استمر حكم الخلفاء الراشدين قرابة ثلاثين سنة (11 – 41هـ / 632 – 661م)، وتولى الخلافة أربعة خلفاء هم: أبو بكر الصديق: (11 – 13هـ / 632 – 634م)، وعمر بن الخطاب: (13 – 24هـ/ 634 – 644م)، عثما‌ن بن عفان: (24 – 36هـ / 644 – 656م)، عليّ بن أبي طالب: (36 – 41هـ / 656 – 661م).

لقراءة المقالة الأولى في موجز تاريخ الفكر الإسلامي:التاريخ السياسي لدولة النبي في المدينة

وقد تميز حكم الخلفاء الراشدين بمميزات أساسية أهمها: أنه كان يستند إلى مبدأ الشورى، ويرتكز على المساواة والإخاء الإسلامي، ويعتمد على الكتاب والسنة في استنباط الأحكام، وأن المدينة المنورة ظلت العاصمة حتى نهاية هذا العصر تقريبًا.


خلافة الصديق

كان أبو بكر الصديق للدولة كما كان للدين «ثاني اثنين»، وهو يمثل النموذج الأسمى للحاكم عندما يكون مؤمنًا وفي الوقت نفسه رجل دولة يتمتع بالصفات اللازمة. فقد كان رجلاً عمليًا لا تلهيه العواطف، وإن عظمت المصائب، عن أمر الدولة الوليدة، لأنها لو ذهبت ستزهق أرواح مؤلفة بذهابها.

ولذا عندما ارتدّت العرب بعد وفاة النبي (صلعم)، ولم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف، قرر أبو بكر إعلان الحرب مباشرة، دون خوف رغم تردد كبار الصحابة، ببساطة لأنه كان يرى ما لا يراه غيره من الصحابة.

وعندما أعاد المرتدين ومانعي الزكاة إلى الإسلام ودولته، قرر عدة أمور كانت مهمة لبسط سلطة هذه الدولة، منها: أنه حوّل جيش الدولة لجيش محترف لا عمل له إلا الحرب والإعداد لها. وأنه ضم من عادوا من الردة إلى جيش الدولة الذي جعله بوتقة كبرى لصهر العصبية القبلية والقضاء على نوازع الردة في نفوس العرب، وبه بدأ الفتوحات في العراق والشام.

أضف إلى ذلك جمعه للقرآن بين دفتين، وتوطيد الأمر لخليفته وتهيئته لمواصلة تطوير الدولة ونشر الإسلام خارج جزيرة العرب. وكل هذا صنعه في سنتين وثلاثة أشهر فقط!


خلافة الفاروق

كانت خلافة عمر بن الخطاب التي استمرت لعشر سنوات وستة أشهر امتدادًا لخلافة أبي بكر الصديق (رض) لذا نتناولهما معًا. وفي زمنه تواصلت الفتوح في العراق وفارس وفي الشام ومصر، ووقعت في عصره عدة معارك فاصلة في التاريخ الإسلامي المبكر؛ فمع الفرس كانت معارك القادسية (سنة 15هـ / 637م)، والمدائن (16هـ / 637م)، ونهاوند (21هـ / 642م). ومع الروم وأشياعهم كانت اليرموك (15ه / 636م)، وبيت المقدس (16هـ / 637م)، وبعدها ترك هرقل أنطاكية عائدًا إلى القسطنطينية. وروي أنه حين ارتحل قال مودعًا: «عليك السلامُ يا سورية، سلامًا لا اجتماع بعدهُ»، فإن صح هذا فلربما لأنه كان يستشعر قرب نهاية الوجود البيزنطي في الشام والذي حدث بالفعل بعد فتح قيسارية في (19 هـ / 640م).

تنظيمات عمر

بعد أن اتسعت الدولة بضم الشام والعراق، كان لا بد من تطوير تنظيمات قيادة الدولة، وقد نجح عمر في هذا إلى حد بعيد، لذا يوصف عادة بأنه واضع أسس النظم الإدارية للدولة الإسلامية والتي ساهمت في استقرارها رغم مواصلة الفتوح.

وكانت سياسته التنظيمية ترمي دائمًا إلى تماسك بلاد العرب، وإدخال القبائل العربية بعضها في بعض لتكون – عن حق – أمة واحدة، ولذا قصر الجندية على العرب المسلمين، ومنعهم من الاختلاط بأهالي البلاد المفتوحة حتى لا تضيع وحدتهم، ومن امتلاك الأراضي في تلك المناطق حتى لا يتحولوا إلى مزارعين ويفتر حماسهم الحربي، وأمر بأن يكون مقامهم في معسكرات على أطراف المناطق المفتوحة، وهي المعسكرات التي تحولت فيما بعد لمدن إسلامية كبرى مثل البصرة والكوفة والفسطاط.

ولتنظيم أمر الأراضي المفتوحة وسكانها طور عمر نظامًا جديدًا للضرائب، فجعل على من لم يسلم من أهل البلاد «الجزية»، وعلى الأرض ضريبة سمّاها «الخراج»، وأبقى الأرض بأيدي أصحابها يفلحونها، وكانت تلك الضريبة كأجرة للأرض.

النظام النقدي

أقر عمر (رضي الله عنه) النظم المالية الساسانية في العراق والنظم البيزنطية في الشام ومصر، وأبقى على نظام العملات المتداولة في البلاد المفتوحة بنقوشها البهلوية واليونانية، لأن العرب كانوا يتعاملون بها في تجارتهم مع الفرس والبيزنطيين، ولكنه حرص على توحيد وزنها وإضافة بعض النقوش مثل «الحمد لله، محمد رسول الله».

التأريخ الهجري

وآنذاك وجد عمر بن الخطاب أن الدولة – التي توسعت جدًا – تواجه مشاكل إدارية كبيرة بسبب عدم وجود تأريخ كتواريخ الحضارات المجاورة.

والأرجح أن التفكير في اصطناع التأريخ بدأ باقتراح من أبي موسى الأشعري الذي كتب إلى عمر بن الخطاب: «إنه يأتينا من قبلك كتب ليس لها تاريخ فأرخ»، واقترح يعلي بن أمية على عمر يؤرخ كما يفعل الفرس والروم. وفي سنة 16 هـ جمع عمر – كالعادة – كبار الصحابة وقال لهم: «ضعوا شيئًا للناس يعرفون به التاريخ».

ومنذ البداية رفضوا أن يتخذوا التاريخ الروماني لأنهم «يؤرخون من عند الإسكندر وهذا شيء يطول»، ورفضوا أن يتبعوا تاريخ الفرس لأن «الفرس كلما قام ملك طرح ما كان قبله»؛ أي أن تاريخهم يفتقد للاستمرارية، واستقروا في النهاية على اتخاذ شيء يخص الإسلام كبداية لهذا التأريخ.

وهنا وازنوا بين الأحداث البارزة في حياة النبي (صلعم) لاتخاذ أحدها كبداية، وركزوا على أربعة أحداث: مولد النبي، ونزول الوحي، والهجرة، ووفاة النبي (صلعم). وتم دحض ثلاثة منها بطريقة عقلانية مبهرة، واستقروا على البدء بالهجرة. وكان هذا اقتراحًا من علي بن أبي طالب (رض)، وقال عمر مؤيدًا ومعللاً: «إن مهاجره فرق بين الحق والباطل».

ثم قال عمر: «فبأي شهر نبدأ فنصيره أول السنة؟» فوازنوا بين رمضان وربيع الأول ورجب وكان «أهل الجاهلية يعظمونه». ثم أخذوا باقتراح عثمان (رض) أن يكون «المحرم» أول شهور السنة الهجرية، لأنه «أول الشهور في العدة، وهو منصرف الناس من الحج». كأنه أراد جعل الحج نهاية السنة الهجرية وذروتها، وبه تنتهي دائرة الأعياد الإسلامية لتبدأ مع المحرم من جديد. وبالتالي أصبح المحرم أول شهور السنة الهجرية رغم أن حدث الهجرة لم يقع فيه وإنما في ربيع الأول.

إدارة البلاد المفتوحة

بعد تسلمه مدينة القدس اتجه عمر بن الخطاب (17هـ / 638م) إلى الجابية جنوب دمشق ليجتمع بقواده، وينظم البلاد المفتوحة ويضع نظام حكمها. وقد أخذ عمر بالتقسيم البيزنطي لبلاد الشام إلى أربع مناطق عسكرية هي: دمشق وحمص والأردن وفلسطين. وبعدها قسم العراق إلى ولايتين (الكوفة والبصرة)، وقسم بلاد فارس إلى ثلاث ولايات (الأهواز وسجستان وطبرستان).

وفي مؤتمر الجابية وافق عمر بتردد على فتح مصر وما يليها، وفيما بعد قسمها إلى ثلاث ولايات: مصر العليا، ومصر السفلى، وغرب مصر وصحراء ليبيا.

وعيّن عمر على هذه الولايات ولاة يستمدون سلطتهم من الخليفة. وكان الوالي قيادة دينة وسياسية واقتصادية، فهو يقوم بإمامة الناس، وقيادة الجند، ويشرف على جمع المال. ولكنه قام فيما بعد بفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية (أي سلطة الوالي) بإسناد منصب القضاء لقاضٍ مستقل عن الوالي يُختار من أفضل الناس ليؤم الناس ويقيم العدل بينهم. وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى رسالته الشهيرة في «سياسة القضاء وتدبير الحكم» التي أرسلها إلى عامله أبي موسى الأشعري.

وكان عمر يسأل الرعية عن أحوال أمرائهم، ويفتح صدره لأية شكاية فيهم ويحاسبهم إذا أخطأوا. ويعتبر عمر أول من وضع نظام الحسبة، فكان يقوم بأعمال المحتسب دون أن يُسمى بهذا الاسم، وكان له موظفون يتابعون أحوال هؤلاء الأمراء.

تنظيم الدواوين

كما طور عمر «ديوان الجند» لتسجيل أسمائهم، وما يخص كلاً منهم من العطاء، أنشأ «ديوان الخراج» لتدوين موارد بيت المال من الزكاة والخراج والجزية وعشور التجارة، وتدوين ما يُفرض لكل مسلم من العطاء. وقد شكل لجنة ثلاثية ضمت مخرمة بن نوفل، وعقيل بن أبي طالب، وجبير بن مطعم، وهم أشهر من له علم بأنساب العرب في المدينة يومذاك، وقامت هذه اللجنة (سنة 20 هـ) بتسجيل أسماء العرب المسلمين وعطاء كل منهم. وتم ذلك حسب أسبقيتهم وحسب قبائلهم. فبدأ بالعباس (رض) ثم بني هاشم ثم الأقرب فالأقرب، ثم انتهوا إلى الأنصار فبدأوا برهط سعد بن معاذ (رض) ثم الأقرب فالأقرب. وقد اعتبر هذا العمل بمثابة أول تدوين للأنساب في الإسلام.

الشجاعة الفقهية

ومن أهم ميزات عمر بن الخطاب في كل هذه التطويرات ما أسميه «الشجاعة الفقهية»، وذلك بسبب قائمة طويلة من الاجتهادات التي قدمها عمر، من أشهرها بالطبع تعليق تطبيق نصوص قرآنية واضحة الدلالة لأن الظروف السياسية أو الاجتماعية أو العسكرية تغيرت ولم تعد تحتملها، ومنها بالطبع إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم، وتعليق حد القطع في عام الرمادة، وعدم تقسيم الأراضي المفتوحة بين الفاتحين حتى لا يتحولوا لفلاحين ويتقاعسوا عن الجهاد، وقد قاده هذا لابتكار موضوع الخراج. وأمور أخرى كثيرة كان يجادل فيها الصحابة ثم يقرّها. ولو جمعت هذه الأمور وجرى تنسيقها وتطويرها لأصبح لدينا «مذهب عُمريّ»، نسبة إلى عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر (رض)، كان سيتفوق ولا ريب على كل هذه المذاهب العباسية النظرية، على الأقل لأنه مذهب عملي تطبيقي، نتج عن أنجح تطبيق عملي للإسلام (قرآنًا وسنة) ولم يأتِ نتيجة لترغيب العباسيين أو ترهيبهم!

اغتيال عمر

في سنة 24هـ/ 644م، بينما كان عمر (رض) يؤم الناس في المسجد طعنه غلام فارسي اسمه فيروز (أبو لؤلؤة المجوسي) مدعيًا أنه لم ينصفه من سيده المغيرة بن شعبة. والأرجح أن أبا لؤلؤة هذا تآمر على حياة عمر مع الهرمزان الفارسي وجفينة النصراني وربما كعب الأحبار أيضًا، وذلك انتقامًا من عمر لأنه قضى على دولة الفرس. وعندما علم عمر من قاتله قال: «ما كانت العرب لتقتلني».. «الحمد لله أنه لم يقتلني في مظلمة».