في عام 1936م، وتزامنًا مع اندلاع الثورة الفلسطينية، اجتمع قادة كافة التنظيمات العسكرية في فلسطين، واتفقوا على الاتحاد في جيشٍ واحد أطلقوا عليه اسم «جيش الجهاد المقدس»، وأوكلوا قيادته إلى عبدالقادر الحسيني.

عبدالقادر الحسيني هو أحد أبرز القادة الفلسطينيين في ذلك الزمان، ورغم دراسته العلمية وتخرّجه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة قسم العلوم والرياضيات، فإنه دأب على الدفاع عن القضية الفلسطينية في الصحف. ورث زعامة القضية الفلسطينية من والده موسى كاظم الحسيني، وفور اندلاع ثورة 1936م مارَس نشاطًا كبيرًا وأصيب في أحداثها ولُوحق من قِبَل السُلطات الإسرائيليية، ولم يخضع لدراسة عسكرية نظامية لكنه تلقّى تدريبًا عسكريًا في العراق وألمانيا خلال مراحل مختلفة من حياته.

قُوبلت خطوة الحسيني بمعارضة بريطانية مستميتة لأي تسليح للفلسطينيين لتخوفها أن يعرقلوا القرار الغربي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود. وكذلك تحفظت الجامعة العربية على تشكيلها إلا أنها تراجعت لاحقًا عن قرارها.

معارك «الجهاد المقدس»

خلال 3 سنوات خاض ذلك الجيش معارك عِدة ضد القوات الصهيونية والبريطانية المنتشرة في فلسطين، مستعينًا بما لديه من عتاد عسكري محدود وما تدفّق عليه من مجاهدين عرب لينفذ عمليات نوعية متلاحقة شملت نسف الجسور وخطوط السكك الحديدية، وكذلك تعطيل خطوط الهاتف وخط الأنابيب الذي يصل نفط العراق إلى حيفا.

تظلّ تلك النجاحات العسكرية مهمة جدًا قياسًا بحجم التسليح الضعيف الذي عانَت من تلك القوة الفلسطينية بعدما امتنعت الدول العربية عن تسليحه رسميًا، ولم يجد منظموه أمامهم بدًّا من شراء الأسلحة من مخلفات الحرب العالمية الثانية المنسية في الصحراء الغربية.

لذا كان شكله الأوّلي ليس جيشًا نظاميًّا بالمعنى المفهوم، بل هو مجرد تشكيلات شعبية مسلحة التي تأتمر مباشرة بتعليمات القائد العام عبدالقادر الحسيني.

أشهر المواقع التي جرت بين الطرفين، معركة «حلحول» على طريق (الخليل – بيت لحم)، والتي قادها الحسيني والضابط السوري سعيد العاص سويًا.

ففي 24 أيلول\سبتمبر 1936م تمكّنت القوة الفلسطيني من نصب كمين للعساكر البريطانيين في الخليل، وخاضوا معهم معركة كبرى استشهد فيها 3 مقاتلين فيما خسر الإنجليز 40 فردًا. وهو ما أشعل نيران الغضب في صفوف القيادة البريطانية فحاصرت المنطقة التي شهدت المعركة بـ3 آلاف جندي وأجرت عملية تفتيش دقيقة حتى حاصرت المقاتلين في جبال قرية الخضر، وفي 4 تشرين الأول/ أكتوبر جرت معركة بين الطرفين انتهت باستشهاد سعيد العاص وإصابة الحسيني بجروح بليغة.

هرب الحسيني إلى دمشق حيث تلقى العلاج هناك، ومنها غادر إلى ألمانيا حيث درس صناعة المتفجرات، وفور انتهائه من تدريباته عاد إلى سوريا يُراقب الأجواء وينتهز الفرصة المناسبة للعودة إلى فلسطين، وهو ما تحقق في 1938م.

وفور عودته عاد المجاهدون الفلسطينيون لخوض معارك عديدة ضد البريطانيين في العديد من المدن، مثل: عكا، بئر السبع، الخليل، بيت لحم، الفالوجا، القدس. وفي 14 تشرين الأول/ أكتوبر جرت موقعة بلدة بني نعيم، والتي واجه فيها ألف فلسطيني قرابة 3 آلاف جندي بريطاني.

اتخذ الحسيني قرارًا خاطئًا بعدم الانسحاب من القرية رغم التفوق العددي الكبير للبريطانيين، وخاض مواجهة غير متكافئة بالمرة ضد الإنجليز الذين استعانوا بالمدافع والطائرات ضد جنود الجهاد الذين لم يملكوا غير البنادق. في النهاية- وبسبب الخسائر الكبيرة في صفوف قواته- اضطر الحسيني للانسحاب من القرية بعدما فقد العشرات من جنود وقواده على رأسهم ابن عمه على الحسيني، كما تعرّض الحسيني نفسه إلى جروحٍ بالغة نُقل على أثرها إلى سوريا ثم إلى لبنان للعلاج.

أضعفت تلك المعركة كثيرًا من موقف القوة الفلسطينية، فخفت بريقها ولم يعد إلى النور إلا عقب صدور قرار تقسيم فلسطين في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1947م.

العودة من تحت الرماد

في عام 1947م، وفور صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، أعاد عبدالقادر الحسيني إحياء تلك القوة العسكرية الفلسطينية بعدما تزايدت الأوضاع خطورة في فلسطين، ومن القدس أُعلن عن تشكيل تلك القوة لـ«تحرير فلسطين، والمحافظة على وحدة أراضيها، والإبقاء على عروبتها».

هذه المرة كان الإقبال كثيفًا على المشاركة فيه؛ فلقد مثّلت القوة الأساسية للجيش قرابة 5-7 آلاف مقاتل تساندهم قوات المتطوعين والذين بلغت أعدادهم نحو 10 آلاف فرد، لكن بقي ضعف التسليح نقطة ضعف أساسية لاحقت جيش الجهاد طوال تاريخه، وأعطت لليهود تفوقًا نوعيًّا عليه في أغلب الأحيان.

خاضت «الجهاد المقدس» معارك ضارية ضد العصابات اليهودية التي نفذت العديد من المجازر بحق الفلسطينيين، مثل: «الهاجاناه» و«البالماخ» و«الأرجون».

وعلى الرغم من تلقي القوة دعمًا من الجامعة العربية تمثّل في 5396 بندقية و499 مدفع رشاش و309 مسدسات و23 مدفع هاون و60 ألف قنبلة و3867 لغمًا، فإن هذه المؤنات مثّلت جزءًا يسيرًا من المعونات العسكرية الضخمة التي انهالت على العصابات اليهودية.

وفي صباح السابع من أبريل تعرّضت الجهاد المقدس لضربة موجعة خلال خوضها معركة قرية القسطل ضد قوات الهاجاناه بعدما تعرّض القائد الحسيني لإصابة بليغة استُشهد على أثرها.

على الفور انتقمت «الجهاد المقدس» على اغتيال زعيمها بهجوم قاده المناضل حسن سلامة ضد قافلة يهودية كانت تنقل المؤن إلى مستشفى هداسا أسفر عن مصرع 40 يهوديًا.

لم تمنع هذه العملية من الاعتراف بتأثر القوة الفلسطينية الشديد برحيل زعيمها حتى تلقت ضربة أخرى، وهي دخول الجيوش العربية فلسطين في 15 آيار/مايو 1948م، ما تطلّب تسليم راية القتال إلى الجيش النظامية، والتي فشلت في مهمتها. وعقب انتهاء الحرب بخسارة العرب وسيطرة عمان على الضفة الغربية صدر القرار الأردني في 18 كانون الثاني/يناير بحل قوة «الجهاد المقدس» ومصادرة سلاحها.