لقد تلاعبت الرأسمالية بالمرأة منذ نشأتها، إذ نظرت لها كمصدر سهل للعمالة الرخيصة، واعتبرتها جزءًا من جيشها الاحتياطي للعمل، يستدعى متى كان نقص في اليد العاملة، ثم ينبذ مرة أخرى متى انتهت الحاجة إليه. ظهر ذلك جليًا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، حين دفع بالنساء إلى المصانع لتعويض النقص في الرجال المستدعون إلى الحرب، وبمجرد انتهائها، استبعدت النساء من العمل وانتقص من حقوقهن وأعدن للمنزل مرة أخرى.

رغم هذا الاستغلال، يشير الواقع إلى أن هذا هو حال الرأسمالية،  فخطاباتها بشأن المرأة تتغير وقفا لمصلحتها، فتارة تركز على دورها كأم وتُعلي منه، وتارة أخرى تروج لخطاب حرية المرأة وضرورة خروجها للعمل. وما بين هذا وذاك تتفاقم معاناة المرأة المادية والنفسية وتبقى الجزء الأكثر استغلالاً في النظام الرأسمالي الذي لا يكترث بذلك، فالأرباح فقط ما تعنيه ولا شيء غيرها.

تحرير المرأة والخروج للعمل: الواقع أسوأ بكثير

لفهم الوضع، علينا الرجوع قليلاً إلى الخلف، إلى ما قبل ظهور الرأسمالية في أوروبا، حين كان النظام الإقطاعي هو السائد. داخل النظام الإقطاعي أُجبر الفلاحون على العمل بأراضي الإقطاعيين (كبار ملاك الأراضي الزراعية)، تطور الأمر لاحقًا إلى أعمال سخرة جماعية لكل الفلاحين ضمن إطار ممتلكات الإقطاعيين، وألزموا بضريبة سنوية تكاد تجهز على كل ما يتم إنتاجه طوال العام. 

 نتيجة لهذا الوضع، بدأ عدد متزايد من الفلاحين في الهرب من القرى إلى المدن، شكلوا تحالفات مع العمال والطبقة البرجوازية، التي وعدتهم بأن نظامها الاقتصادي الجديد سيجلب الحرية الفردية والمساواة والتضامن الاجتماعي. بالفعل نجحت تلك التحالفات ضد النظام الإقطاعي وتم الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية التي سادت فيها الطبقة البرجوازية.

داخل الرأسمالية تمتع الرجال بمزايا محدودة تمثلت بالأساس في حريتهم في بيع عملهم لمن أرادوا دون أي التزام، لكن النساء حرمن حتى من تلك المزايا المحدودة، وتم التلاعب بهن وتوظيفهن لصالح الرأسمالية كما تشاء.

ظهر ذلك في حرص الرأسمالية على الترويج لخروج النساء للعمل أو إبقائهن في المنازل وفقًا لما تقتضيه المصلحة. فالرأسمالية في بدايتها في القرن التاسع عشر كانت في أشد الحاجة إلى الأيدي العاملة لتشغيلها في مصانعها ومعاملها، فطالبت بتحرير المرأة وخروجها للعمل، وسعت لأن تكون المرأة بمثابة قوة احتياطية من الأيدي العاملة، لكنها قدمت لها أجورًا منخفضة مستغلة الدور الأساسي الموكل إليها في المجتمع (رعاية المنزل والأطفال).

بعد استقرار الأوضاع في الثلاثينيات من القرن الـ19، وإدخال المرأة ضمن وتيرة الإنتاج الرأسمالي، استغلت أسوأ الاستغلال. في ذلك الوقت شكلت النساء ما يقرب من نصف القوى العاملة في المصانع والمناجم، اشتغلن عدد ساعات طويلة امتدت من الـ3 صباحًا حتى الليل في الصيف، ومن الـ5 صباحًا حتى الـ11 ليلاً في الشتاء، كما أجبرن على الوقوف طوال هذه الساعات.

ساعات العمل الطويلة والظروف القاسية بتلك المصانع، كانت أشد قسوة على الحوامل، فالعمل مستمر حتى الولادة، وبعدها يجب العودة إلى المصانع خلال يومين أو ثلاثة فقط، وإلا يتم فقدان الوظيفة. تسببت تلك الظروف بوفاة ما يقرب من 39٪ من الأطفال المولودين، أما الأطفال الأكبر سنًا فلم يكونوا بعيدين عن المعاناة، حيث تركوا بالمنزل وحقنوا بالأفيون لإبقائهم هادئين.

الرأسمالية لا تضمن حق المرأة في العمل

استمرت تلك الأوضاع المزرية حتى الحرب العالمية الأولى عام 1914، لتضاعف معاناة المرأة تحت وطأة الرأسمالية. استمرت الحرب 4 سنوات، شارك فيها حوالي 60 مليون جندي أوروبي، وقتل فيها 8 ملايين عسكري و7 ملايين مدني، بخلاف عشرات الملايين من المصابين والمفقودين والأسرى.

في ظل انشغال الرجال بالحرب وما تبعه من نقص القوى العاملة، دفع بالنساء من كل الطبقات للعمل في المصانع التجارية والمصانع العسكرية وللمشاركة في الحرب بالتمريض، سوقت فكرة عمل المرأة بالمصانع تحت تلك الظروف القاسية والساعات الطويلة والأجر غير المجزي، على أنه خدمة للوطن وتضحية من أجله، كما ألغت العديد من التشريعات التي تحمي حقوقهن مثل قانون حظر العمل الليلي.

خلال سنوات الحرب هذه، ارتفع عدد العاملات في ألمانيا في بنسبة 230%، وصل عددهن في  المصانع الحربية الفرنسية إلى 400 ألف امرأة بما يمثل ربع القوى العاملة الفرنسية، وفي بريطانيا بلغ عدد العاملات في قطاع النقل بمختلف أشكاله نحو 100 ألف امرأة.

أما بعد انتهاء الحرب، وتوافر القوى العاملة من الرجال مرة أخرى وارتفاع مستويات البطالة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، سعت الرأسمالية إلى عودة النساء إلى المنازل وتقليل تواجدهن بالمصانع. بالفعل طردن من العديد من الوظائف واستبدلن بالرجال، كما منعن من الحصول على العديد من الحقوق مثل حق الانضمام للنقابات العمالية أو الحصول على إعانات البطالة.

روجت الحكومات والأحزاب لأهمية دور المرأة في المنزل وضرورة تحريرها من عبء العمل المزدوج في المنزل والمصنع، فكان ذلك هو الخطاب السائد في العديد من الدول حول العالم مثل النمسا وروسيا وألمانيا، حيث كانت الأمومة حجر الزاوية في البرنامج النازي للحفاظ على العرق النازي، ووصل الأمر لتغريم الأزواج الذين بقوا بلا أطفال بعد خمس سنوات من الزواج، أما الذين لديهم أربعة أطفال أو أكثر فيتم مكافأتهم.

كان الهدف من هذا إنتاج الأطفال لتوفير القوى العاملة فيما بعد، واستمر الوضع هكذا حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية وتقلصت القوى العاملة من الرجال مرة أخرى، فتخلت الرأسمالية والحكومات عن تلك المقولات والخطابات المروجة لدور المرأة بالمنزل، وتبنت خطابات جديدة تشجعها على العودة إلى العمل بنشاط، وتوفر لها دور الحضانة الحكومية والمطاعم الرخيصة لتخفف عنها عبء إعداد وجبات الطعام بعد يوم عمل شاق.

ضغوط نفسية وأخرى مادية: ما المقابل؟

بقي الحال هكذا حتى يومنا هذا، حين تحتاج الرأسمالية إلى المرأة وعملها، تعمل على التقليل من قيمة الأمومة والحياة الأسرية، وتتبنى خطاب حرية المرأة وضرورة خروجها للعمل، وهو الاتجاه السائد اليوم حيث يُقاس نجاح المرأة بمدى تفوقها في العمل وليس في تربية أطفالها وتنشئتهم، وعادة ما يُنظر للمرأة الحامل أو الأم على أنها عبء على العمل أكثر من كونها كائنًا مهمًا في المجتمع.

هذا الاتجاه بقدر ما أنتج أرباحًا للرأسمالية، بقدر ما ولد ضغطًا مزدوجًا على المرأة، حيث وجدت نفسها واقعة تحت تأثير مطلبين اجتماعيين هما الزواج والإنجاب، أو العمل وتحقيق الذات، فإذا اختارت الزواج ورعاية الأطفال، انتابتها مخاوف البقاء في المنزل وفقدان الطموحات المهنية وفرصها في العمل، وإن اختارت الأخير سيطرت عليها مخاوف فقدان فرصها في الزواج أو أن تصبح أمًا.

في مقابل هذا، عادة ما تحاول المرأة التوفيق بين المطلبين، فتتحمل أعباء المنزل ورعاية الأطفال، وتسعى إلى تحيق ذاتها في العمل، ما يؤدي إلى شعورها بالفشل إذا لم تتمكن من التوفيق بين العمل والمنزل، وكذلك شعورها بالتقصير الدائم لقلة الوقت الذي تقضيه في العناية بأطفالها.

هذا الضغط والشعور بالتقصير، عادة ما يكون له مردود سلبي على صحتها النفسية، حيث يصيبها بنوبات من الاكتئاب، الأمر الذي أثبتته دراسات عدة من بينها دراسة حديثة نشرتها الكلية الأوروبية لعلوم أدوية الأمراض العصبية النفسية، وضحت أن الاكتئاب بين النساء في أوروبا قد تضاعف خلال السنوات الـ40 الماضية نتيجة العبء الناتج عن محاولة إيجاد توازن بين أعباء الأسرة والمنزل وضغط العمل ومسؤولياته.

وضحت الدراسة أن النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 25 إلى 40 سنة هن أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب من الرجال بنسبة 3 إلى 4 مرات بسبب العبء العمل داخل البيت وخارجه، مشيرة إلى أن واحدة من بين كل 7 نساء أوروبيات يتأثرن بهذه الحالة في مرحلة ما من مراحل حياتهن.

بالرغم من هذه الضغوط النفسية والمادية، لم يتوقف استغلال الرأسمالية للمرأة أو توظيفها لصالحها عند هذا الحد، بل امتد إلى ترسيخ حالة عدم المساواة بينها وبين الرجل خاصة في الأجر، تحت دعوى عدة منها أن عملها أقل إنتاجية من عمل الرجال، وحصولها على إجازات عدة مثل إجازة الحمل والأمومة والرضاعة ورعاية الأطفال.

وفقًا لتقرير للأمم المتحدة، تساهم المرأة بنسبة 66٪ من ساعات العمل كل يوم، إلا أنها تكسب فقط 10٪ من دخل العالم وتمتلك 1٪ فقط من ممتلكات العالم.  وطبقًا للبنك الدولي، فالنساء هن الأكثر عرضة للخطر وللفقر رغم نسبتهن الكبيرة في سوق العمل. فهن يشكلن نحو 40٪ من القوى العاملة في العالم في الزراعة، وربع الصناعة، والثلث في الخدمات، حيث تزرع المزارعات في الدول النامية ما لا يقل عن 50٪ من غذاء العالم وما يصل إلى 80٪ في بعض البلدان الأفريقية، ومع ذلك فهن يمثلن نحو  70٪ من فقراء العالم!