يرتبط الحديث دائمًا عن سياسات الجمهورية التركية، الداخلية منها أو الخارجية، بالحديث إما تصريحًا أو ضمنًا عن السياسات العلمانية التي تلتزم بها الحكومة والدولة منذ ما يزيد عن تسعين عامًا، أي منذ تأسيس الجمهورية ذاتها عام 1923 على يد المشير «مصطفى كمال» [حصل على لقب أتاتورك لاحقًا]. ولعل قيام الجمهورية التركية على تطبيق مبدأ «العلمانية» بشكل صارم، وفصل الربط بين أي تصرف له علاقة بالأوامر الدينية وبين سياسات الدولة، يدخلها في أوائل دول العالم الإسلامي التي تتبنى العلمانية بشكل رسمي فعلًا ونصًا في الدستور.

وأدى تبني مؤسسُ الجمهوريةَ الجديدةَ، الأيديولوجيةَ العلمانيةَ كإطارٍ يُحدد ملامح دولته في شكلها الداخلي والخارجي؛ إلى ترسيخ مبادئ جديدة تعمل على رسم هذه السياسات وتُعتبر بمثابة القواعد الراسخة التي يقوم عليها بناء الدولة. نتج عن هذه السياسات تصدعات كبيرة لم يقتصر أثرها على الاصطدام بقيم وثوابت المجتمع التركي في الجمهورية القائمة على أنقاض الدولة العثمانية، بل وصل تأثيرها إلى كل أنحاء العالم الإسلامي، فكانت بمثابة الزلزال الكبير الذي ما زالت آثاره وتبعاته مؤثرة وقائمة في بلداننا العربية والإسلامية إلى اليوم. وفي هذا المقال أقوم بإلقاء أضواء على نظرة مصطفى كمال إلى علاقة الدين بالدولة، وكيف نظر إلى الدين على أنه عامل من عوامل الرجعية، وأنه لا بد أن ينفصل بشكل تام عن سياسات الدولة، بل وأن تفرض الدولة سيطرتها عليه.


نظرة إلى مرحلة ما قبل أتاتورك

بالنظر إلى سياسات مرحلة ما قبل الجمهورية والتي تتعلق بعلاقة الدين بشئون الدولة، نجد أنه منذ وصول مقاليد الحكم في الدولة العثمانية ليد رجال جمعية «الاتحاد والترقي» بعد الانقلاب على السلطان «عبد الحميد الثاني» عام 1909، وبدا واضحًا للجميع أن سياستهم تسعى لتنحية الدين بصورة شبه كاملة عن الحياة السياسية، فمارسوا سياسات أدت إلى التقليل إلى حد كبير من سلطة علماء الدين على المؤسسات، أبرزها استبعاد شيخ الإسلام -أكبر سلطة دينية في الدولة- من مجلس وزراء الدولة في عام 1916، ونقل سلطته على المحاكم الشرعية والمساجد والمدارس، إلى وزارات جديدة للشئون الدينية.

هذه السياسات التي اتفقت بشكل ملحوظ مع السياسات التي تمت في المرحلة الكمالية، ولكن بدرجة أقل حدة مما مارسه مصطفى كمال، فلو عمل رجال «الاتحاد والترقي» على التقليل من تدخل علماء الدين في شئون الدولة، إلا أن العهد الكمالي أدى إلى محو أي سلطة دينية على مؤسسات الدولة بشكل كامل، بل وإعدام علماء الدين أنفسهم.


السياسات الكمالية

ولو أردنا النظر إلى السياسات التي طبقها مصطفى كمال في فترة حكمه التي تمتد لمدة خمسة عشر عامًا، من 1923 وحتى وفاته عام 1938 لوجدناها تنقسم إلى ثلاث مجموعات: الأولى هي علمنة الدولة والقانون والتعليم، الثانية الهجوم على الرموز الدينية واستبدالها برموز من الحضارة الغربية، والثالثة علمنة الحياة الاجتماعية. هذه المجموعات الثلاثة تمثلت في مجموعة كبيرة من القوانين والقرارات التي أدت إلى استبعاد الإسلام من المحيط العام بشكل شبه كلي، مع انتهاج برنامج تغريبي قائم على أساس هيمنة الأيديولوجية العلمانية الصارمة، وتنحية كل ما يمت للدين بصلة في شئون حياة الناس اليومية أو شئون الدولة، فكانت مجموعة من النتائج التي تم اعتمادها بناء على هذه الرؤية، تتلخص أهمها في النقاط التالية:

1922: إلغاء السلطنة العثمانية.

1924: إلغاء الخلافة الإسلامية، وطرد العائلة العُثمانية من البلاد، وتوحيد نظام التعليم وإغلاق المدارس الدينية والمحاكم الشرعية.

1925: إغلاق التكايا والزوايا.

1925: إنفاذ قرار ارتداء قبعة الرأس بدلا من الطربوش والعمامة، ومن يخالف الأمر يتعرض لعقوبة تصل للإعدام، بالإضافة لإقرار التقويم الغيغوري/المسيحي بدلًا من الهجري.

1926: إقرار القانون المدني السويسري بدلا من القانون المدني الإسلامي المتمثل في «مجلة الأحكام العدلية».

1928: شطب العبارة التي تشير إلى أن الإسلام دين الدولة في الدستور الذي تم إقراره في عام 1924، واستبدال القسم باسم الله، بالقسم بالكرامة الشخصية، مع استبدال الأبجدية اللاتينية بالأبجدية العربية في كتابة اللغة التركية.

1929: استبعاد المقررات التعليمية باللغتين العربية والفارسية في كل مراحل التعليم.

1932: تحريم الأذان باللغة العربية، وقيام المجمع اللغوي بترجمته للتركية، وطُلب لحن تركي من كونسرفتوار أنقرة لإلقاء الأذان به، ونُبه على جميع المؤذنين الالتزام بالآذان الجديد.

1933: إغلاق قسم علم التوحيد في دار الفنون (جامعة إسطنبول) .

1935: إقرار يوم الأحد عطلة رسمية بدلا من الجمعة.

1937: النص على علمانية الدولة في الدستور.

وعلى الرغم من أن كل بند من بنود هذه القائمة بحاجة إلى فقرة خاصة به، إلا أني استخلصت منها أربعة بنود من الممكن اعتبارهم محاور رئيسية يمكن الحديث عنها في سياسات أتاتورك لخلق دولة علمانية جديدة، وسياسته في التعامل مع المخالفين لهذه السياسات.


1. إلغاء السلطنة والخلافة

إمبراطورنا وخليفتنا المعظم، إننا سوف نستمر في جهادنا طالما أن الجنود الأجانب ما زالوا يعيشون على أرضنا، والأعداء يسيرون حول مساجد إسطنبول، والتي تعتبر كل زاوية [فيها] بمثابة رمز مضيء لحب إمبراطورنا للدين والإسلام. سلطاننا، قلوبنا مليئة بالولاء والخضوع، ونحن متجمعون حول عرشك ومرتبطون به بشكل أكبر من أي وقت مضى. الولاء إلى السلطان والخلفية هو الوعد الأول من الجمعية الوطنية الكبرى [البرلمان في أنقرة] وهي تعلن كذلك [يقصد بها الجمعية الوطنية] باحترام كبير وسرور أن كلمتها الأخيرة سوف تكون نفسها [الكلمة الأولى].

رسالة من أتاتورك إلى السلطان «محمد وحيد الدين» بتاريخ 28 أبريل 1920

كان هذا هو نص الرسالة التي أرسلها مصطفى كمال إلى السلطان «محمد وحيد الدين»، آخر سلاطين الدولة العثمانية، قبل أن يقوم بإلغاء السلطنة بعدها بعامين في 1 تشرين الثاني/نوڤمبر 1922 وطرد السلطان نفسه الذي أرسل له الرسالة، ثم بعدها بعام وأشهر في 3 آذار/مارس 1924 يقوم بإلغاء الخلافة. إن هذان الحدثان يمثلان منعطفًا كبيرًا في مسيرة التاريخ الإسلامي الحديث، فإلغاء الغطاء السياسي المتمثل في السلطنة العثمانية عن الأراضي التي ما زالت تمتلكها الدولة [منها الأراضي العربية وإن كانت تحت الاحتلال] سبَّب فجوة كبيرة في مجموعة من المسائل السياسية التي كانت السلطنة العثمانية تعطي إجابة لها. وتُمثل كلمات برهان غليون في كتابه «نقد السياسة: الدولة والدين» بعبارة موجزة هذه المشكلة حيث يقول: « من المؤكد أن الدولة العثمانية، بما كانت تشكله من رمز لاستمرارية تاريخية ترجع بنفسها لبدء الإسلام، أي لحقبة التأسيس الأولى، كانت لا تزال تقدم، بالرغم من تفسخها، غطاء مقبولًا، وإن كان واهيًا، لمسائل كبرى ليس من السهل إيجاد الحلول السريعة أو النظرية لها، والتي لا تقوم بدونها دولة ولا سياسة. ومن هذه المشاكل مشكلة الشرعية التي تستند أو ينبغي أن تستند إليها السلطة، والقيم التي يمكن أن يمارس باسمها الحكم، وإطار السيادة والقوة التي كانت موروثة عن زمن الفتح والانتصارات العسكرية التاريخية … فما كان من الممكن إذن لانهيار هذه السلطنة إلا أن يحدث فراغًا حقيقيًا في عالم العرب السياسي، الفكري والعملي».

كانت الخلافة بالنسبة إلى المسلمين رمزا لوحدة الأمة الإسلامية، وسلاحا من الممكن استخدامه ضد الأعداء دائمًا وبشكل فعال، وأمر إلغائها وهو أمر لم يحدث فعليًا منذ تولي الصحابي الجليل أبي بكر الصديق قيادة الأمة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان للخليفة الحق في إعلان «الجهاد» ليستجيب له المسلمون للدفاع عن أرضهم، كما كان له الحق بسبب سلطته الدينية على المسلمين أن يجمعهم ويساندهم في أي بقعة من بقاع الأرض، مثلما حدث مثلًا في القرن السادس عشر عندما أرسل السلطان «سليم الثاني» النجدة إلى سلطنة «آتشيه» الإسلامية شمال جزيرة سومطرة في «إندونيسيا» عندما طلب منه سلطانها الأسلحة لردع «الهولنديين» إنقاذًا للأراضي من الاحتلال. لدينا نموذج آخر في القرن التاسع عشر في عهد السلطان «عبد العزيز» عندما أرسل مسلمو «التركستان الشرقية» طلب الدعم بالأسلحة والعتاد من خليفة المسلمين في حربهم مع الصينيين. وعلى الرغم من عدم تبعة سلطنة آتشيه أو قيادة التركستان الشرقية للأراضي العثمانية؛ إلا أن حاكم دولة الخلافة بصفته خلفية المسلمين كان يستجيب لمساعدة المسلمين في أي مكان على الأرض وكان له الحق في هذا.

أما على مستوى التاريخ المعاصر، فقد نتج عن إلغاء الخلافة ظهور «الحركات الإسلامية» بكل توجهاتها، السلمية منها والمسلحة، الاجتماعية منها والسياسية، والتي تهدف إلى إعادة الخلافة الإسلامية التي تعيد وحدة الأمة الإسلامية مرة أخرى، هذه الحركات التي شاركت بشكل أساسي في صوغ المجال السياسي والاجتماعي في الوطن العربي والعالم الإسلامي، والتي ما زالت إلى الآن تعيد رسم وتشكيل شكل عالمنا الذي نعيش فيه، فقرار إلغاء الخلافة الذي اتخذه أتاتورك كان قرارًا مصيريًا في حياة الأمة ما زلنا نعيش تبعاته إلى الآن.


2. سجن وإعدام المعارضين

مصطفى كمال أتاتورك
كارت بريدي يعود لعام 1922 يصور مصطفى كمال بطلا من أبطال الإسلام، وبجواره الشيخ أحمد السنوسي، وصلاح الدين الأيوبي

أعرب عن رفضي الصريح للاعتقاد الذي يقول بأنه يوجد في يومنا هذا وسط الحضور المضيء للعلم والمعرفة والحضارة في جميع الجوانب، في مجتمع تركيا المتحضر رجال بدائيون لدرجة أنهم يسعون وراء الرفاهية المعنوية والمادية من خلال توجيه شيخ أو آخر. أيها السادة يجب أن تعلموا أنتم والأمة جميعا، بل وتدركوا جيدًا أن جمهورية تركيا لا يمكن أن تكون أرض الشيوخ والدراويش والتابعين والأخوة المتدينين، فالطريق الأكثر استقامة وقانونية هو طريق الحضارة.

أدت القرارات التي أتخذها أتاتورك وحكومته إلى ردات فعل من قبل السياسيين والشعب ورجال العلم على السواء، فقد أدت هذه السياسات إلى نشوب احتجاجات على مستوى المحافظات التركية، منها المسلح مثل ثورة الشيخ «سعيد الكردي» عام 1925، وحادثة مدينة «مينيمين» بمحافظة «إزمير» عام 1930 التي هدفت إلى إعادة الشريعة والخلافة الإسلامية وتم القضاء عليها بواسطة القوات التركية، أو احتجاجات شعبية قوبلت بالسجن والإعدام والتشريد.

تم حظر ارتداء أي قبعة للرأس بخلاف القبعة الأوروپية، وكانت عقوبة مخالفة قانون ارتداء القبعات الأوروپية السجن لمدة عام، بل وصل الأمر لإعدام البعض بسبب إصرارهم على رفض ارتداء هذه القبعات. تفاقمت سيطرة الدولة ودمويتها وقمعها، فبموجب قانون حفظ النظام العام، تم إعدام 660 شخص، واعتقال حوالي 7500 شخص ممن يرفضون التحديثات الجديدة، بخلاف من فروا من السجن أو الاعدام. من ضمن من تعرض للسجن الروائي التركي الشهير «صباح الدين علي» الذي حكم عليه في عام 1932 بالسجن لمدة سنة؛ بسبب أبيات من الشهر تسخر من أتاتورك، أما من ضمن من فر من الدولة بسبب البطش، كاتب النشيد الوطني التركي والشاعر الإسلامي “محمد عاكف آرصوي”، حيث سافر إلى القاهرة عام 1925. تعرض كل من الشيخ «سعيد النورسي» صاحب «رسائل النور» إلى السجن والتعذيب، كما قُبض على عالِم الدين والمفكر الإسلامي الخوجة «محمد عاطف الإسكليبلي» عام 1925؛ بسبب اعتراضاته على طرق التحديث الغربية، فوجهت إليه تهمة معاداة التحديثات، وتم إعدامه في فبراير/شباط من عام 1926.

خوجة محمد عاطف الإسكليبلي
خوجة «محمد عاطف الإسكليبلي» عالِم الدين والمفكر الذي تم إعدامه بسبب انتقاداته للتغريب الذي تمارسه الجمهورية

خضعت كل الصحف للرقابة الصارمة، وأغلق ثمان من أهم الصحف والدوريات من كل التوجهات، وتُرك صحيفتان ناطقتان باسم الحكومة فقط وهما «السيادة الوطنية»، و «الجمهورية» كما تم تسريح ثُلثي أساتذة دار الفنون [جامعة إسطنبول] في عام 1933 ممن كان لهم ميول لا توافق السياسات المتبعة للدولة، وتم إغلاق الحزب «التقدمي الجمهوري»، وتم تشديد القبضة على مؤسسات المجتمع المدني، فقام الاتحاد النسائي التركي في عام 1935 بطلب من حزب الشعب الجمهوري [الحزب الحاكم] بحل نفسه، كما تم إلغاء اتحاد الصحافيين.

ونستكمل في المقال القادم البندان الآخران واللذان يدوران حول تأميم الجمهورية الكمالية للدين، والانقلاب الحرفي الذي أطاح بتاريخ قرون من الذاكرة التاريخية للشعب التركي.

المراجع
  1. نقد السياسة: الدولة والدين، برهان غليون، الطبعة الرابعة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2007.
  2. مقال «الكاتب الذي سجنته قصيدته الساخرة من أتاتورك».
  3. تاريخ تركيا الحديث، إريك زوركر، ترجمة د. عبد اللطيف الحارس، الطبعة الأولى، دار المدار الإسلامي، بنغازي، 2013.
  4. Saydam, Yelda. "LANGUAGE USE IN THE OTTOMAN EMPIRE AND ITS PROBLEMS (1299-1923)", M. Phil in the Faculty of Humanities (Department of Greek and Centre for Islamic Studies) at the University of Johannesburg, Johannesburg 2006/7.
  5. Ardıç, Nurallah. "Islam and the Politics of Secularism: The Abolition of the Caliphate (1908-1924)", Ph.D, University of California, Los Angeles, 2009 .
  6. Hanioğlu, M.Şükrü. "Atatürk: An Intellectual Biography", Princeton University Press, Princeton, New Jersey, 2011.