يمكن لأي شخص القيام بأي قدر من العمل، بشرط ألا يكون هذا العمل من المفترض أن يقوم به في تلك اللحظة.
الكاتب الأمريكي «روبرت بنشلي»

عام 1930، كتب «روبرت بنشلي» الكاتب الأمريكي هذه الكلمات، والحال أنها تنطبق على الكثير من أفعالنا وأحيانًا تصبح نمط حياتنا. فتجدنا لا نتحرك لإنجاز أعمالنا إلا في اللحظات الأخيرة، في هذه اللحظات نسابق الريح كي ننتهي منها قبل الموعد المحدد، نختلق التبريرات المختلفة لتأجيل هذه الأعمال من قبيل أننا لا ننجز إلا حينما نجد أنفسنا مضغوطين، أو أن أداءنا يكون أفضل عند شعورنا بالضغط، أو أننا ننتظر اللحظة والظروف المناسبة للبدء في العمل سواء كانت هذه الظروف نابعة من حالتنا المزاجية أو البيئة المحيطة بنا.

هذه التبريرات، ليست السبب الحقيقي أو الرئيسي وراء عدم تحركنا إلا في اللحظات الأخيرة، إذ إننا بالفعل وفي أحيان كثيرة يكون لدينا الوقت الكافي لإنجاز مهامنا، ولكننا نضع هذا الوقت سواء في إنجاز أعمال أخرى، أو نتركه يذهب هباءً.

اللحظات الأخيرة: أسلوب حياة

 أحد أقرب الأمثلة على هذا، تأجيل الطلاب لما يجب إنجازه من مشاريع بحثية أو مواد علمية إلى تلك اللحظات قبل الميعاد النهائي، وكذلك طلاب الدراسات العليا الذين يستغرقون سنوات للانتهاء من أطروحاتهم العلمية، رغم أن كثيرًا منهم في العادة لا ينشغل طيلة هذه السنوات بهذه الأطروحات في العادة، وهو أمر أشارت إليه العديد من الدراسات منها دراسة أجراها عالم النفس بجامعة كالجاري بيرس ستيل عام 2007، أكدت أن من 80 إلى 95% من طلاب الجامعات يأجلون مهامهم الدراسية إلى تلك اللحظات الأخيرة على أمل تحقيقها بصورة أفضل فيما بعد.

وسبقها في ذلك دراسة استقصائية أجرتها كاثي جرين – أستاذة بجامعة دنفر – عام 1997، وجدت أن التأجيل كان واحدًا من أهم أسباب فشل طلاب الدكتوراه في إكمال أطروحاتهم العلمية. وهناك أيضًا كتاب «العادة الراهنة» الذي صدر عام 1988، لعالم النفس نيل فيور، وتحدث فيه عن أن طلاب الدراسات العليا الذين انتهوا من أطروحاتهم خلال عام إلى عامين كانوا أكثر انشغالاً في حياتهم مقارنة بمن أنهوها خلال 3 إلى 13 عامًا.

الوضع لا يتعلق بالحياة الدراسية فقط، لكنه يمتد للحياة العملية، إذ وجدت إحدى الدراسات أن نحو 80% من الموظفين – في عينة الدراسة وعددهم 2063 موظفًا – يضيعون ما بين نصف ساعة إلى أكثر من 3 ساعات يوميًا من وقت العمل دون إنجاز العمل المنوط بهم، وهو أمر يمارسه الكثير منا، فقد تبدأ في إنجاز عمل ما، ثم تجد نفسك منغمسًا بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، أو تكتشف فجأة أنك تشعر بالجوع أو ترغب في الحديث إلى أحد الأصدقاء، أو إنجاز أعمال أخرى ليست ملحة أو غير ذلك من التبريرات والظروف التي يتم اختلاقها هربًا من محاولة إنجاز مهامنا الأساسية.

بهذا الصدد، يعرف جوزيف فيراري، أستاذ علم النفس بجامعة ديبول، إلى عملية التأجيل أو التسويف والمماطلة هذه على أنها ليست مسألة إدارة وقت، ولكنها أسلوب حياة غير قادر على التكيف، فهي ظاهرة شبه عالمية يترك الجميع بها مهمة باقية في قائمة مهامهم لبضع ساعات أو أيام وقد تمتد لشهور وسنوات.

 وهي أيضًا نوع من سلوك التجنب، وآلية للتأقلم والاستسلام للشعور بالرضا اللحظي بدلاً من التركيز على الأهداف طويلة الأجل. هذا السلوك يتكون لدى أي شخص بغض النظر عن عمره أو مهنته أو منزلته الاجتماعية، حيث يتجنب الفرد فيه طوعًا القيام بأعمال معينة بالرغم من توقعه لنتائج سلبية لهذا التأجيل، مما يسبب له ضررًا أو حرجًا؛ كعقوبات مالية، أو معاناة صحية، أو صعوبات مهنية، أو اختلال في علاقاته بالآخرين، أو شعور بالإحباط فضلاً عن هدر الوقت.

سيكولوجية اللحظة الأخيرة

التأجيل هنا ليس كسلا كما هو شائع، فالفرد حينما تأتي اللحظات الأخيرة أو يشعر بالضغط النفسي والخطر، تجده يعمل فترات طويلة وشاقة لإنهاء المهمة المؤجلة. وبذلك فالتأجيل يمكن اعتباره فشل في التنظيم الذاتي مثله مثل العديد من السلوكيات الأخرى التي لها علاقة بانعدام ضبط النفس، مثل الإفراط في تناول الطعام. وهو في الجزء الأكبر نتيجةً سلوكية لتفاعل منظومة من العوامل النفسية الاجتماعية المؤثرة في شخصية الفرد.

1. الحماية الذاتية والخوف من الفشل

هذا الخوف عادة ما يحدث حينما لا يثق الفرد بقدراته، ويرى المهمة التي تنتظره مهمة شاقة، ويشعر بالقلق حيالها. للتخلص من هذا الشعور السلبي، يقوم الفرد بتأجيلها والاستغراق بعمل آخر. التأجيل هنا أيضًا بمثابة إستراتيجية للحماية الذاتية يحاول بها الفرد إيجاد الأعذار بدلاً من الاعتراف بوجود قصور لديه أو ضعف في قدراته.

فهو يلجأ إلى التأجيل ليتخذ من الوقت الضيق وغير الكافي أساسًا لتبرير إخفاقه، فيبرر النتائج إن كانت غير مرضية، على أنها ترجع بالأساس إلى ضيق الوقت وليس لقدراته الخاصة. وهو ما أطلق عليه جيمس سوريفيكي بمجلة نيويوكر «المعاقون ذاتيًا» أي المماطلين والمسوفين الذين بدلاً من الفشل في المخاطرة، يفضلون خلق ظروف تجعل النجاح مستحيلاً.

2. الجانب السلبي للنجاح

يرتبط هذا العامل أيضًا بالخوف، فإذا حقق الشخص نجاحًا كبيرًا في مهمة أو عمل ما، فيؤثر هذا النجاح عليه ويجعله يطيل التفكير مرارًا هل يمكن أن يحقق هذا النجاح مرة أخرى، أم أن قدراته لا تسمح له بذلك، وهكذا ففي ظل الخوف من الإخفاق وعدم تكرار النجاح يميل الشخص إلى التأجيل والمماطلة.

3. الانسحاب وعدم تحمل الإحباط

قد لا يستطع الشخص تحمل أي شعور سلبي أو إحباط عندما يواجه أي عقبات أثناء تنفيذه عمل ما، ومن ثم يستسلم ويلجأ للتسويف والمماطلة. فالمدخن مثلاً الذي يقرر ترك التدخين يشعر في الأيام الأولى بعدد من التغيرات المزعجة؛ مثل القلق والتوتر والغضب السريع، وحينها قد يقررُ العودةَ إلى التدخين، وتأجيل فكرة الإقلاع إلى وقت آخر.

4. الحالة المزاجية والاستمتاع

يفضل الشخص تأجيل القيام بمهامه إذا كان لا يحبها أو يراها مملة، أما إذا كان يستمتع بها فيسارع إلى إنجازها، وهو ما يطلق عليه بعض علماء النفس ظاهرة «إصلاح الحالة المزاجية» أي تجنب المشاعر غير المريحة المرتبطة بالعمل من خلال قضاء بعض الوقت في أنشطة تعزز الحالة المزاجية.

5. عامل الوقت والمكافأة

كلما اقترب الفرد من نيل مكافأة – ولو كانت شعورًا بالإنجاز- كلما تعاظمت هذه المكافأة بعينه وقل احتمال تسويفه لنيلها. أما إذا كان العمل سيستغرق وقتًا طويلاً، ولن تكون مكافأته أو نتائجه التي ينتظرها سريعة، فمن المتوقع أن يلجأ الفرد إلى المماطلة. وعادة ما تعرف هذه الظاهرة بـ «التأخير الزماني»، وتظهر بشكل أوضح في المهام التي يمكن الانتهاء منها خلال أيام قليلة، التي عادة ما يرغب الفرد بإنجازها سريعًا نظرًا لوجود حافز وشعور بالإنجاز قريبًا، على عكس ما كان الإنجاز والمكافأة بعيدة من حيث الوقت.

6. التردد وقصور الانتباه

قد يعاني الفرد من التردد وعدم القدرة على الحسم وبالتالي ينفق وقتًا طويلاً في مناقشة الاحتمالات المتاحة أمامه لكيفية إنجازها حتى يفوت الأوان. كما قد يعاني اضطراب قصور الانتباه فيركز انتباهه على مهمة واحدة فقط لمدة طويلة، ولا يستطيع أداء عدة مهمات في وقت واحد.

تداعيات سلبية لكنها ليست دائمًا كذلك

رغم محاولة الشخص المسوف الهروب من حالة الإحباط، إلا أنها تظل مسيطرة عليه إلى أن يتمكن من إنجاز مهامه وأعماله، ولكن لحين إنجاز هذه الأعمال، ومع اتخاذ البعض من التسويف نمطًا وأسلوب حياة، فالأمر قد يؤدي إلى عدد من المشكلات الصحية.

وقد أشارت لهذا دراسات عديدة منها دراسة أجرتها جامعة ماينس الألمانية، مؤكدة أن من يؤجل المهام الموكلة إليه بشكل متكرر، يعاني من الضغط العصبي والاكتئاب والشعور بالخوف والوحدة والإجهاد، وهي الأعراض التي يطلق عليها مصطلح «البروكراستيناتسيون»، وتظهر بشكل أوضح بين الطلبة نظرًا لما تتطلبه الدراسة الالتزام وتنظيم الوقت، فضلاً عن رؤية الشباب لها على أنها الطريق لفتح أبواب المستقبل وتحسين فرصهم بالحياة والعمل ما يضعهم في ضغط كبير.

ورغم هذه التأثيرات السلبية، فالأمر ليس بهذه القتامة، إذ يقود التأجيل في بعض الأحيان إلى مزيد من الإبداع والابتكار. وهذا ما أكده عدد من الباحثين وفي مقدمتهم آدم جرانت الأستاذ بجامعة وارتون للأعمال، موضحًا ذلك بأن الأفكار الأوليّة التي تخطر على بال الشخص عادة ما تتسم بالتقليدية، ومن ثمّ فإعطاؤها قدرًا من الوقت لبلورتها دون التسرّع وتنفيذها على الفور، يدفع العقل للتساؤل وإعادة التفكير بشكل أكثر إبداعًا.

الأمر ذاته تحققت منه جيهاي شين، الأستاذة بجامعة ويسكونسن، من خلال إجراء عملية مسح في شركتين مُختلفتين، وتحليل عدد المرات التي يقوم خلالها موظّفو هاتين الشركتين بتسويف المهام، وتقييم مُعدّل قُدرتهم على الإبداع والابتكار هُناك، فخلُصت بالنهاية إلى أن الأكثر تأجيلًا لمهامه عادة ما يكون أكثر إبداعًا في عمله.

بالطبع، هذه النتائج ليست دعوة أو تصريحًا بالمماطلة والتأجيل، إذ يجب التفرقة بين نوعين من التأجيل: الأول سلبي، يتم فيه تأجيل المهام حتى اللحظات الأخيرة بسبب عدم القدرة على التصرف في الوقت المناسب، والثاني إيجابي يتم فيه تأجيل الأعمال عمدًا لكن ما تزال هناك قدرة على إكمالها قبل المواعيد المحددة وتحقيق نتائج مرضية، حيث يتم استغلال هذا الوقت في التخطيط والإعداد للمهمة.

هكذا، يمكن القول إنه إذا كانت هناك رغبة في التخلص من التأجيل والتسويف فلا داعي للندم، سامح نفسك، ابدأ فورًا، دوِّنْ عناوين المهمات التي تتطلب الإنجاز، قسمها لمهمات صغيرة، حدد موعد البدء بها والانتهاء منها وحينما يحين الموعد، اشرع بها بصرف النظر عن مدى جودة الأداء، ولا تختلق لنفسك أي أعذار تبرر تأجيلك لها، وأخيرًا حالما تنجزها كافئ نفسك بشيء تحبه.