بول ميلر؛ كاتب و مدون أكاديمي أمريكي، عمل موظفًا في البيت الأبيض إبان حكم جورج بوش الابن، كان قد تنبأ قبل أربعة أعوام بالغزو الروسي لشبه جزيرة القرم، الأوكرانية، ليكون الأمر حقيقةً بعدها بعامين.

في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني، صدح ميلر بتوقعه الثاني، في مقالة مقتضبة نشرتها له مجلة «فورين بوليسي»، حول الحرب العالمية الثالثة، وتبدأ أحداثها من لاتفيا، باحتلال روسي لدول البلطيق؛ الأمر الذي سيجر دول حلف شمال الأطلسي «الناتو» للمواجهة، وهو كما يظن ميلر الاختبار الأصعب للقيادة الأمريكية الجديدة، بزعامة المثير للريبة دونالد ترامب.

عاد ميلر ليؤكد أن ما ستقوم به روسيا من إجراءات لن يكون بمثابة الغزو الصريح، بمعنى أنها ستلجأ لإثارة الاضطرابات والقلاقل من خلال وكلائها داخل هذه الدول (دول البلطيق).ويشير ميلر إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لديه هدف واضح وإستراتيجية كبرى، خلافًا للمزاعم القائلة بأن أهدافًا دفاعية واقعية تحركه، تتمثل في توسع الناتو، الذي يبدو وكأنه التهديد الذي تسعى روسيا للرد عليه. فالغرب نجح في توسيع دائرة نفوذه على حساب روسيا؛ ما دفع الأخيرة للرد، وهذا يفسر ما قاله المفكر الأمريكي جون ميرشامر عن وقوف الغرب وراء الأزمة في أوكرانيا.

يؤكد ميلر أن ما ستقوم به روسيا من إجراءات لن يكون بمثابة الغزو الصريح؛ بمعنى أنها ستلجأ لإثارة الاضطرابات والقلاقل من خلال وكلائها داخل دول البلطيق.

ويشير ميلر إلى أن ثمة اعتقاد لدى بوتين مفاده أن السيطرة الروسية على دول الخارج القريب (الجمهوريات الوليدة عقب انهيار الاتحاد السوفييتي) هو أمر ضروري للأمن الروسي؛ نظرًا لما يملكه الرئيس الروسي من أفكار ومعتقدات حول القومية الروسية والمصير التاريخي.فبوتين وربما دائرته الداخلية ليسوا قوميين فحسب، بل يبدو أن ما يحركهم هو نمط غريب من القومية الروسية المختلطة بالدين والمصير والخلاص؛ ما يجعل روسيا هي الوصية على المسيحية الأرثوذكسية وتضطلع أيضًا بمهمة حماية الديانة ونشرها.ومن هنا يذهب ميلر إلى إن بوتين وجميع الروس الذين يرون العالم من منظور القومية الدينية الروسية، يعتبرون أن الغرب يمثل تهديدًا لهم.ووفقًا لهذه الرؤية، ليس الناتو هو الضامن المعتدل للنظام الليبرالي داخل أوروبا، لكنه الوكيل المعادي للغرب الفاسد والعقبة الأساسية أمام العظمة الروسية؛ ما يعني أن إستراتيجية بوتين تتطلب تقسيم الناتو، وتحديدًا جعل المادة الخامسة في اتفاقية الحلف دون جدوى.ويؤكد الكاتب الأمريكي أن بوتين قد نجح فعليًا في نسف مصداقية الناتو، على الرغم من أن آخر أهدافه لم تكن دولًا أعضاء بالحلف، جورجيا وأوكرانيا، غير أنه في عام 2008 أعلنها على الملأ وبوضوح أنه سيضمن -أي الحلف- حصول الدولتين على خطة العمل الخاصة بالحصول على عضوية الحلف، لكن روسيا عارضت لاحقًا أية خطوات تجاه حصول الدولتين على عضوية الحلف ومن ثم شرعت في غزوهما.ويُلمح إلى أن غزو روسيا لجورجيا وأوكرانيا أسهم في ظهور أراضٍ متنازع عليها مثل أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا والقرم، وهي الأراضي التي احتلها جنود روس؛ ما يعني أن الدولتين لن تنضما إلى الناتو على الإطلاق طالما كانتا محتلتين جزئيا من قبل روسيا.ويشير الكاتب إلى أن بوتين يمتلك حاليًا مناخًا دوليًا هو الأفضل بالنسبة له منذ انتهاء الحرب الباردة لاستئناف التوسع الروسي، فالوحدة الأوروبية ممزقة وهناك حالة تشكك من قبل دول الحلف حول القيمة التي تمثلها اتفاقية الأمن المشترك.وما يشجع بوتين أيضًا –بحسب ميلر– هو أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب يبدو خيارًا جيدًا بالنسبة لروسيا، لاسيما وأنه على استعداد لتبرير السلوكيات غير المسئولة لموسكو.ويرى الكاتب أن الخطوة المقبلة لبوتين شديدة الخطورة عن سابقاتها، فمن المرجح أن يتحرك الرئيس الروسي صوب دول البلطيق (وجميعها دول أعضاء بالناتو).ويفسر ميلر خطة بوتين لغزو هذه الدول معتقدًا أنه لن يرسل تشكيلات ضخمة من الجنود النظاميين على الحدود الدولية، لكنه سيحرض على أزمة عسكرية خلال العامين المقبلين من خلال وكلاء يمكنه إنكار صلته بهم لاحقًا.ويوضح ميلر أيضا أن مواطني «إستونيا» أو «لاتفيا» الناطقين بالروسية سيبدأون بتنفيذ أعمال شغب ويخرجون في تظاهرات احتجاجية للمطالبة بحقوقهم، زاعمين أنهم مضطهدون، ليطالبوا في النهاية بحماية دولية، لتظهر جماعة مسلحة ومدربة جيدًا تُدعى «الجبهة الشعبية لتحرير الروس في دول البلطيق».ويستطرد ميلر في شرح الخطة الروسية؛ «ستُنفذ لاحقًا عمليات اغتيالات بحق شخصيات بارزة وتفجيرات ستضع دول البلطيق على شفا حرب أهلية، وربما تظهر حركات تمرد على نطاق ضيق، ثم ستحظر روسيا أي قرارات لمجلس الأمن وستطرح مساعدات أحادية الجانب كقوات حفظ السلام».ثم سيعقد الحلف اجتماعًا ستتزعم بولندا خلاله طلب المساعدة من خلال الاستعانة بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف وإعلان دول البلطيق تحت الهجوم الروسي وحشد جهود الدفاع المشترك ضد العدوان الروسي، أما الألمان والفرنسيون فسيعارضون ذلك بشدة وسينظر الجميع إلى الولايات المتحدة ليتبينوا ما الوسيلة التي ستلجأ إليها زعيمة الحلف.وفي حال لم يستعن الحلف بالمادة الخامسة، فإن ضمان الأمن المتبادل سيصبح لا معنى له عمليًا، ولن تصبح لدى أية دولة عضوة بالحلف ثقة تجاه المعاهدة لضمان أمنها ضد روسيا في المستقبل.ويشير ميلر إلى أن ذلك يعيد إلى الأذهان الأوضاع الجيوسياسية عام 1939؛ بمعنى أن بعض دول شرق أوروبا قد تختار الانضمام لروسيا بينما ستبدأ دول أخرى وأولهم بولندا تسليح نفسها بأسلحة ثقيلة فتاكة، ومن ثم سيتحقق حلم بوتين في وجود «غرب ممزق» وأرض مفتوحة أمامه في أوروبا.ويختتم ميلر مقاله التنبؤي بالقول: «لكن في حال استعان الحلف بالمادة الخامسة، سيكون ذلك بمثابة إعلان حرب من الغرب ضد روسيا، وعندها سيكون على ترامب أن يقرر ما إذا كان الدفاع عن لاتفيا يستحق المخاطرة وشن الحرب العالمية الثالثة أم لا.