تفاعل الملايين حول العالم مؤخرًا مع القصة المؤثرة التي تتداول تفاصيلها وسائل الإعلام العالمية، والتي كان أبطالها مئات المنقذين من أنحاء متفرقة من العالم، و13 صبيًّا تايلانديًّا، ومدرب الكرة الخاص بهم.

كان الصبيان في رحلة استكشافية مع مدربهم، دخلوا خلالها في أحد أكبر الكهوف في تايلاند، ليحدث ما لم يكن في الحسبان، فتهطل الأمطار بغزارة شديدة، لتملأ الكهف، وينقطع الاتصال بين هؤلاء الصبية ومدربهم وبين العالم الخارجي لتسعة أيام كاملة، بلا ضوء أو طعام أو ماء نظيف.

بعد جهود مضنية قامت بها جهات عديدة عثر المنقذون على الأطفال ومدربهم أحياء، وإن أصابهم هزال ظاهر كما أظهرتهم لقطات الفيديو التي التقطها أحد المنقذين، ويتم الآن المفاضلة بين عدة طرق لإنقاذهم، حيث تحاصر مياه كثيفة مكان وجودهم من كل الجهات.

شاهد هذا الفيديو من الجارديان البريطانية لجهود إنقاذ الأطفال:

لكن، ما هي قدرات أجسامنا الاستثنائية في مثل هذه الظروف الصعبة؟


1. كم يومًا يتحمل الجسم دون احتياجاته الأساسية؟

لا يتحمل الجسم الحرمان الكامل من الأكسجين أكثر من 3-10 دقائق، والماء أكثر من 3-8 أيام، أما الطعام فقد تتحمل بعض الأجسام الحرمان منه لمدة تقاس بالأسابيع، وقد تصل إلى شهرين، طالما لم يتزامن معه حرمانٌ من الماء.

هذا الاختلاف في مدة الأرقام لوجود فروق فردية واسعة بين الأجسام المختلفة في التحمل، فشاب رياضي صحيح البدن بالتأكيد سيتحمل أكثر من عجوز ثمانيني مصاب ببعض الأمراض المزمنة.

كذلك يُصَعِّب الوصول لأرقام دقيقة غياب التجارب العملية، فالعلماء ليسوا نازيين ليقوموا بتعريض البشر لتجارب الحرمان، وقياس مدى تحملهم، وإن كان بعض العلماء يستغلون فرصًا مثل الإضراب عن الطعام لدراسة مثل هذه الأمور.


2. ماذا يحدث للجسم عندما يُحرَم من الماء لأيام؟

يشكل الماء أكثر من ثلثي محتوى أجسامنا. لا توجد خلية في الجسم لا تحتاج إلى الماء في وظيفتها وحياتها، ويكفي أنه المكون الرئيس للدم، سائل الحياة. ويحتاج معظمنا إلى حوالي لترين من المياه يوميًا في المتوسط، تختلف حسب العمر والوزن والنشاط.

أظهرت إحدى التجارب أن الحرمان المنتظم من الاحتياجات المائية بنسبة 2% يوميًّا يؤثر كثيرًا على وظائف المخ، كالتفكير، والتركيز … إلخ، كما يسبب الشعور العام بالإجهاد والإرهاق.

في الوضع الطبيعي هناك توازن مائي في الجسم بين الماء الداخل للجسم (الشرب) والخارج منه (العرق – البول – العصارات الهاضمة للطعام في المعدة والأمعاء – البخر مع التنفس…). وينظم هذا التوازن مراكز حيوية في المخ أهمها تحت المهاد أو «الهايبوثالامس».

عند الحرمان التام من الماء يحاول الجسم الاحتفاظ بكل نقطة ماء بداخله ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فتقلل الكلى كمية البول، وتقل كذلك كمية العرق. لكن لا يمكن منع فقد الماء بشكل تام، لذا يستمر تناقصه تدريجيًّا، ومع مرور المزيد من دقائق وساعات الحرمان يصبح الدم أكثر لزوجة، وأقل حيوية، وأكثر قابلية لحدوث الجلطات، وتتعرض خلايا الجسم للجفاف الذي يسبب اضطراب وظائفها، خاصة المخ.

تتطور الحالة خلال أيام قليلة – وأحيانًا ساعات – إلى هبوط حاد في الدورة الدموية نتيجة نقص حجم الدم، وبالتالي نقص التغذية الدموية للأجهزة الحيوية، فيحدث الفشل الكلوي والكبدي، وتتراكم السموم داخل الدم والجسم، فتسبب المزيد من الهبوط في الدورة الدموية، ويدخل الجسم في حلقة مفرغة من الانهيار، حتى يتوقف القلب وتحدث الوفاة.


3. من الأقدر على تحمل الحرمان من الطعام لأيام طويلة؟

بالطبع الشخص البالغ صغير السن الخالي من الأمراض المزمنة كالسكري والضغط والفشل المزمن في وظائف الأعضاء الحيوية كالكلى والكبد والقلب… إلخ. لكن في النهاية ستحدث الوفاة بعد مدة تطول أو تقصر. يقاس الوزن المثالي بمعادلة معامل الكتلة الشهير BMI، والذي يُحسب من قسمة الوزن بالكجم على مربع الطول بالمتر، ورقمه الطبيعي 18-25. يعتبر حد الاقتراب من الوفاة هو أن تهبط المجاعة به إلى أدنى من 13 للرجل، و11 للمرأة.

من الملاحظات الملفتة للنظر أن المرأة عمومًا أقدر نسبيًّا على تحمل المجاعة مقارنة بالرجل، ولعل هذا يعود إلى المخزون الدهني الأكبر لديها. كذلك كلما قلّ بذل المجهود أثناء المجاعة، زادت فرص النجاة.


4. ماذا يحدث للجسم في الأيام الأولى من الحرمان من الطعام؟

سكر الجلوكوز هو الوقود الرئيس لخلايا الجسم، خاصة المخ. حتى أن مراكز الجوع والشبع في المخ يتحدد عملها تبعًا لنسبة الجلوكوز في الدم.

في الساعات الثمانية الأولى من الحرمان من الطعام يكاد لا يحدث تغيير في عمل خلايا الجسم، حتى ينفد الجلوكوز. يبدأ الجسم بعدها في تكسير الجلوكوز المخزن على هيئة جليكوجين في الكبد والعضلات، وذلك المخزون يستطيع إمداده بالجلوكوز لحوالي ٤ ساعات أخرى. ستبدأ أعراض نقص الجلوكوز في الظهور، كما يحدث في أيام الصيام الطويلة، مثل الإجهاد، ونقص التركيز… إلخ.

بعد انتهاء الجليكوجين لا يصبح أمام الجسم خيار سوى البدء في الحصول على الجلوكوز من الأحماض الأمينية بالأساس، وتبدأ الخلايا كذلك في تكسير احتياطي الدهون تحت الجلد للحصول على الأحماض الدهنية واستخدامها كوقود مباشر، والحصول على الجلسرول الذي يمكن تحويله إلى جلوكوز.

في الأيام الثلاثة الأولى يكون التركيز على الأحماض الأمينية. مشكلة هذا أن هذه الأحماض هي أحجار بناء بروتين أجسامنا، وهي المكون الأساسي للعضلات، ولأغلب المواد الحيوية كالهرمونات، والفيتامينات، والإنزيمات… إلخ، لذا فتكسير البروتين للحصول على الأحماض الأمينية، يصيب الجسم بالوهن والضعف.


5. وأين الجسم من الدهون؟

كما قلنا، الجلوكوز هو الوقود الرئيس لخلايا الجسم؛ ولأن الأحماض الأمينية يسهل على الجسم تحويلها لجلوكوز، فيبدأ الجسم بها. لكن بعد الأيام الأولى، يتحول نشاط التكسير بالجسم إلى المخزون الدهني، وذلك للحفاظ على ما تبقى من البروتين شديد الأهمية.

تقوم الخلايا بتحويل الدهون إلى الأحماض الكيتونية، والتي يمكن استخدامها كوقود بديل للجلوكوز حتى لخلايا المخ، لكن بالطبع ليس بنفس جودة الجلوكوز. سيبدأ الجسم بفقد الوزن سريعًا في تلك المرحلة. كلما كان المخزون الدهني أكبر، طالت مدة التشبث بالحياة، ولعل هذا هو السر وراء أن تحمل المرأة للمجاعة أفضل نسبيًا من الرجل. يبدأ الجسم في الوصول لمرحلة حرجة، عندما يفقد أكثر من 18% من الوزن، إذ يكون معظم المخزون الدهني قد نفد.

بعد نفاد الدهون سيعود الجسم مضطرًا إلى تكسير ما تبقى من البروتين. يفقد الجسم رصيده من البنية الحيوية، وكذلك من الأملاح المذابة الحيوية كالفوسفور والبوتاسيوم والصوديوم… إلخ، وتتراكم السموم في الجسم، وتبدأ أجهزة الجسم الحيوية في الفشل تباعًا، وتصبح الوفاة قاب قوسين أو أدنى.


6. هل للماء دور في مقاومة الجسم للمجاعة؟

رغم أن الماء سائلٌ لا طاقة فيه، فإنه قد يؤخر انهيار الجسم في المجاعة كثيرًا، ولعل هذا السر وراء تناول المضربين عن الطعام للمياه عادة بانتظام بمعدل لا يقل عن لتر ونصف يوميًّا (يتناولون الملح كذلك، لتعويض فقد الأملاح الذائبة، والمهمة للحفاظ على ضغط الدم، وعمل الكلى، والمخ… إلخ).

الماء هو المكون الرئيس للدم كما قلنا، وبالتالي فشرب كميات كافية منه يوميًّا يساعد في الحفاظ على حجم الدم، وبالتالي انتظام التغذية الدموية للأعضاء الحيوية كالمخ والقلب والكلى والكبد… إلخ، وانتظام التخلص من السموم. كذلك لكي تعمل معظم التفاعلات الحيوية بكفاءة، فلا بد من وجود الماء. وأيضًا يقلل الماء آلام الجوع.


7. هل فعلًا يمكن للطعام أن يكون أفتك من المجاعة؟

بعد أيام عديدة من المجاعة وصلت النجدة بالطعام ولله الحمد. للأسف لما تنتهِ المشكلة بعد. إذا لم يتمْ تبني الحذر الشديد في إعادة تعويض الجسم، فقد يتحول الإنقاذ إلى طامة كبرى. هل سمعت بمتلازمة – مجموعة من الأعراض المرضية – إعادة التغذية أو refeeding syndrome؟

إنها حالة مرضية خطيرة قد تصل للوفاة، وتحدث نتيجة اختلالات كبيرة في حركة أملاح وسوائل الجسم عند إعادة التغذية المتعجِّلة بعد أيامٍ من المجاعة. تختلف الأعراض، وكذلك شدة الحالة، كثيرًا من شخص لآخر. السبب الرئيس هو اضطراب الهرمونات، وهي الرسل الكيميائية التي تتحكم في تفاعلات خلايا أجسامنا. أشهر أعراض المتلازمة هو نقص ملح الفوسفور الحيوي لبناء الخلايا وجدرانها ولتفاعلاتها أيضًا، وأملاح البوتاسيوم والماغنسيوم، وكذلك فيتامين ب١ – الثيامين – وسكر الجلوكوز.

هذه المواد السابقة، خاصة الأملاح، حيوية لعمل أعضائنا الحيوية، خاصة الكلى والمخ، وكذلك لإعادة بناء الخلايا. والأملاح المذكورة سابقًا يحصل عليها الجسم أثناء المجاعة نتيجة تكسير خلايا الجسم، والتي تمثل مخازنها، وتكون معدلاتها بالجسم قليلة طوال فترة المجاعة، أو بالكاد على حافة التركيز الطبيعي.

عند إعادة التغذية بتعجل، سواء بالفم، أو بالمحاليل الوريدية، يفرز هرمون الأنسولين بكثافة شديدة، وهو الهرمون الرئيس في تفاعلات البناء، فيبدأ بإعطاء الأوامر للخلايا لتخزين الجلوكوز بشراسة، وكذلك بناء الدهون والبروتين بوفرة. هذا التفاعلات البنائية تحتاج للأملاح السابقة، ويعتبر فيتامين ب1 من أهم عواملها المساعدة، فتقوم الخلايا بسحب هذه المواد من الدم بسرعة، فتهبط تركيزاتها إلى معدلاتٍ خطيرة. وتسحب هذه الأملاح معها الماء من الدورة الدموية، طبقًا لظاهرة الامتصاص الأسموزي، فيحدث هبوط عام في الدورة الدموية.

يؤدي نقص الفوسفور وفيتامين ب1 إلى اضطراب تفاعلات الجسم كلها تقريبًا. أما نقص البوتاسيوم والماغنسيوم، فقد يؤديان لاضطرابات كهربية خطيرة في القلب قد تسبب توقفه، أما نقص الجلوكوز فقد يؤثر على خلايا المخ، وقد يسبب الوفاة خلال دقائق إذا نقص بشدة.


8. كيف إذن يتم إعادة التغذية بشكل سليم؟

كل من تعرض لمجاعة لـ5 أيام فأكثر، خاصة كبار السن، وأصحاب الأمراض المزمنة، ومدمني الكحول، والمصابين بنقص تغذية مزمن… إلخ، معرض بشكل كبير لحدوث المتلازمة السابقة، ولذا لا بد أن يتم إعادة تغذيتهم تحت إشراف طبي متخصص.

تبدأ عملية إعادة التغذية السليمة بتحاليل دقيقة لنسب الأملاح في الدم، وكذلك وظائف الكلى والكبد، ومكونات الدم… إلخ. ويتم متابعتها بشكل دوري في أول أسبوعين. يتم إعطاء 200-300 مجم من فيتامين ب1، ويتم تعويض النقص في كل الأملاح الحيوية المذكورة. يتم تعويض السوائل باتزان، حتى لا تؤدي زيادة حجم الدم فجأة إلى نقص نسبي في تركيز الأملاح المهمة. وفي الأيام الأولى يتم تغذية المريض بكمية محسوبة من الطعام لكل كجم من الوزن يوميًا، تزاد تدريجيًّا.

شاهد هذا الفيديو التعليمي عن تعامل الجسم مع الحرمان من الطعام:

وأخيرًا، لا تدخل كهفًا عميقًا، خاصة في مواسم الأمطار، فقد لا يتوافر لك من جهود الإنقاذ ما ناله صبيان الفلبين الأبطال.