة مرة واحدة سنويًا، وهذا يعكس تغيرًا في الأحوال الاقتصادية عما كانت عليه الأوضاع سابقًا؛ نتيجة لتغير الظروف السياسية والاقتصادية في المنطقة، ويظهر انخفاض مستوى إنفاق الدولة العباسية على الكسوة عما كانت عليه سابقًا، عندما هبت رياح شديدة مزقت الكسوة، واضطر شيخ الحرم (العفيف ابن منعة) اقتراض المال لكسوة الكعبة.

أما النفقة على الكسوة في عصر الفاطميين فأكدت اقتصادًا مزدهرًا، لا سيما في بداية العصر الفاطمي، وقاموا بكسوتها مرتين سنويًا، لكن مع حلول القحط الذي عُرف بالشدة المستنصرية، تخلف الخلفاء في مصر عن مَدّ أمير مكة بالكسوة المعتادة سنويًا من مصر.

وبعدما سقطت الدولة العباسية تناوب على كسوتها كل من مصر واليمن وهذا يوضح قدرة البلدين المالية على تحمل نفقات الكسوة الشريفة، ثم انفردت مصر بأمر كسوتها سنويًا، ومن أجل ذلك تم تخصيص وقف للنفقة عليها،  بدأه (السلطان الصالح إسماعيل بن قلاوون)، حين اشترى ثلاث قرى متواجدة اليوم في محافظة القليوبية، ووقفها على نفقة كسوتي الكعبة والحجرة النبوية الشريفة.

ومع تولي العثمانيين خلافة المسلمين، أمر سليمان القانوني بزيادة هذا الوقف واشترى سبع قرى أخرى من أجل ذلك، عندما نما لعلمه عدم اكتفاء الرَّيْع السابق لتكاليف الكسوة، واستمر ذلك الوقف حتى تولي محمد علي حكم مصر.

المراجع
  1. الأزرقي أخبار مكة وما جاء بها من الآثار، الجزء الأول
  2. ابن هشام، السيرة النبوية ، الجزء الأول،
  3. الفاسي، العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، الجزء الثالث
  4. اهتمام العثمانيين بكسوة الكعبة الشريفة، وتطورها في العصر الحديث