في المراحل الأولى لتفشي فيروس كورونا المستجد (COVID-19) حول العالم، أعلنت عدة دول أوروبية منها ألمانيا وفرنسا عن عدد قليل من الحالات الحاملة للفيروس. لكن هذا الوضع لم يستمر طويلًا، حيث أفادت التقارير في 21 من فبراير/ شباط بوقوع تفشٍ واسع النطاق في إيطاليا، خاصة في منطقة الشمال. ومع حلول 13 مارس/ آذار، أعلنت منظمة الصحة العالمية (WHO) أن أوروبا هي مركز نشاط الفيروس.

بلغ إجمالي الحالات المصابة في أوروبا بين فترة 25 يناير/ كانون الثاني و19 أبريل/ نيسان أكثر من مليون و100 ألف شخص، الأمر الذي دعا العديد من الدول الأوروبية لاتباع سياسات التباعد الاجتماعي: إغلاق الحدود وفرض حظر التجوال، بينما مارست دول أخرى نهجًا مختلفًا في التعامل مع الأزمة، وذلك من خلال الاختبارات المكثفة وتحديد المصابين وعزلهم. كل هذا في محاولة للتحكم والحد من انتشار المرض من خلال تسطيح منحنى العدوى.

تعمل سياسات التباعد الاجتماعي على تخفيض النشاط الاقتصادي، ولذلك فإن وباء مثل كورونا (COVID-19) من شأنه أن يخلف تأثيرًا حادًّا على الناتج القومي لأسباب واضحة، بالإضافة إلى أن سياسات الاحتواء هذه سوف تؤدي إلى ركود اقتصادي لا مفر منه، إلا أن الركود، في حد سواء، يشكل تدبيرًا ضروريًّا للحفاظ على الصحة العامة.

يقدم مركز أبحاث السياسات الاقتصادية (CEPR) كتابًا إلكترونيًّا يضم عددًا من الأبحاث التي تناقش العديد من الموضوعات المختلفة المتعلقة بالأزمة الحالية. الكتاب هو محاولة لمناقشة آليات التصرف في الوضع الحالي من خلال استعراض تفكير كبار الاقتصاديين، بالإضافة إلى الإسهام في تحليل السياسات العامة المتبعة وتأثيراتها على الاقتصاد.

يرتكز الكتاب على استعراض خطط العمل الكاملة من الناحية الاقتصادية مع التركيز على الأزمة من الناحية الأوروبية مع مناقشة السياسات التي اتبعتها بعض الدول الآسيوية التي كانت عاملًا في تخطي الأزمة -إذا سمح لنا بقول هذا- مع تقديم مجموعة من التدابير التي ينبغي النظر فيها بالنسبة للبنوك والأسواق وغيرها من المؤسسات المالية.

يذكر أن مركز أبحاث السياسات الاقتصادية يضم أكثر من 1500 خبير اقتصادي، أغلبهم من الجامعات الأوروبية، ويهدف المركز إلى تعزيز البحوث على مستوى العالم ووضع النتائج المرتبطة بالسياسات العامة بين أيدي صناع القرار.

صدمة كورونا

بدأ الكتاب باستعراض ثلاثة أنواع من الصدمات الاقتصادية التي سيتسبب فيها فيروس كورونا:

  • أولًا: الصدمة الطبية.
  • ثانيًا: التأثيرات الاقتصادية المترتبة على تدابير الاحتواء.
  • ثالثًا: صدمة التوقعات.

إن كل هذه الصدمات سوف تؤدي إلى خسائر مباشرة في إجمالي الناتج المحلي، الأمر الذي سينعكس إلى حد كبير على استهلاك السلع والخدمات أثناء الأزمة الصحية، ما قد يسبب صدمة في العرض والطلب ويعطي تأثيرًا سلبيًّا كبيرًا على القطاع الخاص.

ولكن هذه التكلفة المباشرة قد تتضخم أيضًا بفعل تأثيرات غير مباشرة، ففي حالة انخفاض الناتج المحلي سوف يؤدي هذا إلى انخفاض كبير في معدلات تشغيل العمالة (وما يترتب على ذلك من خسارة في الدخل والاستهلاك) أو بدلًا من ذلك، قد تحاول الشركات عدم الوفاء بالنفقات الثابتة لديها مثل مرتبات العاملين ونفقات أخرى (مثل الإيجار والفائدة) أثناء فترة الإغلاق، فيما ستحاول شركات أخرى الحصول على قروض من البنوك للإيفاء بالتزاماتها المالية. ولكن البنوك قد تعزف عن توفير هذه القروض، نظرًا لاحتمال التخلف عن السداد والتدهور المحتمل في القوائم المالية للشركات.

وفي حالة قبول البنوك توفير هذه القروض بشرط فرض ضمانات أو فائدة مرتفعة، فإن الزيادة الناتجة في مديونية الشركات، سوف تؤدي إلى إضعاف ميزانيتها العامة بشكل دائم، وقد تؤدي -عاجلًا أو آجلًا- إلى موجة من الإفلاس، أو في أفضل الأحوال إلى تدهور الميزانية العامة إلى حد كبير.

وهنا يأتي دور الحكومات في محاولة خفض منحنى الركود الاقتصادي، إذ يتعين عليها أن تتبع سياسات اقتصادية ومالية قوية للحد من آثار الركود وفي الوقت نفسه تجنب إلحاق ضرر دائم على الاقتصاد على أن تبذل قصارى جهدها إلى أن تنتهي فترة الركود. في حين إن لم يتم اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة فقد يواجه الاقتصاد ضررًا مستمرًّا، وقد ترتفع نسب البطالة مع عدم القدرة على توفير وظائف بعد مرور فترة الركود، ناهيك عن إفلاس العديد من الشركات، الأمر الذي قد يؤدي إلى إضعاف الموازنة العامة للبنوك الوطنية.

والحل لهذه المشكلة قد يتمثل في الحد من عدد حالات الإفلاس الشخصية والتجارية، والتأكد من حصول الناس على المال اللازم للإبقاء على نفقاتهم. لذا فإنه يتوجب الارتكاز على السياسة المالية للخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة، ولذلك كانت ردود أفعال الحكومات باستخدام القوة المالية من خلال حزمة من التدابير المعلنة التي كانت أضخمها حتى الآن هي هونج كونج، والتي بلغت 4% من إجمالي الناتج المحلي.

فقد وضعت كل من إيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة برامج تبلغ نحو 1.5% من إجمالي الناتج المحلي. وتهدف هذه الحزم إلى توجيه الدعم المالي للأسر والشركات وتشمل إعانات الدخل للعمال المتضررين، والتأجيلات الضريبية، وتأجيلات الضمان الاجتماعي أو الإعانات، وعطل سداد الديون، وقروض الدولة أو ضمانات الائتمان للشركات.

إن هذا الإنفاق الضخم يعني زيادة كبيرة في الديون القومية، وعلى الرغم من أهمية السياسة المالية، فإن السياسة النقدية لا بد أن تلعب أيضًا دورًا داعمًا بحيث يضمن سيولة النظام المالي (وليس سوق الأسهم).

المشكلة الأوروبية

إن سياسات مكافحة الفيروس سوف تؤدي إلى ارتفاع نسبة الديون، خاصة في البلدان التي تعاني من مستويات ديون مرتفعة مما قد يؤدي إلى ارتفاع حاد في الديون السيادية. هذه المخاوف من التفتت المالي ومخاطر إعادة تقييم اليورو (هو خطر إعادة تقييم أصول اليورو وتحويلها إلى عملة منخفضة القيمة) قد تؤدي إلى العودة مباشرة إلى أزمة اليورو عام 2011 والتوقف المفاجئ لتدفقات رأس المال.

أضف إلى ذلك أن الأدوات والمؤسسات التي أنشأتها منطقة اليورو على مدى السنوات العشر الماضية ليست مصممة لهذا النوع من الأزمات، بل صُممت لتوجيه صدمة إلى دولة واحدة (أو سلسلة من الدول الصغيرة) تنشأ في القطاع المالي أو العام.

 الدرع الواقية الرئيسية لليورو تتلخص في برنامج المعاملات النقدية الصريحة (OMT)، وهو ما يمكِّن البنك المركزي الأوروبي من شراء سندات ذات سيادة فردية، ولكن فقط إذا وافقت هذه الدولة على الدخول في برنامج لآلية الاستقرار الأوروبي، مثل ذلك النوع الذي وافقت عليه أيرلندا أثناء أزمة اليورو في عام 2011.

مثل هذا البرامج لا تتناسب مع الوضع الراهن؛ لأن الوضع الحالي يُمثل صدمة متماثلة ومشتركة مما يتطلب عجزًا ماليًّا أعلى، فضلًا عن ذلك فإن الخطر الأخلاقي moral hazard (يفترض ضمنًا أن البلدان تطبق سياسة مالية غير كافية من أجل الاستفادة من المساعدات المقدمة لها في حالة انتشار الوباء) قد يعد أحد المخاوف الرئيسية إزاء العمل الأوروبي المشترك في الأوقات العادية، بينما لا يمكن أن تنطبق على الوضع الحالي.

هذه الصدمات الاقتصادية المشتركة تتطلب جهدًا مشتركًا في مجال السياسة الاقتصادية، ومن الواضح أن التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الأزمة تمثل مشكلة أوروبية لأن أوروبا لديها إطار مالي مشترك ومنطقة اليورو لديها عملة مشتركة تقيد ما تستطيع أي دولة أن تفعله وما لا تستطيع أن تفعله في وقت الأزمة، إلى جانب أن هناك عوامل خارجية إيجابية وسلبية قوية على الدول الأوروبية الأمر الذي يتطلب نهجًا أوروبيًّا أكثر شمولًا.

ولذلك سيتحمل الاتحاد الأوروبي مسئولية إدارة وتمويل خطة طوارئ شاملة، لا سيما من أجل المساعدة في تمويل التكاليف المباشرة لتحسين البنية الأساسية للمستشفيات ودفع تكاليف أعباء العمل الإضافي التي تحملها العاملون في المجال الطبي والمساعدة في تمويل النفقات غير المباشرة المرتبطة بتدابير الصحة العامة، مثل الاحتواء وإغلاق المدارس. ويمكن أن تشمل النفقات المؤهلة الضمان، وخطط البطالة الجزئية، والدعم الموجه إلى قطاعات محددة مما يطرح سؤالًا: كيف يمكن تمويل «خطة الإغاثة» على نطاق الاتحاد الأوروبي؟

طبقًا لتقديرات جاركانو، وهو اقتصادي وسياسي إسباني وعضو في البرلمان الأوروبي، فإن تكاليف مثل هذه الخطة الشاملة سوف تبلغ نحو 500 مليار يورو، الأمر الذي يثير قضية استدامة الديون الوطنية وعلى كيفية تمويل مثل هذه الخطة على المستوى الأوروبي؟

وتمثلت الخيارات كالآتي:

1. إعادة تخصيص ميزانية الاتحاد الأوروبي. والواقع أن المفوضية الأوروبية تستخدم هذه المرونة بالفعل، ولكن لمبالغ محدودة، ذلك أن ميزانية الاتحاد الأوروبي لا تتجاوز 1% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي.

2. التعاون بين الدول الأعضاء خارج إطار ميزانية الاتحاد الأوروبي. وكان ذلك النوع من التمويل الذي تم تنظيمه أثناء أزمة اليونان وأزمة اليورو، ولقد أدى التعاون إلى إنشاء مرفق الاستقرار المالي الأوروبي، ثم إلى آلية الاستقرار الأوروبي في نهاية المطاف.

3. سندات اليورو (وهذه هي أفضل إجابة في الوضع الحالي)، الإصدار المشترك من خلال سندات للوباء. ويتفق عدد من مؤلفي هذه الدراسة على أن إصدار السندات المشتركة يشكل الاستجابة اللائقة للصدمات المشتركة، بينما يقترح البعض أن تصدر آلية الاستقرار الأوروبي سندات مشتركة لغرضين محددين: تمويل النفقات الصحية الضرورية، ومنع الاضطرابات الاقتصادية في البلدان المتضررة، وأن الاقتراض لا بد أن يتم جماعيًّا من خلال سندات صادرة بشكل مشترك.

وفي الإجمال، فإن السندات من شأنها أن تخدم الغرض المزدوج من المساعدة في تمويل تكاليف الأزمة وأن ترسل إشارة قوية إلى الأسواق والشركات والمواطنين بأن أوروبا موحدة وتعمل لصالح الجميع، وهذا من شأنه أن يعزز الثقة. ولكن من المؤسف أن الضمانات المتبادلة وسندات اليورو كانت مرفوضة مرارًا وتكرارًا في الماضي، والحل الوحيد لتجنب أزمة ديون محتملة يتلخص في تقديم البنك المركزي الأوروبي لنفس الضمانة التي قد لا تقدمها البنوك المركزية الوطنية لحكوماتها.

إذا لم يتم علاج الركود فإنه يهدد بتدمير الشبكة المعقدة من الروابط الاقتصادية التي تسمح للاقتصاد بالعمل، وسوف يستغرق إصلاحها وقتًا طويلًا. ومن هذا المنظور، ينبغي أن تكون الأولوية:

1. لضمان بقاء العمال في العمل – وجمع أجورهم – حتى في حالة عزلهم عن العمل أو إجبارهم على البقاء في المنزل من أجل إعالة أسرهم. والمساعدة المؤقتة للتسريح هي عنصر رئيس.

2. لضمان قدرة الشركات على الصمود في وجه العاصفة من دون الاضطرار إلى الإفلاس، بالاستعانة بشروط اقتراض أسهل، أو تعليق مدفوعات القروض، أو تقديم مساعدات مالية مباشرة عند الحاجة.

3. دعم النظام المالي كقروض غير مقدمة سوف تتصاعد، حتى لا تتحول الأزمة إلى أزمة مالية.

سوف تعمل هذه التدابير على تثبيت – بل ربما إزالة – حلقات التضخيم والحد بشكل كبير من الركود الاقتصادي، لذا لا بد من التفكير على وجه السرعة في خطة أوروبية للإغاثة من الكوارث تهدف إلى دعم الجهود المشتركة للدول الأعضاء في مكافحة الأوبئة والبت فيها.

لقد حان الوقت كي يفكر الأوروبيون بشكل أعمق في تكاليف الفرص، وهي في الوقت نفسه تكاليف اقتصادية واجتماعية وسياسية.