يحتوي الكون على كم مهول من المواد والطاقة، كم لا يمكن تخيله البتة. ومع هذا فإنه لحسن الحظ يمكن حسابه. من هذه الإمكانية نستطيع استنباط الكثير من المعلومات عن الكون، وهيكله، ومختلف مكوناته وطبيعتها. من هذه الإمكانية تستطيع صنع صورة لمجرة بما تحمله من ملايين النجوم، تستطيع كذلك أن تتبع تكتل مجري Galaxy cluster بما يضمه من آلاف المجرات.

من تحليل معلومات تخص الكثافة والكتلة والحجم والكثير الكثير من المناورات الرياضية، تستطيع بما يبدو كالسحر أن تجمع الكون المرئي كله في حقيبة واحدة. لكن ماذا يحدث إذا قمت بكل حساباتك بدقة وفتحت الحقيبة لتجد –للغرابة- أن أكثر من نصف محتوى الحقيبة ببساطة غير موجود؟.


لعبة غميضة كونية

لا نعني هنا أن هذا المحتوى المفقود «مختفٍ». إن القسم المختفي لدينا والذي يمثل نحو 95% من كل المادة في الكون يندرج تحت مسمى خاص به وهو المادة والطاقة المظلمة Dark matter and dark energy اللتان لم يستطع العلم إيجاد طريقة لرؤيتهما بعد. ما نتحدث عنه هو المادة العادية Normal matter والتي تمثل الخمسة بالمائة الباقية، تلك التي لا نستطيع إيجاد ما يقرب من 90% منها هي أيضًا.

مثلت هذه المعضلة كابوسًا مؤرقًا للفلكيين والفيزيائيين لفترة طويلة تم خلالها اقتراح عدة حلول نظرية. الآن ولأول مرة يتم اكتشاف دليل على صحة أحد هذه الحلول.

لأول مرة قام فريقان بحثيان بإيجاد أدلة على مكان اختباء جزء كبير من المادة العادية المختفية في الفراغ ما بين المجري intergalactic space. يأتي هذا تأكيدًا على نظرية واسعة التقدير ولكنها بقيت في احتياج لإثباتات مادية لزمن طويل.

قام الفريق البريطاني بقيادة أنا دي جراف في جامعة إدنبرة و الفريق الفرنسي بقيادة هيديكي تانيمورا في معهد أستروفيزياء الفضاء باستقصاء صورة متكاملة ثلاثية الأبعاد للكون تم بناؤها بواسطة مسح سلون الرقمي Sloan digital sky survey. بواسطة هذا الاستقصاء استطاع الفريقان استخدام تأثير سونييف–زيلدوفيتش Sunyaev-Zel’dovich (SZ) effect (وسنعود له بعد قليل) في معرفة مكونات الفراغ ما بين المجري، وهناك وجدوا ضالتهم.

في الفراغ الشاسع بين المجرات وتكتلات المجرات يمكن لأجهزة الكمبيوتر المتصلة بالتليسكوبات رؤية الصورة الكبرى التي لا يتسنى لنا –نحن البشر ذوي الحواس المحدودة- رؤيتها بمفردنا. هكذا تمكن الباحثون من رؤية أذرع Filaments تمتد لتصل بين المجرات مكونة شبكة Network مهولة تشمل الكون على اتساعه.

في هذه الأذرع التي تكوّن الشبكة الكونية Cosmic web وجد الباحثون أثر المادة الضائعة. تتواجد المادة هناك على هيئة جزيئات تحت ذرية sub-atomic تتكون من ثلاث كواركات أي baryonic مثل البروتونات والنيوترونات. تلبث هذه المادة هناك في كميات ضخمة لكنها موزعة على كم هائل من الفراغ وبالتالي فإن كثافتها متناهية الصغر. كيف أمكن التقاط أثرها إذن؟.


بقايا الزمن البعيد

تتواجد هذه المادة في درجات حرارة مرتفعة لكنها ليست بالحرارة التي يمكن لتليسكوبات الأشعة السينية رؤيتها، كما أن انخفاض الكثافة الشديد يجعل من الأمر مشكلة أيضًا. لهذا فإن البحث حاول استهداف هذه المادة بواسطة تأثير حراري مختلف وهو تأثير سونييف- زيلدوفيتش. فما هو هذا التأثير؟.

حتى نحصل على إجابة لهذا السؤال فإن علينا أن نعود بالزمن لكون وليد يبلغ من العمر ما يقارب 400 ألف سنة فقط، حينما كان الكون برتقالي اللون.

كان الكون حينها مجرد فقاعة تحتوي على جسيمات مشحونة في كل مكان ولم تكن أول ذرة متعادلة قد ظهرت بعد. نطلق على هذه الحالة من المادة اسم بلازما plasma. استمرت جسيمات هذا الحساء الجسيمي بإشعاع الطاقة في كل الأنحاء، إلا أن وجود الإلكترونات الحرة التي تسبح في الفضاء هنا وهناك جعل انتقال فوتونات الأشعاع عويصًا. ما إن ينطلق الفوتون حتى يصطدم بإلكترون يغير مساره، وما إن يأخذ اتجاهًا جديدًا حتى يصطدم بإلكترون ثالث وهكذا. كان الطول الموجي لهذه الفوتونات يقع في منطقة اللون البرتقالي على الطيف الكهرومغناطيسي، وبالتالي فإنك إذا نظرت لصورة للكون آنذاك ستجد تشويشًا برتقاليًا في كل مكان.

أخذ الكون بالتمدد والاتساع، مع هذا التمدد انخفضت درجة الحرارة وتمكنت الذرات من التكون، لم تعد هناك إلكترونات حرة تعرقل مسيرة الإشعاع، أصبح الكون شفافًا وأصبح بإمكان الفوتونات السفر في الكون كيفما شاءت.

علينا الإشارة هنا إلى أن هذا التطور المثير يعني أنه لم يعد الكون حساء من البلازما وبالتالي فإن آخر إشعاع صدر عن البلازما قبل تكوين الذرات المتعادلة هو آخر أثر يمكننا التقاطه من هذا العهد البائد. لحسن الحظ فإن هذا الإشعاع ما زال مسافرًا من حينها وإلى أن ينهار الكون.

مع تمدد الكون تمدد أيضًا موجات هذا الإشعاع متحولة من البرتقالي إلى الأشعة الحمراء ثم تحت الحمراء ثم الميكروويف. لهذا تحول لون خلفية الكون بالنسبة لأعيننا من برتقالي إلى أحمر ثم أسود لعدم حساسية عيوننا للأطوال الموجية لموجات الميكروويف. هذا الإشعاع الذي يعمل في الخلفية هو ما نطلق عليه Cosmic Microwave Background أو CMB.


صدام القديم والحديث

ما علاقة الأمر بـ سونييف – زيلدوفيتش؟، حسنًا. تخيل أن إلكترونًا عالي الطاقة اصطدم بفوتون من فوتونات CMB. يلتقط فوتون CMB بعضًا من طاقة الإلكترون ليظهر بطاقة مرتفعة عما يجب أن يكون. هذا بالضبط ما بحث عنه الفريقان البحثيان؛ أي توجد أشعة CMB ذات طاقة أعلى مما يجب مما يدل على وجود تجمع للبلازما التي تحتوي على إلكترونات عالية الطاقة.

هذا هو ببساطة تأثير سونييف زيلدوفيتش. هذا التفاعل بين البلازما والإشعاع الخلفي الكوني. هذه الإشارة التي يمكن أن نلتقطها لتنبهنا أن هذا المكان يحتوي على بلازما.

بالطبع من المعتاد أن تجد هذه الإشارات عند تكتلات المجرات. الجديد هو إيجاد مثل هذه الإشارات في الفراغ بين المجري. عند تسجل أماكن هذي الإشارات يمكنك رؤية الأذرع المحتوية على البلازما بين تكتلات المجرات. هذه البلازما هي مادتنا المفقودة.

لم تنشر الورقتان البحثيتان في دورية مراجعة من قبل النظراء peer-reviewed بعد لكنها متاحة للقراءة على Arxiv لحين المراجعة والنشر. في علوم الكونيات لا يكفي أن تمتلك فرضية متماسكة ومدعمة بالاستدلال المنطقي والرياضي الدقيق فقط. عليك أن تجد طريقة دائمًا لرؤية فرضيتك في طور التحقق عيانًا ثم على الآخرين فحص نتائجك وتفنيدها بحرص.

لا تعتبر فرضية اختباء المادة في الفراغ بين المجري أمرًا جديدًا، فهي من أهم ما اقترح لحل معضلة المادة المفقودة. مع ذلك فإن المشاهدة المباشرة لدليل عليها يحملها لمستوى مختلف تمامًا في نظر العلم. هكذا تتحول الفرضية إلى نظرية، وهكذا نتعلم.