تنبع السلطة من فوهة البندقية.
ماو تسي تونغ

9000 كم (نحو 8 أضعاف المسافة بين شمال مصر وجنوبها)، كانت تلك هي المسافة التي قطعها الجيش الشيوعي سيرًا على مدى عام بداية من أكتوبر 1934 هربًا من خطر الإبادة على يد قوات القوميين الصينيين (الكومينتانج). لم يكن أي من جنود هذا الجيش الذي تجاوز حجمه 100 ألف يتخيلون أن عشر سنوات تفصلهم عن توحيد البلاد تحت سيطرتهم. كانت تلك «المسيرة الطويلة» من الهروب من الإفناء، كما أطلق عليها الشيوعيون الصينيون، أول الطريق إلى السلطة.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ صراع الأقطاب الجديد في التحول إلى صورته الأكثر وحشية، فالعملاق الأمريكي الجديد ظهر كبطل جديد منتشيًا بنصره المخيف الذي هز أركان العالم بقنبلة نووية غيرت مجرى التاريخ.

وكما يروى كتاب «مقدمة قصيرة جدًّا.. الحرب الباردة» فإن الولايات المتحدة حاولت أن تستميل الصين بعد الحرب العالمية الثانية لجانبها، لكن الصفقة فشلت، وبدا أن الصين تتحرك تدريجيًّا ناحية الجانب الشيوعي متمثلًا في روسيا، واتجهت عجلة التاريخ تدريجيًّا نحو الحدث الأهم في موازين المواجهة العالمية.

الطريق نحو الحرب الأهلية

تشير المراجع التاريخية الشيوعية إلى مقدمات سابقة للمعركة الشيوعية في الصين، فثورة 1949 وما أعقبها من أحداث دامية لم تكن وليدة لحظتها وإنما كانت نتاجًا لصراعات دموية قديمة شهدتها الصين.

ففي العام 1925 شهدت الصين مواجهات دامية بين الشيوعيين والبرجوازيين (المهنيين والتجار) القوميين مواجهات سياسية عنيفة، امتدت حتى العام 1927 حين امتلك البرجوازيون القوميون القوة الكافية لفرض سطوتهم، فارتكبوا مجازر بشعة في مجموعات كبيرة من مجموعات «البروليتاريا» (العمال) الشيوعية في مدينة شنغهاي قضت على الكثير منهم، تحت قيادة شيانج كاي شينج، الذي تولى السلطة والحكم منذ ذلك التاريخ وحتى نهاية الأربعينيات من القرن نفسه.

بعدما سقط الشيوعيون في تلك المجازر، هربوا ناحية الضواحي وبدأت الحركة الشيوعية في إطلاق حرب العصابات ضد القوميين، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل المواجهة السياسية المسلحة في الصين.

حلت الثلاثينيات بذكرياتها العصيبة على الصينين، حيث دخلت القوات اليابانية إلى المقاطعات الصينية وبدأت في إعمال القتل في كل من قابلوهم حينها، وكانت مذبحة نانجينج هي أشهر مذبحة شهدتها الحرب اليابانية الصينية.

بعد أن بدأت تلك الحرب عرض كل من الشيوعيين بقيادة ماو سي تونج والقوميين بقيادة شيانج كاي شينج التحالف تحت راية القوميين لمواجهة الغزو الياباني، لكن التحالف كما ترويه أدبيات وسجلات تلك المعارك كان صوريًّا بالكلية، فالتحالف كان مجرد اسم أعلنه الطرفان، لكن كلًّا منهم في النهاية يرفع سلاحه ويطلق النيران صوب اليابانيين.

استمرت المعارك على نفس الوتيرة حتى أصبحت دون رغبة من المشاركين فيها جزءًا من الاقتتال العملاق في الحرب العالمية الثانية، وقد كان عام 1940 نقطة تحول هامة في تلك المعارك، حيث وقع اقتتال بين المتحالفين شكلًا أدى إلى تفكك ذلك التحالف وعودة القتال إلى ما كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية بين الشيوعيين والقوميين.

سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية

كانت نهاية الحرب العالمية بداية لظهور الأجندات الخارجية بصورتها الفجة داخل المعسكرات المتنازع عليها بين العملاقين الكبيرين أمريكا والاتحاد السوفيتي، فقدم ستالين مجموعات ضخمة من المقاتلين من الجيش الأحمر لمساندة قوات ماو سي تونج، في مواجهة القوميين الذين قررت الولايات المتحدة دعمهم ماليًّا وعسكريًّا ويدخل الصراع الأهلي مرحلة جديدة في تاريخ الصين، حيث بدأت حرب أهلية طويلة المدى منذ العام 1946 وانتهت عام 1949.

تروي المصادر التاريخية الكثير من التطورات في المواجهة بين المجموعات الشيوعية في عام 1949 وبين قوات القوميين المدعومة من الولايات المتحدة، حيث إن الشيوعيين بعدما اطمأنوا لبقاء مجموعات الجيش الأحمر التي أرسلتها روسيا لدعم ماو سي تونج ستظل تحارب رفقته بالأسلحة والدبابات، بدأت تحركات ماو بعدها تأخذ شكلًا أكثر جراءة وإقدام على المواجهة.

اعتمد الشيوعيون في تلك المواجهة على عنصر هام أغفله القوميون والولايات المتحدة، وهو الجانب الدعائي للعامة، والذي كان بمثابة الدرس الأهم في تلك المواجهة، والذي استوعبته الولايات المتحدة فيما بعد، حيث نشر الشيوعيون بين العامة كافة أن نجاح الشيوعية في معركتها القادمة ستكون مقدمة لحصول جميع المزارعين الفقراء على نصيب من الأراضي الزراعية التي يمتلكها أغنياء المدن، فكانت تلك واحدة من أهم العوامل التي جذبت العامة لمساعدة الشيوعيين في مواجهاتهم.

وامتدت الحملات الإعلامية خلال المواجهة لضم أكثر من 5 ملايين مزارع لمعسكر الشيوعيين، وقد كانت ظروف حكم القوميين القاسية مهيأة بالفعل لجعل العامة والمزارعين يستقبلون دعوات الغضب تلك بصدر رحب.

على الصعيد نفسه كانت المجموعات الروسية تقوم بعملياتها العسكرية بشكل واضح في عدة مدن، وأسقطتها بالفعل تحت سيطرتها، في الوقت الذي بدأ فيه ماو سي تونج يفكر في الوصول إلى العاصمة لإنهاء المواجهة وإعلان السيطرة على الدولة بشكل كامل وتقلد الحكم.

فرض شيانج حصارًا خانقًا على المدن الشمالية التي سيطر عليها الشيوعيون لمدة 6 أشهر، نتج عنه موت أكثر من 300 ألف مدني، مما تسبب في ازدياد حالة الغضب الشعبي والكراهية تجاه نظام شيانج والولايات المتحدة، مما دفع المجموعات المسلحة الشيوعية المنتشرة في بعض المدن للتحرك بعد استجماع قواها لفك الحصار، وهو ما نجح بالفعل وصارت العاصمة قاب قوسين أو أدنى من ماو سي تونج ورفاقه.

بحلول يناير 1949 كانت مدينة بيبنج والتي سميت فيما بعد بكين تحت سيطرة الشيوعيين، ونتيجة لذلك بدأت معاقل القوميين تتساقط واحدة تلو الأخرى، استعدادًا لفترة حكم جديدة في الصين تسيطر عليها الشيوعية وتدعمها روسيا وتكتسي اللون الأحمر.

الأب الروحي والكارثة الكبرى

الأب الروحي للاشتراكية الصينية، هكذا يتحدث الجميع في الصين عن ماو سي تونج، ذلك الذي تروي الأدبيات الصينية عنه أنه بمثابة الإله للكثيرين في الصين، فحتى اليوم يعتبر تمثال ماو سي تونج أحد التابوهات التي لا يمكن الاقتراب منها أو الإساءة إليها، لكن صفحات التاريخ تروي الكثير عن القائد الذي وصل إلى الحكم عبر الميليشيات الروسية.

بدأ ماو في محاولاته للخروج بالصين من دولة الزراعة والمحاصيل إلى دولة التصنيع الكامل، وكانت تلك التجربة على مدى قساوتها ونتائجها المدمرة فعالة فيما بعد على عكس نموذج كوبا الذي ظل طوال سنوات لا يقوم إلا على الزراعة والمساعدات الروسية، وحينما أراد التقدم قليلًا ابتكر نموذجًا للسياحة الجديدة لتحقيق حالة من الاستقرار الاقتصادي.

بحلول عام 1958 كان قرار ماو سي تونج ببداية خلق حالة من التحول في الاقتصاد الصيني، لجعله قويًّا بما يكفي لمواجهة القوى الأمريكية العظمى، عن طريق تحول العديد من الصينيين إلى الصناعة التي ستشكل بدورها عاملًا هامًّا في تقدم الزراعة، وذلك حتى تستطيع الصين خلق نموذجها الخاص المكافئ للولايات المتحدة.

كانت الخديعة الكبرى بالنسبة للمزارعين الفقراء الذين تعلقوا بأمل امتلاك الأراضي عند نجاح الثورة، فالقرار الصيني قضى بتشكيل ما عُرف بـ«الكوميونة»، وهي تجمع حزبي شيوعي يضم تحت لوائه فئات شعبية مختلفة للقيام بالمهام المكلف بها كالزراعة أو الصناعة، وكان النموذج الذي اعتقد ماو سي تونج أنه سيتحقق نموذجًا كاذبًا هشًّا سريعًا ما تهاوى كأنه قصر من تراب.

كان العامل الأساسي في ذلك النموذج قائم على عبادة الفرد الحاكم والإنسان الخارق، فما يقوله ماو سي تونج لا يمكن رفضه أو الخروج عنه، وإلا كان المصير هو توجيه الاتهام بأن صاحب هذا الكلام «برجوازي» مكانه الطبيعي في السجن، وفي الوقت نفسه كان نموذج الإنسان الخارق قائم على أن الصيني يمكنه القيام بأي شيء وإنجاز أي مهمة، سواء كان ذلك في الصناعة أو الزراعة، المهم هو أن يحقق الرقم المطلوب من الكوميونة كل فترة محددة.

تحول الصينيون داخل الكوميونات إلى ماكينات عمل بشرية منزوعة الروح، تتشكل حياتها بالكامل ضمن نموذج «هدف الكوميونة الاقتصادي»، فكانت النتيجة هي زيادة واضحة في المنتوجات الزراعية وتطور ملحوظ في عمليات الصناعة، وذلك كله خلال العام الأول من الطفرة الاقتصادية الجديدة.

لكن بحلول العام التالي 1959 كانت الكارثة قد بدأت في التشكل، فأفراد الكوميونات مكلفون بمهام جديدة لا يعرفون عنها شيئًا ولا يعرفون طريقة القيام بها، بجانب أن الكثير منهم فقد طاقته وصحته وقدرته على الإنتاج عبر الاحتراق المستمر الذي تعرض له خلال عام كامل، لتكتمل الكارثة بأزمة مناخية حادة في الوقت نفسه الذي بدأت فيه الآلية الصناعية الناشئة في التفكك السريع وفي إعلان فشلها.

صار الوضع الجديد مربكًا، فالكثيرون تركوا الزراعة وتسببت الأزمة المناخية في انخفاض حاد في المحاصيل، ولم يعد أحد يهتم بالأراضي الزراعية، وفجأة لم يستطع الصينيون أن يصبحوا بلدًا زراعيًّا ولم يصلوا بعد إلى النموذج الصناعي، ثمة مجاعة على وشك التشكل في القريب العاجل.

بحلول العام 1960 كانت الكارثة قد بلغت ذروتها، فالمناخ صار أقسى وأشد تأثيرًا، والمجاعة قتلت 9 ملايين صيني، واستمر الأمر على الشاكلة نفسها حتى بلغ حجم القتلى من المجاعة 20 مليون صيني، وبات ماو سي تونج في وضع لا يحسد عليه أمام الحزب واللجنة المركزية وأمام العامة الذين يقتلهم الجوع كل يوم.

بحلول العام 1963 لم يعد ماو مجرد زعيم ثورة فاشل، كما أعلن هو نفسه، لكنه كان ديكتاتورًا أشد فتكًا من سالفه القومي، حتى إن ضحاياه فقدوا القدرة على حصد أو جمع من سقطوا جراء حكمه، فالطفرة العظيمة التي أرادها انتهت بعامة يأكلون التراب ويبيعون الأطفال لمن لديه بقية من المال من أثرياء الطبقة الحاكمة، ومستعدون لأكل أي شيء، وأي شيء هنا تعني أي شيء.

في الفترة الأخيرة وبعد أن تفشى فيروس كورونا حول العالم، وظهر للناس أن منشأه كان سوقًا صينيًّا للأسماك يبيع الخفافيش كوجبة وحساء، خرجت صور جديدة لأنواع مختلفة من الطعام المتداول في الصين، كحساء الأجنة البشرية والحشرات بمختلف أنواعها، وكذلك الكثير من الحيوانات، لكن أحدًا لم يجد تفسيرًا ربما لتلك الحالة الغريبة من الإعجاب بأطعمة لا يمكن للبشر تقبلها إلا في قلب مجاعة حية! الحقيقة أن ذلك العرف في تناول الأطعمة الغريبة كان جزءًا من القصة التي عاشها الصينيون خلال سنوات المجاعة التي تسبب فيها ماو سي تونج، والتي ربما يمكننا القول إنها تخلق نتائج كارثية حتى هذه اللحظة الحاضرة.

في النهاية بإمكاننا النظر عبر صفحات التاريخ بوضوح فيما يخص القصة الصينية؛ لمعرفة أن دولة بهذا الكم من البشر كان وقوعها في المجاعة يومًا سببًا في كارثة وبائية حالية، وكيف يمكن للتغيرات السياسية والثورية في التاريخ أن تكون ذات أثمان باهظة لا قبل للبشر بتحملها.