نحن الآن في منتصف مارس/آذار من عام 2020م، بعد أكثر من 3 أشهر على ظهور فيروس الكورونا الجديد الذي اصطُلِحَ على تسميته اختصارًا (الكوفيد-19)، وأصبح هاجس العالم الأول من أقصاه إلى أقصاه.

في تلك الأثناء، تستعدُّ الصين التي نبع الفيروس منها، في مقاطعة هوباي، ومركزها مدينة ووهان، للاحتفال بقرب إعلان انتصارها المحلي التام على الكوفيد-19، بعد أن أصاب أكثر من 80 ألفاً من الصينيين، وفتك بأرواح أكثر من 3 آلاف منهم. بينما انتقلت المعركة الرئيسية مع الفيروس إلى بقاع أخرى، مثل أوروبا التي أصبحت رسمياً هي البؤرة الجديدة لهذا الوباء العالمي.

منذ مطلع الشهر، بدا أن خطة الصين الطارئة لقهر فيروس الكورونا الجديد قد بدأت تؤتي ثمارها، فبعد أن وصلت الإصابات الجديدة المسجلة يوميًا في ذروة الوباء خلال فبراير إلى بضعة آلاف يوميًا، مع مئات الوفيات، أصبح الحالات اليومية المسجلة أقل من 50 حالة، وانحسر عدد الوفيات كثيرًا. يوم 15 مارس على سبيل المثال، سُجلَت في الصين 25 حالة جديدة فحسب، و10 وفيات، بينما في إسبانيا وإيران على سبيل المثال، سُجِّلَ أكثر من 1200 حالة جديدة، ونحو 100 حالة وفاة لكل منهما.

حظيَت تجربة الصين في تحجيم هذا الوباء الخطير بالكثير من الإعجاب من العدو قبل الصديق، وذلك رغم الانتقادات الكثيفة التي تعرَّضت لها مع اندلاع هذا الوباء، نتيجة تأخر السلطات الصينية في الأيام الحرجة الأولى في الاعتراف بوجود وباء تنفسي جديد، وتقديم الهاجس الأمني، والقبض على أو إسكات من تجرأ من المواطنين ولفت الأنظار لتلك المشكلة. وكذلك نتيجة عدم التعلم جيدًا من تجربة الماضي مع وباء السارس عام 2002م – 2003م، والذي نتج من اختلاط الحيوانات الحية في أسواق الصين مما أتاح حدوث تفاعلات وتلاقحات بين فيروساتها الخاصة، نجم منها الفيروسات الجديدة القادرة على غزو الإنسان.

في النقاط التالية، سنفصّل كيف نجح الكاهن الصيني في صرف تلك اللعنة التي استحدثها – بغير قصد أو بشبه عمد – إلى جهات العالم الأربع، بينما أوشك على التخلص التام منها.

1. تغوّل الدولة وقوتها وامتثال المواطنين التام

لم يكن من الصعب على دولة قمعية ذات قبضةٍ حديدية على المجتمع، أن تتخذ إجراءات صارمة لمنع تفاقم الموقف، دون أن تحتاج إلى وقتٍ وجهدٍ كبيريْن لتهيئة الرأي العام لتقبل ذلك.

من المعلوم أن هناك عدة مراحل لمواجهة الأوبئة، أولها، العزل، ثمَّ تأخير الانتشار، ثم تحجيم المضاعفات. رغم التأخُّر الأوّلي في الاعتراف بالمشكلة، فإن السلطات الصينية جمعاء تحركت بقوة مع بدء خطة الاستجابة، مما مكنها من حصر المواجهة في أفضل مراحلها، وأقلها في الخسائر، وهي مرحلة العزل للبؤر الرئيسة للوباء.

كان أبرز وأشد الإجراءات هو فرض حالة الإغلاق التام الصارم على أكثر من 56 مليون مواطن صيني، هم سكان مقاطعة هوباي، لا سيّما عاصمتها مدينة ووهان ذات 11 مليون نسمة، التي فُرض عليها الإغلاق يوم 23 يناير/كانون الثاني. التزم غالبية السكان بالعزل المنزلي، وطافت دوريات الشرطة بالشوارع للتأكد من عدم تواجد الناس إلا للضرورة.

مواطنة صينية من ووهان تتحدث عن حياتها في فترة الإغلاق

كذلك استخدمت الدولة قدراتها الهائلة في إنشاء 14 مشفىً لاستيعاب عشرات الآلاف من مرضى الكورونا، ولعزل الحالات المحتملة، واستقدمت آلاف الفرق الطبية إلى مقاطعة هوباي للمساهمة في هذا الجهد الهائل. ولم تتردَّد السلطات في إغلاق آلاف المصانع وغيرها من المؤسسات الكبرى، لا سيَّما في بؤر العدوى وذلك للسيطرة على انتشار الفيروس، وأعان على هذا فائض القوة الاقتصادية للدولة الصينية، واحتياطاتها النقدية والمالية الهائلة.

لكن – كما تذكر منظمة الصحة العالمية – لم تكن تلك الجهود الرسمية الصينية ستلقى نجاحًا، لولا الالتزام الكبير الذي أبداه الشعب الصيني في تطبيق تعليمات السلامة والصحة، وعدم مغادرة المنازل في مناطق العزل إلا للضرورة القصوى، وكذلك التضافر البارز بين جهود الجهات المحلية في دعم الفئات السكانية والعمرية الأكثر احتياجًا، والأشد عرضةً للمضاعفات، وأيضًا التعاون المثمر بين السكان المحليين في كل منطقة وحي في الحث على الالتزام بالتعليمات، وفي المساعدة في توفير الاحتياجات الغذائية والدوائية للجميع.

2. الخبرة

ليست تلك التجربة الأولى للصين في مواجهة أوبئة فيروسات الكورونا. فقبل أقل من عقدين، شهدَت الصين ظهور وباء السارس عام 2002م، في مقاطعة جوانجدونج الجنوبية، والذي كان سببه أحد فيروسات الكورونا، والذي كان أشد فتكًا بالحالات المصابة من الكوفيد، لكن لم يكن له نفس القدرة الشديدة على الانتشار، مما ساعد الصين على احتواء وبائه في يوليو/تموز عام 2003م، بعد أن أصاب 8 آلاف شخص، تُوُفِّي منهم ما يقارب الألف.

وللمفارقة، فكما ذكرنا في المقدمة، فقد كان منبع الوباءيْن متماثلًا، وهو أسواق الحيوانات الحية التي تشتهر بها الصين، والتي تشكل الكثير من الحيوانات البرية التي لا تؤكل عادة عند معظم الشعوب، وحُظِرَت لفترة بعد وباء سارس، ثم تحت ضغط اللوبيات الاقتصادية المستفيدة منها انتشرت، وعادت الصين أواخر فبراير الماضي لتجريمها بعد تفشي وباء الكورونا الجديد.

إذًا فقد كان بحوزة الصين مع اندلاع وباء الكوفيد-19، خبرة غير بعيدة زمنيًا في التعامل مع حالة متشابهة، وإن كانت أقل ضراوة، بجانب قاعدة علمية وتكنولوجية هائلة وقبل ذلك فنية وبشرية، تتحرك وفق خطط سبق تطبيقها بشكلٍ ناجع.

3. العلم ثمَّ العلم

في مواجهة هذا الفيروس المُستَجَدّ، طبقت الصين ما يمكن اعتباره الجهد الأقوى والأكثر طموحًا في احتواء الأوبئة في التاريخ الإنساني.
منظمة الصحة العالمية في تقريرها عن تقييم جهود الصين في التعامل مع فيروس الكوفيد-19

ظهرت قدرات الصين العلمية جليَّةً في كل خطوة من خطة احتواء فيروس الكورونا المُستَجَد. أشادت منظمة الصحة العالمية بسرعة توصل الفرق العلمية الصينية لكل المعلومات الأساسية والثانوية عن تركيب الفيروس، وطرق انتشاره، ونقاط قوته وضعفه، وسرعة تعديل السلطات الصينية لخططها على أرض الواقع وفقًا للمستجدات العلمية في فهم الفيروس.

يعرض الموقع الرسمى لشبكة التلفزيون الصينية الدولية CGTN خريطة زمنية لأهم الأحداث العلمية في مسيرة مواجهة الكوفيد-19 في الصين. كان الفتح العلمي الأول 5 يناير/كانون الثاني، وبعد أقل من شهر من ظهور الفيروس، عندما نجح فريق بحثي صيني في جامعة شنغهاي في التوصل لكامل الخريطة الجينية لفيروس الكوفيد-19، وقاموا بعد أيام بنشره لعموم الباحثين في العالم ليعمل الجميع عليه. ثم في 23 يناير/كانون الثاني، توصَّل الباحثون إلى تشابه بنسبة 96% بين تركيب الفيروس، وتركيب فيروسٍ آخر في الوطاويط، مما رجَّحَ أن مصدر الفيروس كان الوطاويط.

وفي الثالث من مارس/آذار، توصَّل باحثون صينيون لاكتشافٍ خطير تمثَّل في إثبات أن الفيروس – واسمه العلمي SARS-COV 2 – قد تحوَّرَ إلى سلالتيْن مختلفتيْن في قابلية العدوى وشدتها. ولعل هذا قد يفسِّر الحالات المتناثرة التي أصبح فيها تحليل الفيروس إيجابيًا بعد سابق الشفاء منه.

وفي الأيام الماضية، بدأ الخبراء الصينيون بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية في عرض خبرات التجربة الصينية كاملة ليستفيد منها العالم أجمع، وظهرت بشكلٍ بارز القدرات الصينية الهائلة في مجالات التوثيق والإحصاء الطبي الدقيق للحالات، وتفاصيل التعامل معها، وخطط العلاج للحالات الخطيرة والتي عُدِّلَت مراتٍ عديدة خلال الأسابيع الماضية وفقًا للمُستجدّات العلمية والبحثية.

4. التفعيل المتميز للتقنية

مذهلة واستثنائية. هذا أقل ما يمكن أن تُوصَف به ترسانة القدرات التكنولوجية الصينية التي استُخدِمَت في مواجهة الكوفيد – 19. أسهمت تلك الوسائل التقنية في تحسين فعالية وكفاءة الخطة الصينية لمكافحة الوباء، وكذلك في حماية العناصر البشرية من التعرض المباشر للكثير من مصادر الخطر.

على سبيل المثال لا الحصر، روبوتات ذكية لتعقيم المؤسسات والشوارع، وكاميرات حرارية عالية الدقة لكشف الحالات المصابة بالحمّى عن بعد، وبعض تلك الكاميرات حُمِّلَت على طائرات مُسيَّرة بدون طيار، كانت تطوف الشوارع لمسح المارة، والتعرُّف على المصابين بارتفاع الحرارة منهم، ليتم التحقق من إصابتهم من عدمها. كذلك قدمت شركة (مايكرو-مالتي كوبتر) التقنية، طائراتٍ مُسيَّرة مخصًّصة لنقل العينات الطبية من المرضى إلى المراكز البحثية وأماكن التحليل، بدلًا من قيام العاملين الصحيين بذلك، وتعرضه لاحتمالات العدوى.

أيضًا، وفي فترةٍ وجيزة، أنتجت شركة بودو للتقنية عشرات الروبوتات لمساعدة الأطباء في أكثر من 40 مشفىً صينيًا، كما طوَّرت شركة (علي بابا) عملاق التجارة الإلكترونية الصيني، تقنية لتشخيص عدوى الكوفيد 19، بلغت دقتها أكثر من 96%.

وكان للروبوتات أدوار أخرى مهمة في تجنيب البشر مخاطر العدوي، إذ كانت تُستَخدم مثلاً في تقديم الوجبات الغذائية إلى السياح القابعين في الفنادق تحت الحجر الصحي، بدلاً من أن يُقدّمها عمال الفندق.

كذلك وفّرت السلطات الصينية لقوات الأمن خوذاتٍ حديثة، مزودة بلواقط حرارية قادرة على اكتشاف الأشخاص المصابين بارتفاع درجة الحرارة بين المارة، في دائرة قطرها 5 أمتار، دون الحاجة للتعامل معهم وجهاً لوجه.

أيضًا فعّلت السلطات الصينية أنظمتها الرهيبة للرقابة العامة، فاستخدمت آلاف الكاميرات الحديثة القادرة على التعرف الجيد على الوجوه، والمبثوثة في الأماكن العامة، وذلك لمتابعة الحالات المرضية والمشتبه فيها. كذلك تبارت الشركات الصينية في تقديم خدماتها في مجالات التصوير الحراري لنفس الغرض.

5. المزيد من التقنية… الهاتف الذكي يراقبك

مع انحسار الوباء، وتشجيع السلطات الصينية على العودة التدريجية للحياة الطبيعية، ولكي لا يسبب هذا عودة الوباء للتفشي مجدَّدًا، طبَّق المسؤولون الصينيون في أكثر من 200 مدينة حتى الآن – آخذة في الزيادة – تقنية حديثة للرقابة عبر الهواتف الذكية، اسمها Alipay health code والتي طُوِّرَت بالتعاون مع إحدى الشركات الصينية التابعة للعملاق التنقني (علي بابا)، وتعتبر من تطبيقات تقنية البيانات الضخمة Big Data.

اقرأ: ما هي البيانات الضخمة Big Data؟

عبر تطبيق على الهاتف الذكي، ووفق معلوماتٍ شخصية وطبية، يُصنَّف الناس إلى 3 ألوان حسب مدى خطورة انتقال العدوى منهم إلى غيرهم. فأصحاب اللون الأخضر، يُسمح لهم بالذهاب إلى الأماكن العامة المختلفة، على عكس الأصفر، الذي يوصى له بالمكوث بالمنزل أسبوعًا، والأحمر الذي يوصى له بالحجر الصحي لأسبوعين، وينشئ التطبيق QR code لكل لون، كما.يقوم التطبيق بإرسال العديد من بيانات الشخص إلى خوادم الشرطة.

ويقوم رجال الأمن بشكل مستمر باستيقاف الناس، والاطلاع على QR code الخاص بهم، للتعرف على أصحاب اللونيْن الأصفر والأحمر. ورغم ما أحدثه هذا النظام من خلافاتٍ – وأحيانًا شجار – بين بعض الناس وأفراد الشرطة، فإنه أسهم على العموم في تقييد حركة الأفراد الأكثر قابلية لنقل العدوى لغيرهم، بينما أتاح للأقل خطورة العودة تدريجيًا إلى نشاطهم، وهؤلاء الأخيرون لحسن الحظ هم الشريحة الأكبر. ففي مقاطعة زيجيانج، سجَّل أكثر من 50 مليون نسمة على التطبيق، وحصل 98% منهم على الكود الأخضر.

والآن بعد استعراض ما فعله التنين الصيني لكبح جماح الكوفيد-19، برأيك كم بالمائة من الخطوات السابق ذكرها يمكن تطبيقها بفعالية في البلد الذي أنت فيه، وهل ستلقى نفس النجاح؟