محتوى مترجم
المصدر
The Jacobin
التاريخ
2021/11/30
الكاتب
Akil Vicks

حينما سُئل عن رفضه حجم الإنفاق في خطة إعادة البناء المُحسن، أشار السيناتور جو مانشين إلى الضرر الذي ألحقه ارتفاع الأسعار بمواطنيه في شرق فيرجينيا. بالنسبة لأنصار الإنفاق الاجتماعي، يعد هذا من قبيل الخطابة السياسية المخادعة: تعكس خطابة مانشين مخاوف العاملين العاديين الذين يواجهون التكلفة المتزايدة للسلع الرئيسية كالغاز والخبز والحليب.

من السهل تعريف التضخم، التضخم هو ارتفاع الأسعار. لكن شرح الأسباب التي تؤدي للتضخم شديد الصعوبة. الهوة بين بساطة التعريف وتعقيد الأسباب هي ما تسمح للنيوليبراليين من أمثال مانشين برد التضخم للإنفاق الحكومي، في كلمة، استخدام شبح ارتفاع أسعار سلع الاستهلاك لفرض التقشف وحماية الثروة المتراكمة على حساب الطبقة العاملة.

الفكرة الرئيسة التي يقدمها النيوليبراليون هي أن العمال يتلقون الفتات من رؤسائهم أو من الحكومة لمصلحتهم، أما طلب المزيد فسوف ينتهي فقط بإيذائهم على المدى الطويل. بتعبير آخر، يجب إنعاش شجرة الربح الرأسمالي من وقت لآخر بدم العمال والفقراء.

قد يبدو منطقياً الاعتقاد أنه على الناس الخضوع لشروط السوق، لكن رؤية أكثر إنسانية للاقتصاد تكشف عن حلول ممكنة لمشكلة التضخم المتفاقمة –في المدى الطويل على الأقل– لا تعتمد على إفقار الجماهير.

الركود التضخمي وصدمة فولكر

إن سألت شخصاً عادياً ذا معرفة عابرة بالاقتصاد سوف يخبرك أن التضخم يحدث حينما يوجد الكثير جداً من الدولارات مقابل القليل جداً من السلع. وبحسب قوانين العرض والطلب، يجب أن ترتفع الأسعار استجابة للطلب المتزايد.

إن التسارع الحالي لمعدلات التضخم يُعزى بحسب البعض –ومن ضمنهم الرئيس جو بايدن– لتأثير الوباء، الذي لم يؤد فقط لزيادة ما لدى الناس من نقود، لكنه أيضاً أجبر العديد من أصحاب الأعمال على رفع الأجور لجذب العاملين المتثاقلين عن العودة للعمل.

كان المنطق الذي ساقه مانشين وآخرون هو أن الإنفاق الاجتماعي (إضافة لأسعار الفائدة المنخفضة والأجور المرتفعة) هو ما يؤدي للتضخم. ومع ذلك، من الصحيح تماماً القول إن هذا الإطار بتركيزه تحديداً على جانب الطلب، يقدم تصوراً غير مكتمل للمشكلة بقدر ما هو غير دقيق.

تعود جذور هذه النظرة الأحادية إلى أزمة الركود التضخمي في السبعينيات والثمانينيات، ففي نفس الوقت الذي كانت النيوليبرالية فيه تقوم بنقل الأعباء المالية للمجتمع من على كاهل الدولة والشركات العملاقة إلى المهمشين والضعفاء، كان الخطاب الاقتصادي في تناوله لمسألة ارتفاع الأسعار ينتقل باللوم من جهة المنتجين إلى جهة المستهلكين.

لقد غيرت أزمة الركود التضخمي المفاهيم الشائعة عن الاقتصاد جذرياً. تبنت المدرسة الكينزية التي صعدت إلى القمة منذ الكساد الكبير رؤية مفادها أن التضخم نتج بشكل أساسي عن اقتصاد منتعش ومعدلات بطالة منخفضة. لكن الارتفاع المفاجئ في أسعار البترول في بدايات السبعينيات أطلق متوالية تضخمية لم تتوقف على الرغم من الاتخفاض المستمر في معدلات البطالة، كان هذا تطوراً غير متوقع ولم يكن أحد يدرك بشكل مؤكد ماذا ينبغي حياله.

حاول الرئيس ريتشارد نيكسون التعامل مع التضخم بوضع ضوابط للأسعار والأجور، كان لهذا أثر فوري في تهدئة القلق العام حول ارتفاع الأسعار، لكنه كان من الصعب سياسياً الحفاظ على هذا الشكل من التخطيط الاقتصادي في أوقات السلم. لم تستمر ضوابط نيكسون للأسعار والأجور طويلاً، في ظل الضغوط التي مارستها الشركات تحت دعوى أن تقييد الأسعار يقيد قدراتها الإنتاجية، بينما كانت اتحادات العمالة غاضبة لحقيقة أن قيود نيكسون على الأجور كانت أشد صرامة من تلك التي فرضها على الأسعار.

كانت تلك هي اللحظة التي برز فيها اسمان حاسمان. ميلتون فريدمان الذي رفض التفسير الكينزي للتضخم باعتباره نتيجة لزيادة التكلفة، وتبنى وجهة نظر ترد التضخم حصراً للزيادة في عرض النقود. أي أن الدافع الوحيد للتضخم هو السهولة النسبية لحصول الأفراد والشركات على القروض وعدم كفاية حوافز الادخار.

استخدم بول فولكر، الذي تمت تسميته من قبل الرئيس جيمي كارتر لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي في 1979، نظريات فريدمان النقدية لتبرير سياسته القاضية بالرفع الحاد لمعدلات الفائدة. كانت النتيجة موجات متتالية من الركود أدت إلى خفض الطلب وفي النهاية إلى إيقاف الجموح التضخمي، ما اصطلح على تسميته «صدمة فولكر».

معظم الأحاديث التي تدور اليوم حول صدمة فولكر تضعها في إطار الضرورة وإن كانت ضرورة مشؤومة، بينما يأتي البعض على ذكر التكلفة الإنسانية المؤسفة التي لم يكن هناك مفرٌ منها! برغم هذا، يجب أن تكون التكلفة الإنسانية أكثر محورية في الحديث عن التضخم، بخاصة وأننا ما زلنا ندفع ثمن هذه الضرورة المشؤومة حتى الآن.

أدت معدلات الفائدة المرتفعة إلى تدمير القدرة الإنتاجية المحلية. توقفت العديد من المشروعات بعد أن أصبحت غير قادرة على سداد ديونها أو الاستثمار في مشروعات إنتاجية جديدة. تلقى القطاع الصناعي الضربة الأعنف. تفككت البنى التصنيعية وحلَّ الركود الاقتصادي في أماكن مثل فلينت وميتشجان ويانجز تاون وأوهيو ووسط بنسلفانيا حيث بدأ كل هذا. قفزت معدلات الانتحار والإدمان على الكحول. فاضت الملاجئ بالمتشردين. وكما هو معتاد في أمريكا، كان العمال السود هم الأكثر معاناة مع ارتفاع معدلات البطالة وسط الأمريكيين الأفارقة إلى 21.2% في عام 1983.

امتد تأثير صدمة فولكر عبر حدود الولايات المتحدة. وجدت دول الجنوب العالمي نفسها غير قادرة على سداد ديونها للبنوك الأمريكية، ومع تراجع عوائد صادراتها نتيجة الاتفاقات التجارية والتمدد الاقتصادي العالمي، دخلت في أزمة مالية غير متوقعة. كانت النتيجة هي تدخل صندوق النقد الدولي لإنقاذ هذه الدول بوضعها في حالة مديونية دائمة لحساب دول منظمة التعاون والتنمية الغربية، كما فرضت عليها خطط التقشف، وأُجبرت على تصفية البرامج الوطنية المعنية بتوفير التعليم والخدمات الاجتماعية، ما أعاق بشكل خطير كل جهد لمحاربة الفقر.

ومع أن صدمة فولكر مثلت كارثة إنسانية. لكنها اعتُنقت فوراً لأنها كانت فعالة في إنهاء التضخم دون إلحاق ضرر مستديم بأرباح وول ستريت، باعتبارها السبيل الوحيد الفعال للتعامل مع الجموح التضخمي. وضع ميلتون فريدمان وآخرون مفهوم مستوى البطالة الذي لا يؤدي للتضخم المتسارع، ما يعني أنه يجب الحفاظ على البطالة في مستوىً ما يقف سداً ضد ارتفاع الأجور المحفز للتضخم. وقد أكد أنه حالما ينخفض معدل البطالة عن هذا المستوى يصبح انفجار التضخم حتمياً.

يضع التصور النيوليبرالي البشر كمستهلكين في تناقض مع أنفسهم كعمال أو مستفيدين من البرامج الاجتماعية الحكومية. كمستهلكون، يطالب الأمريكيون بأسعار منخفضة وتكاليف مناسبة، ما يعني أنه يجب على العمال أن يحصلوا على مرتبات منخفضة بالقدر الذي يسمح به السوق كما يجب أن تتوقف الحكومة عن الإنفاق بالعجز على تنمية الإنتاج الاقتصادي والمشاريع الاجتماعية.

المشكلة تكمن في أن المستهلك والعامل أو المستفيد هما نفس الشخص، لذا فإن المفاهيم الاقتصادية التي بزغت من عصر الركود التضخمي وصدمة فولكر _وهي اللحظة التي انتقلت فيها النيوليبرالية من النظرية إلى التطبيق– قد وضعت الناس في مواجهة أنفسهم، بينما أفلت الرأسماليون من الذنب.

كانت الاستجابة لأزمة الركود التضخمي تعني قراراً سياسياً بفصل السياسة عن الاقتصاد، بمعنى أن تدور السياسة الاقتصادية ظاهرياً حول الحساب الموضوعي للحقائق الاقتصادية بدلاً من التساؤل حول كيفية تحسين ظروف الناس، والمزايدة على ضرورة تخفيف البؤس الإنساني بالحاجة للحفاظ على قيمة الدولار. بهذا يمكن للسياسيين الادعاء أنهم لا يريدون حقاً حماية مصالح الأغنياء –لكنها الحسابات الرياضية التي تقول إنه لا يوجد بديل آخر.

اليوم هناك من يطالبون الفيدرالي بتشديد سياساته النقدية على غرار صدمة فولكر. وعلى الرغم من بعض الإشارات المبهمة حول احتمالية أن يسرع الفيدرالي انسحابه من دعم الأسواق النقدية، فإن جيروم باول -رئيس الاحتياطي الفيدرالي_-لم يبد أي اهتمام بخطوة كهذه مؤكداً أن ارتفاع الأسعار لا يعدو كونه ارتفاعاً «عابراً». لقد واجه الفيدرالي حجماً من الضغوط وجهه لاتخاذ هذا الموقف، لكن من غير المرجح أن يقوم بغلق صنبور المال الرخيص في ظل وجود العديد من المؤسسات الغارقة في الدين بما يجعلها تعتمد كلياً على القروض الرخيصة للبقاء في سوق العمل.

لدى الرأسمالية قدرة واضحة على التكيف مع الأزمات التي تخلقها. لم يجد سادة المال في الثمانينيات أي غضاضة في إفقار الملايين عبر العالم لحماية ثروتهم والحفاظ على بنية النظام الإنتاجي الذي يسعى نحو معدل ربح متزايد باضطراد. لكن هذا النموذج النيوليبرالي يخلق الآن تناقضات جديدة. التضخم يرتفع، ومع ذلك فالاستجابة النيوليبرالية المفضلة –رفع معدلات الفائدة– تُعرض العديد من الشركات لصعوبات مالية خطيرة.

يعد رفع القدرة الإنتاجية في القطاعات الرئيسية ليس بغرض الزيادة الأسية للأرباح وإنما لمواجهة أزمات العرض المفاجئة أحد الحلول التي تستهدف حل أزمة التضخم على المدى الطويل بدلاً من التقييد قصير الأمد للمشكلة. كما يعد الاستثمار في الطاقة المتجددة جيداً ليس فقط للحفاظ على الكوكب بل لتثبيت أسعار الطاقة. فيما يخص السلع المستوردة، يمكن لإحياء نظام الموانئ وتوظيف المزيد من العمال في ظروف عمل أفضل التقليل من تأخير وصول البضائع وتخفيف الضغوط التضخمية إلى حدٍ ما.

يبحث النيوليبراليون عن طريق جديد لتحميل الفقراء والطبقة العاملة عبء الأزمة الرأسمالية. لكن وضع حياة وكرامة البشر في قلب المعادلة أثناء السعي لعلاج الجموح التضخمي الحالي ليس فقط ضرورة أخلاقية لكنه يعد أيضاً أساس السياسة الاقتصادية السليمة، هذا إذا كنا نعتقد أن هدف الاقتصاد هو خدمة الناس وليس العكس.