محتوى مترجم
المصدر
open democracy
التاريخ
2018/11/14
الكاتب
نافز أحمد

تسبب القتل الوحشي لجمال خاشقجي، الصحفي السعودي في واشنطن بوست، في موجاتٍ صادمة حول العالم، وسلط الضوء على كذب المملكة التي كان يُدعى إليها خاشقجي ذات يوم.صورت الصحافة الليبرالية خاشقجي باعتباره رائدًا مُصلحًا ومعارضًا عنيدًا، قُتل بسبب نقده الحاد لولي العهد محمد بن سلمان. ورداً على ذلك، وصفت بعض المواقع اليمينية في الولايات المتحدة خاشقجي بأنه إسلامي ومتعاطف مع تنظيم القاعدة وعميل سري لجماعة الإخوان المسلمين، وقُتل لأن محمد بن سلمان رآه تهديدًا متطرفًا، ويتلاءم الوصف بدقة مع رواية المملكة السعودية. في مكالمة هاتفية مع البيت الأبيض، وصف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان خاشقجي بأنه إسلامي خطير وعضو في الإخوان المسلمين.في هذه الأثناء، انخرطت حكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في الإدانات الأخلاقية الإلزامية في الوقت الذي كانت تحرص فيه على ما يجب القيام به؛ تستمر الحرب السعودية على اليمن على قدم وساق بدعم الولايات المتحدة وبريطانيا، وعلى الرغم من بعض التصريحات الساخنة، لم تُتخذ أي خطوات «لمعاقبة» النظام السعودي.كلا الجانبين مخطئ. اختارت وسائل الإعلام المحافظة خلفية خاشقجي لتصويره إسلاميًا متشددًا، وهي ببساطة صورة بعيدة كل البعد. لكن أيضًا الصورة الليبرالية له كديمقراطي إصلاحي أحادية الجانب ومضللة وتخدم ذاتها.الحقيقة حول خاشقجي أكثر تعقيدًا.


أنا وخاشقجي

قبل أكثر من عقد من الزمن، ناقشت جمال خاشقجي لبحث نظرته لكتابي المقبل عن المملكة العربية السعودية. ففي الوقت الذي كنت فيه ممثلًا عن وكالة كيرتس براون الأدبية، عمل خاشقجي في الحكومة السعودية مساعدًا إعلاميًا مقره السفارة السعودية في لندن.أراد العثور على صحفي يمكنه السفر إلى المملكة ومخول من السلطات بوصول غير مسبوق إلى المسؤولين والوثائق. كان السعوديون حريصين على إطلاق حملة العلاقات العامة بعد الانتقاد الشديد لعلاقة المملكة بالإرهابيين الإسلاميين. سيمنحهم المشروع فرصة لوضع الأمور في نصابها الصحيح وإثبات براءتهم. يعتقد نائبي أنها قد تكون طريقة جيدة لمتابعة عملي السابق. تناول كتابي الأول، «الحرب على الحرية»، سعي إدارة بوش إلى إخفاء الأدلة حول الدعم السعودي رفيع المستوى لعملية 11 سبتمبر/ أيلول، كان كتابي من بين 99 كتابًا أُختيرت رسميًا لتستخدمها لجنة 11 سبتمبر في تحقيقها حول الهجمات. كنت وثقت ليس فقط دليلًا على إشراف السعوديين على تمويل تنظيم القاعدة لأسامة بن لادن على مدار عقود من الزمن كنوع من «طلب الحماية» – حيث حافظوا على تدفق الأموال لمنع الإرهابيين من استهداف المملكة السعودية في الداخل – واستمر كثيرًا تحت رقابة الحكومات الأمريكية والبريطانية. وكانت هذه «علاقة خاصة» للحفاظ على صنبور البترول.عندما طرح نائبي الفكرة لأول مرة على خاشقجي، كان من المفترض أن ينظر السعوديون إلى ذلك فرصة «لسرد جانبهم من القصة» حول الأحداث التي سبقت 11 سبتمبر، عبر صحفي راغب في الاستماع. عندما راودتني الفكرة، أوضحت لخاشقجي أن عملي السابق كان شديد الانتقاد لعلاقة المملكة بالإرهاب. أدركت أن هدفهم هو تطهير اسم المملكة، لكنني أخبرته أن عليّ أن أتابع أينما قادت الأدلة، سواء كانت تمجّد المملكة أو تدينها، وستحتاج إلى حرية تحريرية كاملة.نوقشت الفكرة بحماس بدايةً، لكن بعد بعض البحث الذي أمل السعوديون في تحقيقه، سرعان ما اتضح أن خاشقجي لم يكن مهتمًا بإعداد كاتب يريد البحث بين السطور. فقد خاشقجي الاهتمام، ومات المشروع.


خاشقجي والأمير تركي و11 سبتمبر

في النهاية، أسهمت محاولة خاشقجي لإصلاح الصورة العامة للمملكة بطرق أخرى. خرج التقرير النهائي للجنة 11 سبتمبر بإعفاء السعوديين من المسؤولية المباشرة في الهجمات. وقال التقرير: «تعتبر السعودية منذ فترة طويلة المصدر الرئيسي لتمويل القاعدة، لكننا لم نعثر على أي دليل على تمويل الحكومة السعودية كمؤسسة أو كبار المسؤولين السعوديين للمنظمة بشكل فردي».لكن لا تزال هناك أسباب قوية للشك في صحة هذه النتائج، لم تتبدد الادعاءات حول تواطؤ سعودي عال في الإرهاب. وصرحت لجنة 11 سبتمبر في سجلاتها حول اعتقادهم بكشف تحقيقاتهم كلها للبيت الأبيض، متهمين حكومة الولايات المتحدة برغبتها في «تغطية» القصة الكاملة للأحداث.بداية هذا العام، رُفعت دعوى قضائية أمريكية نيابة عن عائلات ضحايا 11 سبتمبر، تربط المسؤولين السعوديين بالهجمات، وتمت الموافقة عليها من قاضي المقاطعة جورج دانيالز في نيويورك.قال أندرو مالوني، محامي عائلات الضحايا: «كان لدى وزارة الشؤون الإسلامية السعودية في الولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم مسؤولون حكوميون تآمروا مع القاعدة لدعمها ودعم خاطفي الطائرات خلال الأحداث. إما لم تتابع لجنة 11 سبتمبر عام 2003 و2004 البحث، أو لم ترغب في المتابعة، أو تسترت على السعوديين أو لم تصل إلى نهاية التحقيق. هذا ما توصلنا إليه، وجمعنا الكثير من المعلومات والأدلة منذ ذلك الحين».منذ اغتيال خاشقجي المروع في القنصلية السعودية في إسطنبول، تصوره الصحافة الدولية مصلحًا صريحًا وشجاعًا، وصحفيًا استهدفته المملكة لأن انتقاداته لفشلها كانت أكثر من أن يتحملها النظام.هذه الرواية ليست كاذبة تمامًا، لكنها انتقائية للغاية. تحدث العديد من الصحفيين الذين يعرفون خاشقجي عن تطلعاته للديمقراطية في الشرق الأوسط. مع ذلك، لم يكن خاشقجي في معظم مسيرته المهنية مصلحًا على الإطلاق، بل مطلعًا على ما في قلب النظام السعودي، وعبر تأطيره معارضًا، أخفت الصحافة الدوافع الحقيقية وراء قتله.أثناء مناقشاتي القصيرة معه، عمل خاشقجي مع رجل في لُب بعض القضايا التي كنت أحقق فيها، كان وسيطًا إعلاميًا للأمير تركي الفيصل، السفير السعودي في لندن ولاحقًا في واشنطن، ورئيس المخابرات السعودية سابقًا لـ25 عامًا قبل أن يستقيل فجأة قبل هجمات 11 سبتمبر.كان الأمير تركي رئيس الاستخبارات السابق هو الذي توسط في صفقة السعوديين المشؤومة مع تنظيم القاعدة، وفقًا لوثائق وشهادات مطلعين بشؤون طالبان أشار إليها صحفيان في صحيفة فانيتي فير، هما أنطوني سمرز وروبن سوان. في كتابهما «يوم الحادي عشر» (2012)، ذكرا أنه في إطار صفقة الفيصل، عام 1995، دفعت العائلة المالكة السعودية «أموال الحماية» لأسامة بن لادن شريطة أن يتجنب استهداف المملكة.كانت وكالة الأمن القومي تراقب العملية عن كثب، والتي شهدت مئات الملايين من الدولارات المحولة إلى بن لادن عبر النشاط الخيري. كما ذكرتُ سابقًا في صحيفة ميدل إيست آي، كانت المخابرات الأمريكية والبريطانية والألمانية والفرنسية على دراية تامة بتدفق التمويل السعودي لمقاتلي القاعدة، وكان للعديد منها علاقات مباشرة بالملك سلمان الحالي. وخلصت وكالات الاستخبارات إلى أنه في التسعينيات، كان سلمان يسيطر على «القبضة الحديدية» للعمليات المالية الرئيسية لمجموعة من المؤسسات الخيرية (مثل المفوضية السعودية العليا ووكالة العالم الثالث للإغاثة ومنظمة الإغاثة الإسلامية الدولية) والتي وُجدت بمنهجية تحول مئات الملايين من الدولارات لمقاتلي القاعدة. تدرب العديد من خاطفي الطائرات في 11 سبتمبر في المخيمات التي جرى تمويلها من هذه الأموال.حسب بعض الروايات، استمرت علاقة الأمير تركي الفيصل بابن لادن حتى 11 سبتمبر. ووفقًا لصحيفة Le Figaro الفرنسية، زعمت مصادر استخباراتية فرنسية أنه قبل شهرين من الأحداث، نُقل ابن لادن إلى المستشفى الأمريكي في دبي لعلاج الكلى تحت رعاية الأمير تركي، حيث التقى قائد القاعدة مسؤولين من وكالة الاستخبارات المركزية.ورغم رفض كل من واشنطن والرياض، أكد سامرز وسوان القصة من مصادر موثوقة، والتي «وصفت الزيارة بشكل مستقل بالتفصيل وفي نفس الوقت». كما أجريا مقابلة مع آلان شويت، رئيس المخابرات الفرنسية (المديرية العامة للأمن الخارجي DGSE)، أثناء الاجتماع المزعوم: هل وثق شويت التواصل في دبي؟ أجاب: «نعم». هل كان لدى DGSE علم بالوقت الذي التقى فيه ضباط CIA بابن لادن؟ «نعم، قبل 11 سبتمبر، لم يكن سبقًا صحفيًا لنا، ولم نشعر بالدهشة».إذا كان الأمر صحيحًا، فلماذا حاول السعوديون والأمريكيون محاكمة زعيم القاعدة الإرهابي قبل أشهر من قيامه بتنفيذ هجمات 11 سبتمبر؟اليوم، نُسي تمامًا أن إدارة كلينتون وبوش خلال تسعينيات القرن الماضي، كانت ترعى طالبان في أفغانستان بسرية، على الرغم من إيوائها شبكة ابن لادن، بينما كانت المجموعة تتفاوض على عقود أنابيب بملايين الدولارات مع شركات يونوكال وانرون الأمريكية. في أحد هذه الاجتماعات في صيف عام 2001، حذر مفاوضو إدارة بوش طالبان من أنهم سيواجهون «قنابل» أمريكية بحلول أكتوبر/تشرين الأول إذا رفضوا الامتثال لخطة بوساطة أمريكية لحملهم على تشكيل حكومة اتحادية مع التحالف الشمالي، مما يجعل عبور خط الأنابيب عبر أفغانستان ممكنًا. وتكهن جان تشارلز بريزارد، ضابط المخابرات الفرنسي السابق، بأن هجمات 11 سبتمبر قد تكون ضربة وقائية نتيجة لتهديدات الولايات المتحدة.لذا إذا كانت المملكة العربية السعودية متواطئة في توسع الإرهاب الإسلامي، يجب طرح الأسئلة حول دور الغرب في هذا التواطؤ.ذُكر رئيس خاشقجي السابق الأمير تركي مرارًا في ادعاءات صدرت في النصوص السابقة من الدعوى القضائية من الولايات المتحدة في 11 سبتمبر ضد السعودية. وضعت أوراق قانونية من القضية – وصفتها The Observer في 2003 – الأمير تركي في قلب الهيكل التمويلي للقاعدة. كما اعترف الأمير تركي بتعرض ستة بريطانيين سجنتهم المملكة أثناء توليه منصب رئيس المخابرات للتعذيب.لعب خاشقجي بنفسه دورًا مباشرًا في خدع الأمير تركي، بعد أن أصبح صديقًا لأسامة بن لادن في الثمانينيات. على الرغم من تنصله من تحول ابن لادن للإرهاب، كما يشير جون برادلي، الصحفي المخضرم في الشرق الأوسط، كان خاشقجي نفسه «موظفًا من قبل أجهزة الاستخبارات السعودية في محاولة لإقناع ابن لادن بالسلام مع العائلة المالكة السعودية». كان خاشقجي «السعودي الوحيد غير الملكي والمالك لأصول التعامل الحميم مع القاعدة في الفترة التي سبقت هجمات 11 سبتمبر».


اعتذارات عن الفظائع

لا عجب أن خاشقجي لم يرغب في تناول المشروع معي أكثر من هذا. كان رئيسه متورطًا في القضايا التي كنت مهتمًا بها، والملك سلمان أيضًا.غني عن القول إنه في هذا الوقت، لم يتحدى خاشقجي التعذيب، وتغلغل تمويل الإرهاب وسحق المعارضة داخل المملكة. على الرغم من نشر بعض الانتقادات المعتدلة للسلفية في أدوار تحريرية مختلفة، ظل مؤيدًا مخلصًا للنظام الملكي السعودي كمؤسسة.حتى بعد «تحرره» من المملكة في منفى اختياري، لم يناقش أبدًا علاقة المملكة المشبوهة بالإرهاب، وفي الوقت الذي ركز فيه انتقاداته على محمد بن سلمان، تجنب بدقة أكبر نقطة ضعف في الأخير؛ الدليل على تواطؤ والده التاريخي في تمويل الإرهاب. يجادل برادلي بأن علم خاشقجي الوثيق بالتعاملات السعودية مع ابن لادن حتى أحداث 11 سبتمبر «كان من الممكن أن يكون حاسمًا لو أنه صعد حملته لتشويه صورة ولي العهد».حتى نقد خاشقجي الأكثر حذرًا للمملكة كان تمردًا كبيرًا عن سجل طويل من اللاهوت الدفاعي. وكما وضحت رولا جبريل في صحيفة نيوزويك، «وصف خاشقجي بأنه معارض في الأسابيع التي تلت اختفاءه. لكن قبل 18 شهرًا، كان مخلصًا للنظام السعودي في كل قضية رئيسية، من اليمن إلى سوريا إلى الطائفية التي تقرها الدولة داخل المملكة».في يناير/ كانون الثاني 2016، حذرت الأمم المتحدة من إمكانية أن يكون إسقاط الجيش السعودي القنابل العنقودية على المناطق المدنية في اليمن، جريمة حرب. في تلك الأثناء، بسّط خاشقجي – الذي يمجد الآن كمعارض شجاع للعنف الهائل من المملكة العربية السعودية خلال الحرب اليمنية – الحرب ودافع عن استخدام القنابل العنقودية. في مقابلة مع مهدي حسن على قناة الجزيرة، برر خاشقجي الحرب السعودية في اليمن كمحاولة للدفاع عن «حرية» اليمنيين من «ديكتاتورية» الحوثيين المدعومة من إيران. وأشاد بسياسات السعودية الخارجية الإقليمية بأنها مصممة «للوقوف مع الشعب»، ورفض التقارير عن القصف السعودي المكثف للمدنيين اليمنيين قائلًا، إن «القنابل العنقودية لم تُستخدم ضد المدنيين»، في الوقت الذي سجلت الأمم المتحدة أكثر من 8100 إصابة مدنية.في ذاك العام، كتب خاشقجي عمودًا في صحيفة الحياة التي يقع مقرها في لندن وتمول من السعودية، يدعو السُنّة إلى التآلف معًا و«الدفاع عن أنفسهم كطائفة»، يتبع هذا تقليدًا أقدم. يُصوره الآن كحريص متحمس لرغبة الربيع العربي. في عام 2011، دعم الحملة العسكرية التي قادتها السعودية على المظاهرات الشيعية في البحرين، المستوحاة من الربيع العربي، ودعم إعدام محمد بن سلمان الشيخ الشيعي نمر النمر في عام 2016.أُعدم النمر مع 46 سجينًا آخرين بتهم الإرهاب. في الواقع، لعب النمر ببساطة دورًا رئيسيًا في الاحتجاجات التي قادها الشيعة في منطقة القطيف شرقي المملكة العربية السعودية، داعيًا إلى الإصلاح السياسي والانتخابات. لكن أصر خاشقجي على أنها كانت فتنة. قال: «إنها رسالة واضحة لأي شخص يريد إسقاط الحكومة، دعا النمر علانية للإطاحة بالنظام والولاء لولاية الفقيه [المرشد الأعلى الإيراني]، هذا بمثابة خيانة لأي بلد ديمقراطي، و[إعدامه] ليس لرأيه كشيعي، بل لدعوته للإطاحة بالحكومة والولاء لزعيم أجنبي».باختصار، استخدم خاشقجي توجه أقلية الشيخ النمر باعتبارهم شيعة، لشيطنته كعميل لإيران وتجريم دعواته لإرساء الديمقراطية كخائن يهدد المملكة. ولم يحفز الإعدام الوحشي لـ46 شخصًا في عام 2016 خاشقجي على المعارضة. وفكرة الانتفاضة في انتقادات خاشقجي للنظام السعودي على مدى الأشهر الثمانية عشرة الماضية هي مجرد ختام أحد أعمدته على واشنطن بوست: «أريدك أن تعرف أن المملكة العربية السعودية لم تكن دائمًا كما هي الآن. نحن السعوديين نستحق الأفضل».برر خاشقجي إلقاء القبض على 30 شخصًا من قبل السلطات السعودية في سبتمبر/ أيلول 2017 بـ«بعض المعتقلين أصدقاء حميمون لي، ويمثل هذا الجهد عارًا مجتمعيًا للمثقفين والزعماء الدينيين الذين يجرؤون على التعبير عن آراء تتعارض مع آراء قيادة بلدي، هناك عدة أشخاص آخرين بمن فيهم أنا في المنفى الاختياري، ويمكن أن يواجهوا الاعتقال عند عودتهم إلى ديارهم».كان خوف خاشقجي تجاه المملكة إذن نتيجة لتعديل نظام محمد بن سلمان القاسي، بدلًا من الرغبة المبدئية في الديمقراطية، كان يتوق إلى العودة إلى المملكة العربية السعودية «القديمة»؛ قبل مجيء محمد بن سلمان، وقبل أن يُلقى القبض على أصدقائه في النظام الملكي، عندما لم يكن السعوديون «كما هم الآن».


تهديد سياسي للسعوديين والغرب؟

رغم أن المملكة «القديمة» لم تختلف فعليًا عن المملكة الجديدة، حيث كانت تمارس قطع الرأس والقمع الداخلي والطائفية، فإن السمة المميزة لنظام محمد بن سلمان حرصه على تعزيز سلطته، فهاجم منافسيه المحتملين في العائلة المالكة نفسها، وكان معظمهم مقربين من خاشقجي.في هذا السياق، كان موقف خاشقجي المسموع ضد محمد بن سلمان سياسيًا للغاية، فقد كان ملمًا بكون انتقاداته تتحدى تصورات النظام. لابد من فهم سبب اغتيال خاشقجي إذن، ليس لسعي المملكة إلى سحق صحفي معارض مستقل معروف، إنما لقتل شخص كان يومًا ما جزءًا لا يتجزأ من المؤسسة الملكية السعودية، لكنه الآن يتحدى السلطة وعدالة ولي العهد.بمعنى آخر، كان خاشقجي ضحية حرب أوسع داخل المملكة السعودية بين فصائل مختلفة من النخبة الحاكمة.لا يمكننا سوى التكهن بشأن الإجراءات المحددة التي ربما دفعت جهاز الأمن التابع لمحمد بن سلمان إلى اصطياد خاشقجي كشخص يحتاج إلى القتل، وبطريقة وقحة ومكشوفة.من بين الأسباب، تخطيط خاشقجي لزيادة نشاطه السياسي بطريقة قد يعتبرها محمد بن سلمان في صالح منافسيه قطر وتركيا. فقد كان أحد الشركاء الرئيسيين لمشروعه «الديموقراطية للعالم العربي الآن (DAWN)» هو مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (CAIR)، والذي أُدرج عام 2014 من قبل الحليف السعودي، دولة الإمارات العربية المتحدة كمجموعة «إرهابية».في النهاية، تم إقصاء مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية بهدوء من القائمة، ولم يكن لدى السلطات الأمريكية مشكلة مع المجموعة. الأمر الأكثر ملاءمة لهذه القصة هو حقيقة أن الإدراج كان جزءًا من جهد أوسع صارم قامت به الإمارات العربية المتحدة لإدراج أي منظمة على الإنترنت مرتبطة بالأنشطة السياسية التي يمكن تفسيرها تقويضًا للوضع الراهن في الخليج على القائمة السوداء، وذلك باتهامها بالوقوف مع الإخوان المسلمين. ويكشف الإدراج على القائمة عما يفعله جنون العظمة في الأنظمة الخليجية. عبر الشراكة مع المجلس، أشار خاشقجي إلى وجود علاقة بين النشاط السياسي المساوي للسعوديين وحلفائهم الخليجيين مع الإرهابيين.أكّد صديق مقرب لخاشقجي، عزام التميمي – زعيم جماعة الإخوان المسلمين في المملكة المتحدة والذي سبق له أن أيد التفجيرات الانتحارية ولديه صلات بحركة حماس – أن مشروع «الديمقراطية للعالم العربي الآن» يمثل «كلا من الإسلاميين والليبراليين».بوصفه كان مرتبطًا بالمؤسسة السعودية، تعني الشراكة مع أمثال التميمي أن السعوديين ربما يرون أن أنشطة خاشقجي السياسية تشكل خطوة غير مقبولة، وإذا تُركت دون مراقبة يمكن أن تشجع الآخرين على فعل الشيء نفسه. لم يكن خاشقجي إسلاميًا متشددًا، لكنه كان على استعداد لتحريك صلاته بالإسلاميين لتحدي محمد بن سلمان.على هذا النحو، لم يكن اغتيال خاشقجي لمحاربة الإسلام أو الإرهاب. مهما كانت الصلات بالإسلاميين التي دعمها خاشقجي تمت بدقة تحت رعاية المؤسسة السعودية، إذا كان محمد بن سلمان مهتمًا بالفعل بمحاربة الإسلاميين، فربما يتطلع إلى والده الملك سلمان. هذا كان حول محمد بن سلمان لتعزيز مساعيه لتحييد فصيل كامل داخل المؤسسة السعودية نفسها، وتلقينهم الدرس النهائي: انظروا ما يحدث لأحدكم عندما يجرؤ على تحدي نظامي.يقول جراهام فولر – مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية CIA ونائب رئيس مجلس الاستخبارات الوطني التابع للحكومة الأمريكية – إن القتل يتلاءم مع نمط السياسة الخارجية «الأكثر عدوانية وجرأة» للمملكة العربية السعودية بسبب التنافس الجيوسياسي المتزايد على قيادة العالم الإسلامي.لكن السؤال الحقيقي، والذي بلا إجابة، هو إلى أي مدى عرفت الولايات المتحدة وبريطانيا بالفعل عن المؤامرة.أجرت صحيفة واشنطن بوست مقابلة مع مصدر استخباراتي أمريكي يؤكد أن المخابرات الأمريكية كانت على علم بالخطة السعودية للقبض على خاشقجي وتسليمه إلى المملكة العربية السعودية، والتي التُقطت عبر عمليات اعتراض إلكترونية للاتصالات بين المسؤولين السعوديين. لم يكن واضحًا ما إذا كانت هناك معلومات استخباراتية مفادها احتمالية تعرض خاشقجي للخطر، وفي هذه الحالة كان من الواجب تحذيره. ومع ذلك، نُشرت المعلومات الاستخبارية في جميع أنحاء الحكومة الأمريكية وضُمّنت في التقارير التي تتوفر بشكل روتيني للأشخاص الذين يعملون في السياسة الأمريكية في شأن المملكة العربية السعودية.دفعت الشائعات أكثر من 20 من ممثلي الكونجرس الأمريكي لمراسلة مدير المخابرات الوطنية مطالبين بإجابات حول «ما إذا كان خاشقجي قد أُعلم بالفعل حول تهديد حياته وحريته الذي تثيره المؤامرة السعودية للقبض عليه»، وأيضًا «التاريخ الدقيق الذي علمت فيه أي هيئة من أجهزة الاستخبارات الأمريكية أولاً بالخطة السعودية لاعتقاله».يذهب تقرير في صحيفة «صنداي إكسبريس Sunday Express» إلى أبعد من ذلك، نقلًا عن مصادر استخباراتية بريطانية تؤكد أن مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية GCHQ التقطت اعتراضات تظهر أن «عضوًا في الدائرة الملكية» أمر باختطاف خاشقجي وإعادته إلى المملكة العربية السعودية. وقالت المصادر إن الأوامر «تركت الباب مفتوحًا» لـ«أعمال أخرى» إذا أظهر الصحفي مقاومة، مما يشير إلى علم البريطانيين باحتمالية تعرضه للأذى، وورد أنهم نصحوا السعوديين بإلغاء العملية.لم يختر الأمريكيون ولا البريطانيون تحذير خاشقجي.كما أشار تقرير «إكسبرس» إلى سبب آخر محتمل لقتله. صرّح صديق مقرب لخاشقجي – أكاديمي في الشرق الأوسط لم يذكر اسمه – للصحيفة بأن خاشقجي كان على وشك الحصول على «أدلة موثقة» تثبت استخدام المملكة العربية السعودية للأسلحة الكيميائية في اليمن: «كل ما أستطيع قوله هو أن ما سمعته بعد ذلك هو خبر اختفائه».تدعم روايات إكسبرس وبوست بعضها البعض، وتعطي مصداقية إلى الاستنتاج بأن الحكومتين الأمريكية والبريطانية تلقتا تحذيرًا مسبقًا حول العملية السعودية ضد خاشقجي، وعلى الرغم من تحفظاتهما، على ما يبدو، لم يفعلا شيئًا. إذن، لماذا لم يفعلا شيئًا؟لم يكن الدور المفاجئ في مسيرة خاشقجي المهنية في العام والنصف قبل وفاته هو المصلح الليبرالي، بل المطّلع من الداخل العازم على استخدام اتصالاته رفيعة المستوى داخل المملكة وخارجها لتقويض أجندة ولي العهد المدعومة بقوة من إدارة ترامب وحكومة ماي. بذلك، بدأ خاشقجي العمل مع الجماعات والمصالح المرتبطة بأعداء المملكة تاريخيًا، بمن فيهم جماعة الإخوان المسلمين. لم يكن لدى خاشقجي صلات منقطعة النظير داخل المملكة فحسب، بل مع نشطاء الإخوان في جميع أنحاء المنطقة المعارضين للأساليب السعودية. وكان يعرف ربما أكثر من أي سعودي غير ملكي آخر عن تعاملات المملكة الدنيئة مع الإرهابيين، والتي وقع الكثير منها منذ عقود تحت سلطة وكالات الاستخبارات الغربية.هل يمكن أن يكون اكتشافه الأدلة على استخدام المملكة العربية السعودية للأسلحة الكيميائية في اليمن هو القشة التي قصمت ظهر البعير؟ وهل لم تفعل الاستخبارات الأمريكية والبريطانية أي شيء لقلقهم من أن كون خاشقجي لم يشكل تهديدًا غير مسبوق للمملكة فحسب، بل لمصالحهم الخاصة في المملكة أيضًا؟ربما لن نعرف أبدًا، لكن الشيء الأكثر وضوحًا أنه بمقتل خاشقجي ستنسى العديد من الأسرار التي أرادت المملكة وحلفاؤها الغربيون دفنها.