دعونا نتأهب جيدًا لشقين من الخطر، فبعد معسكر أوشفيتز صرنا نعرف من هو الرجل القادر … أما بعد هيروشيما فصرنا نعرف من هم على حافة الخطر.
البروفيسور «فيكتور فرانكل» من كتاب «الإنسان يبحث عن المعنى»

واحدة من التساؤلات التي تطرأ من حين لآخر على عقول أبناء الدول المستضعفة في العالم، أولئك الذين يشكلون الشق المفعول به وليس الفاعل، سؤال ربما من الصعب أن تُجيب عنه المحادثات الفردية، بل يمكن الغوص داخله عبر الولوج إلى الذاكرة الجمعية، إلى الأرقام والتواريخ والذكريات المكتوبة التي سجلها من عايشوا الكوارث، ووثَّقوا كيف تعاملت الشعوب مع حكوماتها بعد ارتكابها أبشع المجازر الإنسانية، كيف تباينت المواقف بين التأييد أو الرفض أو التجاهل. لطالما كانت تلك المواقف جزءًا من ذاكرة الندم التي لن ينساها العالم، والتي سنحاول سبر أغوارها في السطور القادمة.


ألمانيا لم تنسَ وكذلك أعداؤها

غالبًا ما تخرج كل أطراف الحروب العالمية خاسرة، ماديًّا (أراضي وممتلكات وأموالًا) وبشريًّا ونفسيًّا، وبالنسبة لألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، كانت الهزيمة النفسية أشد ضراوة، هزيمة عنت تراجع النفوذ للخلف، وفقدان الكثير من المهابة العالمية، ولنضع ذلك كله في قبعة جنس من البشر معتدٍ بنفسه كثيرًا، ويرى في نفسه جنسًا مميزًا عن غيره.

لذا فقد كان الشاب النمساوي السياسي حديث الدور إدولف هتلر ذا عقل يسمح له باللعب على الهزيمة النفسية التي نالتها ألمانيا، وبدأ في التدرج نحو قمة حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني، متخذًا من رفعة القومية الألمانية بوابة واسعة للوصول إلى قمة السلطة في زمن قياسي.

وبعد الوصول للسلطة بدأ نوع جديد من الدعاية السياسية دعمت المنطلق الألماني المعتد بنفسه، بعزل كل الفئات التي تحمل توجهات تتعارض ولو بشكل بسيط مع التوجه الألماني، والذي صار فيما بعد التوجه النازي، ليصبح الشعب الألماني في مجمله نازيًّا دون أن يكون مؤمنًا حقًّا بالنازية، أو دون أن يمتلك خيار الحصول على معتقد آخر.

ثم ظهرت ردود الأفعال تباعًا بعد كل حدث، وهي على الرغم من كونها قد تبدو مفروضة على من آمن بها، لكن العقلية الجمعية والدعاية السياسية كانت كافية لترسيخ ما يريد هتلر فرضه على الجبهة الداخلية.

في 9 سبتمبر/أيلول 1939، وفي تلك اللحظة التي تحركت فيها قوات هتلر لغزو بولندا، كأول إعلان للحرب العالمية الثانية، كان رد فعل الألمان حينها أن الغزو الألماني ما هو إلا رد فعل من هتلر تجاه العنف البولندي، والذي كان يجب أن يٌقمع في الحال.

لكن لفظة الألمان قد تصنف بغير الدقة، فالأمر قد ينضوي على الكثير من أرستقراطية برلين وما حولها من ضواحٍ ثرية، وكذلك أعضاء الحزب النازي، ولنضع معهم كل من آمنوا بتفوق عرقهم الأبيض على سائر البشر، مدعومين بالدعاية السياسية والإعلامية، لكن ما حال أولئك الذين لم يسمع أحد صوتهم؟

في كتابه الضخم الصادر عام 2015، تحدث «نيكولاس ستارغارد» في موسوعته الروائية التاريخية The German War: A nation under arms, 1939-1945، في الفصل الأول عن الأيام التي تلت دخول القوات النازية إلى بولندا، وكيف تلقى سكان القرى الفقيرة والضواحي المترامية الأطراف الخبر.

بمجرد أن بدأ الفصل الأول اصطحبنا نيكولاس إلى أجواء رمادية قاتمة، في فصل يحمل عنوان «حرب غير مرحب بها»، لتنتقل الصورة إلى واحدة من القرى الألمانية الفقيرة، حيث إن حالة القرويين المستقبلين لأخبار إعلان الحرب اختلفت بمزيج من المشاعر السيئة، فبعضهم قد أنهى لتوه خدمته العسكرية، وآخرون فقدوا وظائفهم، وقبل أن تبدأ رحلتهم للبحث عن مصدر رزق آخر جاء الاستدعاء العسكري لتتوقف الحياة من جديد.

حتى إن الأخبار التي وصلت إليهم في بداية الصيف عن تعرض الحامية العسكرية الألمانية في بولندا لبعض المناوشات وأعمال العنف من قبل المجموعات البولندية المسلحة، لم يشفع لهتلر ولا لرفاقه لدى تلك الفئة، وقد جرت العادة دائمًا في دعاية هتلر النازية عبر وسائل الإعلام، أن تكون الحشود هي العامل الأول لإظهار القوة والاستعداد الكامل للدخول في أكثر المعارك ضراوة، لكن الحقيقة أنه وبين تلك الحشود كان هناك الكثيرون ممن وضُعوا عنوة داخل ذلك المشهد لتكتمل الصورة.


وقت دفع الثمن!

من الصعب أن يتحدث أحدهم عن رأي عام ألماني موحد، يرفع صوته بالصياح تحية لأجل القوات النازية وزعيمها، وقد روى اليهودي «مارتن مايور» في مذكراته They thought they was free، كيف كان الكثير من الألمان القابعين خارج دائرة الحرب يؤمنون بأن جيوشهم تغزو العالم لأجلهم، وأنه إما أن يكون الغزو على أيديهم أو يحدث العكس.

وفي ذلك الوقت الذي كانت فيه القوات الألمانية في طريقها لدخول مدن جديدة، كانت مجموعات «شوتز ستافل» الشرطية تنتشر في الشوارع وتتحدث بين مؤيدي النازية عن أهمية الإبلاغ عن المخربين، وفي النهاية كان آلاف الألمان في معسكرات الاعتقال الشهيرة مثل «أوشفيتز» وغيرها جنبًا إلى جنب مع اليهود، لم يفرق بينهم شيء ما، على الرغم من أن الحديث خارج المعسكرات كان مختلفًا.

كانت الصورة المقدمة دائمًا عن ألمانيا النازية هي ألمانيا التي تؤمن بهتلر وبكل ما يراه مناسبًا، وقد كانت مجموعات «شوتز ستافل» وغيرها من الأساليب القمعية مهيمنة على الوضع بشكل كامل، لذا كان من الصعب أن يخرج من داخل تلك الصورة صوت مرتفع ينادي بسقوط النازية وتوابعها، لكن الحقيقة أن موجات الرفض كانت حاضرة وفي حراك صامت هادئ بعض الشيء، حراك يصعب إحصاء من شاركوا به، ظهر في بعض الصور الفردية، لذلك فمن غير المنطقي الحكم على مدى انتشاره، أو القول بعدها إن ألمانيا قاطبة كانت تؤمن بهتلر وترفع يدها تحية لغزواته.

ففي أكتوبر/تشرين الأول من العام 1939، وبعد أن تمكنت القوات الألمانية من بولندا بالكامل، وبدأت بالاستعداد لدخول فرنسا عبر المدن البلجيكية، قرر أحد القيادات العسكرية وهو الأدميرال كاناريس أن ينقلب على هتلر ليوقف كل تلك الخطط النازية، لكن التأجيل كان سببًا في إجهاض تلك الخطة.

أما على الجانب المدني، فقد نشأت مجموعات رافضة للنازية وتحركاتها، مثل مجموعة «قراصنة إيدلويس» الذين قدموا العديد من الأغنيات ضد النازية، قبل أن يسقط 700 منهم في قبضة هتلر، وانتهى المطاف بإعدام 12 منهم، بعد أن تبين تورطهم في مقتل أحد قيادات «الغيستابو» (الشرطة السياسية الألمانية).

وقد تكلل ذلك بواحدة من أشهر الإعدامات النازية، حيث إعدام القس اللوثري المعادي للنازية «ديتريش بونهوفر» في أبريل/نيسان 1945، بعد الكشف عن مشاركته في مخطط لقتل هتلر، وقد جرى إعدامه قبل سقوط ألمانيا واستسلامها بـ 23 يومًا فقط.

وما بين التأييد والمعارضة والانتفاع والعجز عن تحديد أيهما كان أكثر وأيهما كان أقل، دفع الألمان الكثير من الأثمان، جراء الحرب والمعسكرات، فقد شهد سقوط برلين واحدة من أبشع حوادث الانتهاك الجماعي في تاريخ أوروبا الحديث، والتي تناولتها الكاتبة «ميريهام جيبهارت» في كتابها المعنون بالألمانية “Als die soldaten kamen” (حينما أتى الجنود) – لم يُترجم للعربية – أو كما نقل إلى النسخة الإنجليزية Crime Unspoken، والذي وثَّق اغتصاب ما يزيد عن 860 ألف امرأة ألمانية على أيدي المجموعات العسكرية الأمريكية والبريطانية والروسية، بالإضافة إلى الرجال والأطفال الذين اكتمل بهم العدد إلى مليون ضحية.

وقد وثَّقت المؤرخة في كتابها كيف تساوى الضحايا في المصائر، فالطفلة ذات الثمانية الأعوام، عوملت كالمرأة البالغة، وكذلك المسنة التي تجاوزت الثمانين من العمر، ولم يفرق الجنود بين الضحايا لأي اعتبارات كانت.

وربما من الملاحظ أنه لم يخرج أي اعتذار رسمي بشأن تلك الكارثة، فيما جرى الحديث دائمًا عن الاعتذارات التي يجب أن تقدمها ألمانيا، في الوقت نفسه الذي كشفت فيه الأرقام الداخلية عن مقتل أكثر من 1.5 مليون قتيل في معسكر الأوشفيتز الشهير، ووصل عدد الأحياء الناجين إلى 7000 وحسب.

وفي ختام حديث ألمانيا الثري والمؤلم، تكمن الكارثة في أن الكثير من الألمان قد دفعوا أثمانًا غالية لم يكونوا طرفًا في معادلتها، كما وثَّقت التقارير أن الكثيرين من الألمان لم يكونوا على علم بمعسكرات الاعتقال والتعذيب التي لقي اليهود أو غيرهم فظائع بداخلها، وقد أظهرت أحد مقاطع الفيديو النادرة هتلر قبيل الحرب، وهو يتوقع إبادة اليهود.


حينما اختفت هيروشيما من الوجود

لو أنني بقيت حيًّا لمائة عام، فمن المستحيل أن أستطيع نسيان تلك اللحظات المعدودة.
روبرت لويس، طيار مشارك في إسقاط قنبلة هيروشيما النووية

هناك الكثير من المفاجآت عبر التاريخ، يمكن أن تكون كاشفة بما يكفي عما يدور في عقول أبناء الولايات المتحدة، ففي الوقت الذي تدفع فيه ألمانيا حتى هذه اللحظة ثمن الهولوكوست، ينظر الكثيرون إلى هيروشيما بصفتها حدثًا عسكريًّا انتهت بموجبه أكبر حرب في التاريخ المعاصر، فكيف كانت التوجهات الأخلاقية لدى عموم السكان في الولايات المتحدة حيال إبادة هيروشيما وناجازاكي؟

من الشائع أن تسيطر التصورات الدرامية على المشهد، فيما يتعلق بالتساؤلات الخاصة بردود الأفعال، فلو أن التصور الدرامي لرد فعل الشعب الأمريكي تجاه كارثة هيروشيما هو المسيطر، لربما كانت الصورة المتوقعة هي الكثير من الرجال المتألمين المندهشين مما حدث، والمستعدين لرفع لافتات غاضبة والخروج إلى الشارع لإعلان ذلك، في حين تضع النساء أيديها على أفواهها فزعًا وحزنًا من الكارثة، مصحوبة بدموع الحزن، لكن ماذا لو كانت الصورة الحقيقية لما جرى بالفعل تختلف كثيرًا عما يحدث خلف كاميرات هوليوود، ماذا لو أن ترومان لم يكن وحده من ألقى القنبلة فوق هيروشيما وناجازاكي؟

تظهر الإحصاءات المأخوذة من الاستفتاءات الجماهيرية في الولايات المتحدة ترحيبًا شعبيًّا كبيرًا لمهاجمة المدن اليابانية بالقنبلة النووية، خشية التعرض للغزو الياباني، وقد أظهرت الإحصاءات أن 85% من الشعب الأمريكي قد وافقوا عام 1945 على إسقاط القنابل النووية فوق المدن اليابانية.

بل أظهرت واحدة من الإحصاءات التقريبية أن 27% من الأمريكيين كان يرى أن إسقاط قنبلتين لم يكن كافيًا، وأنه كان يمكن أن تلقي الولايات المتحدة المزيد من الكتل النووية، في حين أن هناك بعض التفاصيل الحربية قد غابت في خضم الأحداث.

أورد الكاتب «بول فوسيل» في ورقته البحثية Thank god for the atom Bomb أن الدعم الشعبي في أمريكا للهجوم النووي كان خاضعًا بالضرورة للخوف الأمريكي من الغزو الياباني للولايات المتحدة، والذي بدا جليًا في الأغنية اليابانية الشهيرة «مليون قتيل من أجل الإمبراطور»، والتي قدمت نموذجًا عن استعداد كل فرد في اليابان للقتال من أجل نصرة الإمبراطور الياباني، حتى لو كلف الأمر مليون قتيل.

لكن الدراسة كشفت أيضًا أن نهاية الحرب كانت وشيكة بالفعل، وأن اليابان كانت مقبلة على الوقوع في براثن الحصار العسكري بعد أقل من أسبوعين من الحادثة، لذلك فقد كانت الحرب على وشك النهاية بالفعل، وقد تحدث الرئيس ترومان في مذكراته عن أن الأمريكيين فضَّلوا أن يقضوا على 70% من سكان هيروشيما، لإنقاذ أرواح مليون أمريكي.


ليذهب العالم إلى الجحيم

هل توقف الأمر إذن؟ لم تعد الدول مستعدة لإطلاق المزيد من القنابل النووية، وحلت الصوابية السياسية على العالم، وتحديدًا فوق رأس تمثال الحرية، وعليه فقد صار الأمريكيون أقل تقبلًا لقتل الآخرين! ربما يكون ذلك هو التصور الحالي عن الوضع المجتمعي في الولايات المتحدة، لكن ربما هناك صورة أخرى غير واضحة المعالم قد تهدم ذلك التصور.

أصدر الباحث «كليفتون باركر»دراسة في جامعة ستانفورد عام 2015، بمناسبة حلول ذكرى سنوية جديدة على كارثة هيروشيما، لكن الدراسة لم تكن مجرد بحث وتنقيب مجتمعي، بل كانت صدمة جديدة للأوساط الأمريكية قاطبة.

فقد تحدثت الدراسة عن مدى عجز الإحصاءات الجديدة التي تجرى حول مدى قبول الشعب الأمريكي لاستخدام الأسلحة النووية ضد أعدائهم، فقد ذكرت إحدى الإحصاءات أن نسبة موافقة الأمريكيين على ذلك النوع من الممارسات صار يشكل 45% تقريبًا من مجموع السكان، في حين أن تلك الدراسة كشفت أن تلك الأرقام مجرد أرقام نظرية افتراضية لا تشكل جزءًا من الواقع، لأنه ليس هناك ما يمكن أن يشكل خطرًا بالنسبة للولايات المتحدة في الوقت الحالي، وأن المواجهات الفعلية هي أكثر ما يوضح تلك النسب وحقيقتها.

وقد دللت الدراسة على ذلك، بكشف ما يؤكد أن 60% من المجتمع الأمريكي، يوافق على قتل مليوني مدني في إيران، من أجل حماية 20 ألف جندي أمريكي قد يسقطون في المواجهة الأمريكية مع إيران حال حدوثها.

لذلك فقد كشفت تلك الدراسة – وبعيدًا عن الأرقام والدلالات الخاصة بالمواجهات الحربية، حال تعلقها بالولايات المتحدة بشكل خاص، وليس بحلفائها أيًّا كانت مواقعهم على الخريطة – تَشكُّل واحدة مما يمكن تسميتها بـ «التابوهات» التي يمكن أن يفنى العالم في سبيلها، فمليوني المدني الإيراني الذين تحدثت عنهم الدراسة، ليسوا بالضرورة مقاتلين، وليسوا بالضرورة من مؤيدي الحرب والدخول في معارك، كما أن التصورات المكشوفة تعرضت لقبول القضاء على المدنيين، وليس على الجنود الفاعلين في المواجهات العسكرية بصورة مباشرة.

ومن هنا يمكن القول بأن الحالة الأمريكية تختلف بشكل كبير عن الحالة الألمانية في التعامل مع الكوارث الكبرى، فكارثة ألمانيا دُفع ثمنها بأضعاف ما يمكن تخيله، كما أنها كانت مخفية الملامح قليلًا وكان الإجبار والخوف ومعسكرات النازية جزءًا منها، في حين أن التجربة الأمريكية لم تتعرض لتلك الصور من الفرض والإجبار، كما أنها لم توضع تحت المقصلة واقتصرت قصص محاسبتها على التصورات النظرية والدراسات المكتوبة، كما أن السيناريوهات الأمريكية لم ولن تنتهي قريبًا.