في عصر اتفاقية بريتون وودز التي أعقبت الحرب العالمية الثانية هيمنت الولايات المتحدة على التدفقات الرسمية لرأس المال. فتحول الدولار الأمريكي بمقتضى ذلك الاتفاق من عملة محلية إلى عملة احتياط دولية استنادًا لقاعدة الصرف بالدولار الذهبي.

ولكن مع انهيار نظام بريتون وودز، في السبعينات، شهد العالم توسعا هائلا لحركة رؤوس الأموال في التمويل الدولي نتيجة لتفكيك القيود التي كانت تمارس عليه قبل ذلك.

برزت الصين منذ ذلك الوقت وحتى الحين في مجال الإقراض الدولي.

وبالرغم من قلة البيانات التي ترصد بدقة حجم الإقراض الصيني فإنه في ورقة بحثية قدمها معهد كييل للاقتصاد العالمي بعنوان «الإقراض الصيني بالخارج»، تم توثيق الارتفاع الكبير في صادرات رأس المال الصيني إلى بقية دول العالم خلال العقود الماضية. وذلك عبر تحديد الورقة وتركيزها على حجم ووجهة وخصائص تدفقات رأس المال الصيني، وهو ما سيستعرضه المقال.

حجم الإقراض الصيني بالأرقام

بلد واحد فقط من كل عشرة بلدان منخفضة الدخل يبلغ عن ديون الشركات العامة التي تقع خارج إطار الحكومة. ومن ثم، فإن أغلب البلدان المدينة ليس لديها صورة مكتملة حول مقدار وشروط ما اقترضته من الصين.
تقرير صندوق النقد الدولي لعام2018.

وفق ما هو مُعلن، فإن الحكومة الصينية والجهات الدائنة المملوكة للدولة منذ عام 1949 وحتى عام2017 قدمت أكثر من 1947 قرضًا، علاوة على 2947 منحة إلى أكثر من 150 دولة حول العالم، وذلك بإجمالي التزامات بلغت 530 مليار دولار أمريكي.

فلطالما كانت الجمهورية الشعبية الصينية مُقرضًا دوليًا نشطًا على مدى سبعة عقود، منذ أن كانت تتولى إقراض الدول الشيوعية الشقيقة بمبالغ هائلة خلال فترة الخمسينيات والستينيات.

بيد أن السنوات العشرين الأخيرة شهدت هيمنة من الصين على عملية الإقراض الدولي، نظرًا للزيادة الكبيرة في الناتج المحلي الإجمالي لديها، إلى جانب الاستراتيجية العالمية للصين التي بدأتها في عام 1999 واستهدفت من خلالها تشجيع الاستثمارات الصينية في الخارج.

وعلى الرغم من أن القروض الصينية كان لها الفضل في تمويل استثمارات واسعة النطاق في البنية التحتية والطاقة والتعدين في أكثر من 100 دولة في الأسواق النامية والناشئة، إلا أن تدفقات الإقراض الكبيرة في الوقت نفسه تسببت في تراكم أعباء خدمة الديون بالنسبة للدول المدينة وحمَّلتها ما لا تطيق.

إذ ارتفع متوسط رصيد الدين المستحق للصين من أقل من 1 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي للدول المدينة في عام 2005 إلى أكثر من 15 ٪ في عام 2017. كما مثَّل الدين المستحق للصين أكثر من 40٪ من إجمالي الديون الخارجية لتلك الدول المدينة.

وبحلول عام 2018 ، بلغ حجم الإقراض الصيني أكثر من خمسة تريليونات دولار تجاه بقية العالم بما يعادل 6٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي، بعد أن كان أقل من 500 مليار في أوائل عام 2000 بما يعادل 1% من الناتج المحلي الإجمالي.

وعلى الرغم من ذلك، فإن حوالي 50% من قروض ومنح الصين «خفية» لا تقدم المؤسسات الدولية عنها أية تقارير، والتي تجاوزت أكثر من 200 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2016.

فعادة ما تمنح الصين تلك القروض الخفية للدول التي تمر بأزمات مالية كـفنزويلا وإيران وزيمبابوي، دون أي إبلاغ أو مطالبات مصرفية منها تجاه تلك البلدان إلى بنك التسويات الدولية.

بينما تأخذ مطالبات الصين تجاه بقية دول العالم شكل سندات سيادية، تقوم الحكومة بإصدارها وتوجيهها للمستثمرين في الخارج بعملة غير عملتها المحلية.

غموض المال الصيني

نحو 50% من القروض الخارجية الصينية لا يسجلها البنك الدولي، وبالتالي لا تدخل ضمن إحصاءات الديون المُبلغ عنها رسميًا.

لا تولي الصين اهتمامًا كبيرًا لتوثيق كل عمليات إقراضها، بل تُخفيها متعمدة! فلا هي تُقدم تقريرًا عن الإقراض الرسمي لها ولا يوجد هناك بيانات موحدة وشاملة عن أرصدة وتدفقات الديون الصينية الخارجية.

كما أنها ليست عضوًا في نادي باريس، الذي يتعقب الاقتراض السيادي للدائنين الرسميين الأعضاء في النادي، وبالتالي لا تخضع لشروط الكشف القياسية الخاصة به.

إضافة إلى ذلك، فإن مقدمي الخدمات التجارية كـ «بلومبرج» أو «ديلوجيك» لا يقومون بمتابعة القروض الخارجية الرسمية للصين، كما لا ينشر بنك الصين الشعبي حصيلة مشترياته من السندات السيادية أو تكوين محفظته الاستثمارية. وبالمثل لا تقدم الصين أية تفاصيل عن مبادرة الحزام والطريق وأنشطتها في الإقراض المباشر، التي أطلقتها عام 2013 بهدف ربط الصين بالعالم.

ليس ذلك فحسب، فالصين لا تفصح عن البيانات المتعلقة بتدفقاتها الرسمية من خلال نظام إبلاغ الدائنين التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، الذي يوفر بيانات حول تدفقات الائتمان التجاري على المدى قصير وطويل الأجل.

الأمر الذي يجعل من تتبع المال الصيني، وتقدير حجم تدفقاته بدقة، أمرًا شديد الصعوبة، وأقرب للمستحيل.

قروض كبيرة وأسعار فائدة مرتفعة

شهد العالم في سبعينيات القرن الماضي طفرة كبيرة في الإقراض، تلقت معها البلدان النامية والفقيرة مبالغ ضخمة من القروض. فكان الدائنون الرسميون يميلون لإقراض البلدان النامية بشروط تساهلية ذات آجال استحقاق طويلة وأسعار فائدة أقل من السوق.

وبالرغم من انخفاض أسعار الفائدة هذه، فإن مدفوعات خدمة الديون في الدول الفقيرة، كنسبة من نفقاتها واقتصادها الكلي، ظلت آخذة في التصاعد.

أضف لذلك أن الصين تمنح الدول الفقيرة قروضًا عالية المخاطرة، أي أن قدرة الدولة المقترضة على تسديد هذه الديون هي محل شك، وفي مقابل ذلك تفرض الصين سعر فائدة مرتفع على هذه القروض، كما تحدد لنفسها ضمانات للسداد من خلال عائدات تصدير السلع، وخاصة النفط.

فعلى سبيل المثال، اقترضت إكوادور في عام 2010 نحو 1.7 مليار دولار أمريكي من بنك التصدير والاستيراد الصيني بفائدة 7 % على مدى زمني 15 عامًا. وبالمثل، اقترضت أنجولا 20 مليار دولار من البنوك الحكومية الصينية خلال عشر سنوات بمعدل فائدة وصل لـ 6% مع استحقاقات تراوحت بين 12 بين 17 سنة.

الدول النامية ليست وحدها

تتبع الصين مع الدول المتقدمة نظامًا مختلفًا في الإقراض. فبدلاً من منح القروض المباشرة، فإن البلدان المتقدمة ذات الدخل المرتفع تتلقى المال الصيني في صورة شراء السندات السيادية لتلك الدول. ومع تراكم السندات وتتابعها باتت العديد من الدول المتقدمة مدينة بأرقام كبيرة للحكومة الصينية بما فيهم الولايات المتحدة.

ففي عام 2011، وصلت مشتريات الصين من سندات الخزانة الأمريكية إلى ذروتها عند 1.6 تريليون دولار أمريكي، بما يعادل 10 % من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.

ومع نهاية عام 2017 بلغت حيازات بنك الصين الشعبي للسندات السيادية الأجنبية أكثر من ثلاثة تريليونات دولار. أغلبها سندات تابعة لدول متقدمة، كسندات الخزانة الأمريكية والسندات الألمانية والسندات البريطانية.

هذا الرقم يعد أكبر أربع مرات من إجمالي مطالبات القروض المباشرة التي بلغت 710 مليارات اعتبارًا من عام 2018. وخلال العقد الماضي، اتبع بنك الصين الشعبي آليات لشراء الأصول يصعب تتبعها.

الأمر الذي شكل دافعًا لظهور أنواع أخرى من التمويل الذي تحركه الدولة الصينية وتتحكم فيه، وبالأخص الائتمانات التجارية المضمونة رسميًا، وكذلك تدفقات الأسهم والاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان المتقدمة.

علاوة على بناء الصين لشبكة عالمية من خطوط مبادلة العملات بين البنك المركزي الصيني والبنوك المركزية في الدول المتقدمة،حتى تجاوز إجمالي حقوق السحب على خطوط المبادلة الرسمية، وهو رصيد العملات المتداولة، نحو 500 مليار دولار أمريكي.

تلك الزيادة الهائلة في الإقراض والاستثمار الرسمي للصين لم يسبق لها مثيل، ولا يضاهيها سوى الزيادة في الإقراض الأمريكي في أعقاب الحرب العالمية الأولى والثانية.

إجمالاً، تمكن النمو السريع في معدلات الإقراض الصيني من تحويل الحكومة الصينية إلى أكبر دائن رسمي في العالم، رغم قلة البيانات المتاحة، والتي لا تقدم سوى القليل عن حجم صادرات رأس المال الصيني وتأثيراته العالمية.

فلم تعد الدول الفقيرة والنامية وحدها الواقعة في شباك الديون الصينية، بل أصبحت البلدان المتقدمة مثقلة بالديون هي الأخرى على نحو متزايد، وهو ما دعم صعود الصين كقوة اقتصادية عالمية لا يستهان بها، وجعل بيدها ورقة ضغط تستغلها الصين في الوقت المناسب لتحقيق مآربها السياسية والاقتصادية.

المراجع

  1. Sebastian Horn& Carmen Reinhart& Christoph Trebesch, CHINA’S OVERSEAS LENDING,  KIEL WORKING PAPER,  Kiel Institute for the World Economy, NO. 2132| JUNE 2019