من الثابت الذي لا يقبل الشك فيه أن اللغة تعتبر من أهم العوامل في خلق وإرساء الوحدة بين عناصر الشعب الواحد، وتقوية أواصره والدفع به قدماً في مضمار التطور والالتحاق بقافلة الحضارة. لذلك كانت حركة التعريب خطوة مهمة وحاسمة في إتمام عملية الاستقلال الجزائري من الاستعمار الفرنسي.

وقد حدد الرئيس هواري بومدين في أيار 1975م ضمن اجتماع اللجنة الوطنية للتعريب أهداف التعريب في الجزائر بقوله: «إن التعريب في بلادنا هو جزء من حركة التاريخ التي ترتبط بمراحل التطور التي تعيشها ثورتنا وليس في استطاعة أحد أن يوقف حركة التاريخ». وذلك في مواجهة دعاة التغريب والهوية الازدواجية من مناصري الفرنسة.

مالك بن نبي والرئيس الجزائري هواري بومدين
المفكر الجزائري مالك بن نبي بصحبة الرئيس الجزائري هواري بومدين

إلا إنها في المقابل، يمكن اعتبارها خطوة «ناقصة» كونها ركزت على عنصر عرقي من دون آخر هو العربي على حساب الأمازيغي البربري، واللذان يكونان الغالبية الإثنية للشعب الجزائري في إطار ما يسمى الثقافة الإسلامية، ما خلق هوة ثقافية وفجوة كبيرة من الصعب ردمها وطنياً، لا تزال الجزائر تدفع ثمنها حتى يومنا هذا.

حيث تشكل قضية التعريب منذ فجر الاستقلال الوطني عام 1962م في الجزائر القضية الأكثر سخونة وأهمية على الإطلاق لما صاحبها من ملابسات وتناقضات على امتداد السنوات الماضية جعلت منها محور كل الأحاديث ومركز الأضواء المسلطة عليها، كنتيجة طبيعية للتعصب القومي المغلق عربياً المناهض لمشروع لتغريب من جهة ، والرافض بالاعتراف بالعنصر الأمازيغي وتجاهل خصوصيته الثقافية من جهة أخرى.

الجزائر واللغة العربية تاريخياً

يذكر عبد الرحمن سلامة في مؤلفه «التعريب في الجزائر» أن الجزائر ظلت محافظة على ثقافتها العربية الإسلامية التي تقبلتها وانصهرت في بوتقتها منذ الفتح الإسلامي، وأسهمت في إثراء التراث العربي الإسلامي بكثير من الشروح والمؤلفات القيمة، وانتفعت بالتيارات الثقافية العربية التي قدمت من الأندلس، والأقطار العربية الأخرى.

ويقول: ازدهرت اللغة العربية بفضل هذه المدارس والجامعات الموجودة في كل من تلمسان، ووهران، وبجاية، وقسنطينة، والتي كانت مصدر إشعاع ثقافي باهر، وهكذا أصبحت اللغة العربية جزءاً من كيان لا ينفصل عن لشخصية القومية الجزائرية.

حيث كانت اللغة السائدة في التعاملات الإدارية والعلمية والعسكرية، وكانت جميع الوثائق الرسمية للدولة الجزائرية تصاغ باللغة العربية. و«من أمثلة ذلك الوثائق المتبادلة بين الأمير عبد القادر الجزائري والعسكريين الفرنسيين الغزاة وهي الآن محفوظة بالمكتبة الوطنية لتثبت أن العربية ارتفعت فوق اللهجات». كما يورد محمد مضياف في كتابه «الثورة والتعريب».

وفي العصور الوسطى انتشرت الزوايا والرباطات التي أدت دوراً ثقافياً كبيراً قدر له أن يستمر ردحاً من الزمن. وقد اشتهر بعضها بأسماء أصحابها وأصبحت مركزاً للأدب والإمامة والإرشاد الديني ومنها: التيجانية والشيخية.

وهنا يمكننا أن نستشهد بما قاله المؤرخ الفرنسي موريس بولارد في كتابه «التعليم في الجزائر»، إذ يقول:

كان في الجزائر في القرن الرابع عشر وما بعده مراكز ثقافية باهرة وكان فيها أساتذة متمكنون في علوم الفلسفة، والفقه، والآداب، والطب، والنحو، والفلك، وكانت منتشرة في ربوع البلاد، وكان التعليم فيها دينياً ومدنياً.

كما جاء في تقرير الجنرال كلازي عام 1834م حول الوضع في الجزائر، والذي رفعه للحكومة الفرنسية في باريس: «يكاد كل العرب (الجزائريين) يعرفون القراءة والكتابة».

محاولات فَرْنسة الجزائر

خلال قرن من الزمان من عام 1830-1930م عمل الاستعمار الفرنسي على مسخ الهوية الوطنية الجزائرية، وفرض لغته وثقافته على كافة مناحي الحياة الإدارية والثقافية. يذكر عبد الله شريط في مؤلفه «من واقع الثقافة الجزائرية» أن الاستعمار الفرنسي «حارَب اللغة العربية لأنها العامل الموحد والمحرر، ولأنها السلاح الفكري الفعال في ميدان الصراع بين الأصالة الراسخة من جهة، وعمليات المسخ التي قام بها الاستعمار من جهة ثانية».

وبناء عليه فقد أصدر الفرنسيون خلال عام 1904م قانوناً يمنع أي معلم عربي أن يتعاطى مهنته إلا برخصة تحدد نشاطه وفق الشروط التالية:

  1. اقتصار التعليم على حفظ القرآن لا غير.
  2. عدم التعرض لتفسير الآيات التي تدعو إلى التحرر من الظلم والاستبداد.
  3. استبعاد دراسة التاريخ العربي الإسلامي، والتاريخ المحلي، وجغرافية الجزائر، والأقطار العربية الأخرى. وكذلك استبعاد دراسة الأدب العربي بجميع فنونه.

هذه العملية الاستعمارية جرت على مراحل وبواسطة أجهزة متعددة شارك فيها العديد من الباحثين والمستشرقين والمفكرين. والتي تمثلت في غلق كل الأبواب في أوجه الجزائريين حتى لا يتمكنوا من تعلم لغتهم. وفرنسة الإدارة، والاقتصاد، والتعليم. ومحاربة العقيدة الإسلامية وذلك بتحويل المساجد إلى كنائس وثكنات أو حتى اصطبلات. كما يورد محمد مضياف في المرجع السابق.

ففي إطار ما تسميه (السياسة اللغوية) يمينة زغيم في دراستها «السياسة الفرنسية في الجزائر وأبعادها ما بعد الكولونيالية» تقول: إن السياسة اللغوية بمفهومها الاستعماري فهي مجموعة الخيارات السياسية التي اعتمدتها السلطة المحتلة اتجاه لغة أو لغات البلد المحتل. وأن هذه السياسة جرت من خلال إطار الاندماج اللغوي بوصفهم «فرنسيين» وفقاً لعبد القادر حلوش في كتابه «سياسة فرنسا التعليمية في الجزائر» لكنه لم يطبق إلا المستوطنين الأوروبيين، أما الجزائريون فقد لقوا صنوف التعسف في تطبيقه.

ولتحقيق هذا الاندماج في مجال التعليم يذكر حلوش أن «المدرسة التي أردوا تطبيقها من رامبو، فيري، بورجوا، بوردو، كومب، وغيرهم من الجمهوريين الذين أولوا اهتماماً لتعليم الجزائريين هي مدرسة متطابقة ومشابهة لنموذج الفرنسيين في باريس هي التي فرضت تعليمها على الجزائريين محاولة تطبيقه بشتى الوسائل».

ويلاحظ وفقاً ليمينة زغيم أن نسبة قليلة من المتمدرسين الجزائريين قد انتسبوا إليها، وأنه توجيههم للتعليم المهني أكثر لإنتاج موارد بشرية يمكن استغلالها، وكذلك إنشاء مدارس ثنائية (فرنسية-عربية) لم يخصص فيها إلا حصص قليلة للعربية الدارجة.

ثم انتهج المحتل سياسة الفرنسة وفقاً لمبدأ «أن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا» ويذكر مموض أحمد نازلي في كتابه «التعريب والقومية العربية» أنه منذ عام 1892 عمد الاحتلال إلى اعتماد نظامين متوازيين للتعليم أحدهما فرنسي حديث يضم العناصر الفرنسية، والثاني وطني متخلف لا يشمل إلا نسبة قليلة من السكان.

كان التمييز هو السمة البارزة بين التلاميذ الجزائريين والأوروبيين، فغالباً لا يتم قبول إلا قلة قليلة منهم للحفاظ على تشكيل مجتمع متخلف لا يعي من الحضارة إلا «التفرنس». متبعاً تخطيطاً بعيد المدى متجذر كقيمة تنغمس في لا وعي الجماعات والشعوب إلى ما بعد الاحتلال.

واتبع الاحتلال أيضاً سياسة التنصير معتمداً في ذلك على التعليم التبشيري والذي «بدأ من سنة 1867م وانتهى سنة 1904م، والذي امتاز بانقسامه إلى نظامين متمايزين وهما، التعليم التبشيري العمومي، وثانيهما التعليم التبشيري الخاص». كما يذكر محمد الطاهر علي في كتابه « التعليم التبشيري في الجزائر من 1830 إلى 1904».

أما التعليم العمومي، فكان موجه للفرنسيين والمستوطنين الأجانب، والتعليم الخاص كان موجهاً للأهالي الجزائريين، بالدعوة إلى النصرانية، بشكل غير مباشر بدعم البرنامج بنصوص من الإنجيل، وحتى بشكل مباشر مخالفاً لقانون أساسي مدرسي فرنسي يطالب باحترام حرية المعتقد للتلاميذ وفقاً لمحمد الطاهر في المرجع السابق.

وتقول يمينة زغيم في دراستها، إن «ربط المحتل تمسيح الأهالي بالقضاء على الدين الإسلامي، وبالتالي القضاء على العربية، هذه الفكرة استمرت إلى ما بعد الاستقلال، عند بعض الرافضين للعربية، وربطها بالدين الإسلامي بالمفهوم الرجعي».

الحركة الإصلاحية 1922

يذكر عبد الرحمن سلامة في المرجع السابق ما يقدمه المؤرخ الفرنسي ألكسي دوتو كفيل Alexis de tocqueville من شهادة صريحة في تقريره عام 1847م قال فيه: «لقد استحوذنا على جميع الموارد (موارد المؤسسات الدينية التي كانت مخصصة لسد حاجات المعوزين وللتعليم العمومي) وصرنا نستعملها في غير ما كانت معدة إليه. لقد هدمنا المؤسسات الخيرية، وتركنا المدارس تندثر، وشتتنا الحاضر، لقد انطفأت الأنوار من حولنا وتوقف انتداب رجال الدين والقانون، ومع ذلك أننا صيرنا المجتمع الإسلامي أكثر بؤساً وجهلاً وبربرية، أكثر مما كان عليه قبل أن نعرفه».

يمكن القول، إن الشعب الجزائري واجه تحدياً حضارياً واجهه من دون فائدة لعدم تكافؤ العدة وتواصل الحروب وعدم الاستقرار على امتداد قرن كامل ما جعل نسبة الأمية ترتفع إلى 95%، و«في المقابل أنشأ المستعمر مدارس فرنسية لتعليم أبناء الجزائريين وهكذا بلغ عدد التلاميذ الجزائريين عام 1890 حوالى 10 آلاف تلميذ ثم ارتفع العدد إلى 47263 عام 1914 في الابتدائي، و84 في الثانوي و13 من حاملي الإجازات الجامعية الذين خيبوا ظن السياسة الفرنسية وبرزت نواة من المثقفين الجزائريين الذين ينادون بالحقوق الوطنية فظهرت حركة «الشبان الجزائريين» و«نجم شمال أفريقيا» التي لم تؤد رسالتها بسبب قمع قوات المحتل وحالت دون نشر أفكارها لأنها تشكل خطراً وجودياً عليه»، كما يورد عبد الرحمن سلامة في المرجع السابق.

في عام 1922م، دخلت الجزائر مرحلة جديدة في مقاومتها للاستعمار الفرنسي مع ولادة «جمعية العلماء المسلمين» برئاسة عبد الحميد بن باديس، وعبّر عن نهج بيت الشعر الشهير:

شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب

هذه المرحلة التي يصفها مالك بن نبي المفكر الجزائري المعروف في كتابه «شروط النهضة»، ويربطها بحركة التنوير والنهضة العربية، والتيار الإسلامي الحامل لها.

يقول ابن نبي: حوالى 1922، بدأت في الأرض هيمنة وحركة، وكان ذلك إعلاناً لنهار جديد، وبعثاً لحياة جديدة، فكانت الأصوات استمدت من صوت جمال الدين قوتها الباعثة، بل كأنها صدىً لصوته البعيد، وبدأت معجزة البعث يتدفق من كلمات (ابن باديس) فكانت تلك ساعة اليقظة.

كان شعار الجمعية «الإسلام ديني، والجزائر وطني»، في وقت بلغ اليأس تمامه بعد إعلان فرنسا بمناسبة مئوية احتلالها للجزائر سنة 1930م أن الجزائر قطعة من فرنسا الأم. يصف هنا عبد الرحمن سلامة في المرجع السابق عمل الجمعية التي أكّدت عروبة الجزائر، وكونه جزءًا لا يتجزأ من الأمة العربية حيث يقول:

لم تكن الجمعية تطرح نظريات حماسية وتعتمد الخطابات الرنانة بل اعتمدت العمل أسلوبًا وشرعت في تعليم الناشئة بفتح المدارس الشعبية والكتاتيب والمساجد أمام الأطفال لتعليمهم العربية وخططت لإرسال البعثات التعليمية إلى الخارج

ويضيف سلامة أنها «كوّنت نواة جديدة لمثقفين جزائريين ذوي كفاءات عالية ومسلحين بحب الوطن والإسلام».

اعتبرت الجمعية اللغة العربية عنصراً أساسياً في استرجاع الشخصية الوطنية، وأن الاستعمار لم يستطع القضاء عليها رغم كل محاولاته، وفي ذلك يقول البشير الإبراهيمي في المرجع السابق، وهو أحد أعضاء البارزين «أن اللغة العربية ليست عربية ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها….، لأنها دخلت هذا الوطن مع الإسلام على ألسنة الفاتحين بهذا الشمال الأفريقي».

ويضيف حول تركيز الجمعية جهودها لتعليم العربية «لغة الإسلام الرسمية، ومن ثم هي لغة المسلمين الدينية الرسمية، ولهذه اللغة على الأمة الجزائرية حقان أكيدان كل منهما يقتضي وجوب تعلمها…..، يحكم أن الأمة عربية الجنس، ففي المحافظة عليها محافظة على جنسية ودين معاً».

محاولات استعادة الهوية

بين عامي (1931-1954) بدأت مرحلة التعريب الحقيقي التي كانت لها انعكاساتها على الثورة التحريرية، يعود ذلك إلى الجهود التي بذلت من قبل رجال الحركة الإصلاحية، وجهود القوميين على اختلاف توجهاتهم في مجالات التعليم والإدارة والثقافة بشكل عام.

فرغم الحرب التي شنها الفرنسيون على العربية والناطقين بها، عرفت هذه الفترة تعليماً عربياً أشرف عليه جزائريون توجيهاً وتنفيذاً، وقف أمام التعليم الفرنسي الصرف، فأرسلت البعثات إلى تونس والمغرب والبلاد العربية ولعبت دوراً بارزاً في الإصرار على متابعة التجربة الوطنية وتحقيق التعريب بشتى الوسائل رغم ظروف الاضطهاد القاسية.

بعد الاستقلال تركزت جهود الدولة الجزائرية على السير بنهج التعريب في إطار عمل اللجنة الوطنية للتعريب تحت إشراف حزب جبهة التحرير الوطني، والتي يقول عبد الرحمن سلامة في المرجع السابق أنه «روعي في اختيار أعضائها من المثقفين الثوريين الملتزمين كل الالتزام بمبادئ الثورة وحزب جبهة التحرير الوطني».

بدأت الأجهزة المكلفة بالتربية والتعليم في جميع الوزارات بالشروع من سنة 1975-1976م، في حملة لتحويل الإطارات العلمية التي تمارس مهامها بالفرنسية إلى العربية. بعد تجاوز المرحلة الانتقالية وأزماتها التي عصفت بالبلاد بعد نجاح الثورة.

فتم تعريب كل مظاهر الحياة العامة ابتداءً من الأسرة بتجنب استعمال اللغة الفرنسية مع أبنائهم وأسر الجاليات في المهجر، إلى الشارع من أسماء الشوارع والمحلات وإزالة الأسماء ذات المدلول الاستعماري. وكذلك المؤسسات الإدارية والمراسلات الحكومية، والإعلام والتلفزة الوطنية بإصدار الصحف المجلات الناطقة بالعربية، وتشديد الرقابة على الصحافة الفرنسية والمطبوعات الأجنبية التي لا تلائم الشخصية الإسلامية الجزائرية كما يقول محمد مضياف في المرجع السابق.

أما الإطار الأهم، فكان التعليم، فمنذ عام 1962 اتخذت وزارة التربية قراراً يقضي باستعمال العربية في جميع مؤسساتها، وفي جميع مراحل التعليم وبنسبة ساعات سبع ساعات في الأسبوع، وقفز عدد المعلمين بالعربية إلى 10961 معلماً في عام 1965، وكذلك ووضعت المناهج والبرامج والكتب التي تمجد الثورة تفضح ممارسات الاحتلال.

بين التعريب والتغريب

في دراسة بعنوان «إشكالية اللغة العربية: جدل التعريب والتغريب في الجزائر- قراءة في فكر عبد الله شريط» المنشورة في العدد الثاني من مجلة (مقاربات فلسفية) 2021م، للباحثين خلدون يوسف وحمادي السايح، قالا إن الجدل النخبوي بين التعريب والتغريب يعود بجذوره إلى بدايات الاستقلال سنة 1962م، بخاصة في الجامعات، ولأسباب سياسية في الأساس.

فقد عمل التيار المؤيد للتعريب على توكيد الهوية الجزائرية في التعليم، ورفع شعار الثورة الاشتراكية، وضرورة الانفتاح على اللغة الإنكليزية كلغة علم، والتخلص من الوسيط الفرنسي ثقافياً. ويعتبر شريط الفرنسية إحدى أدوات التغريب، وأن النقاش الحاد بين دعاة التعريب ودعاة التغريب «لا يزال ساري المفعول إلى يومنا هذا، بل وتعدت جدالاته الأروقة الأكاديمية متجاوزة ذلك إلى بعض المؤسسات والفضاءات الأخرى للدولة على غرار الإعلام والصحافة، والمؤسسة التربوية، المجتمع المدني، وحتى بعض الأحزاب السياسية- رغم أن هذه الطروحات لا تتعدى عتبة الشعبوية والتسطيح لكونها متشبعة بالأيديولوجيا ومنهكة من الديماغوجية».

هذا النقاش الذي يصفه شريط بوصفه «نقاشاً بين طرفين لا يعلم أحدهما الآخر، أو نقاش الصم والبكم»، منتقداً المحسوبين على هذا النقاش بمختلف تياراتهم وتوجهاتهم ونزعاتهم سواء أكانت (تعريبية معربة) أو (تغريبية متفرنسة). وأن الاستعمار الفرنسي اعتمد على الطبقة المثقفة، واستهداف المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات، لتكوين نخبة تابعة له، متشبعة بالقيم الغربية، ومؤسسة لتيار فرانكوفوني تغلغل في الدولة العميقة للجزائر، فالجزائر مرتبطة بمعاهدات سرية وعلنية مع فرنسا تسمح لفرنسا من خلال هذه القوة الناعمة بممارسة سيطرتها على الحياة السياسية والثقافية للبلاد وفرض نفوذها.

ووفقاً لشريط دائماً، أن هذا اللوبي الداعم يمارس دوراً بما يمثله من سياسيين وتكنوقراط يرتبط بمصالحه مع فرنسا، وبالتالي يدافع عن مصالحها الاستعمارية. ويستعير الباحثان قول ابن خلدون في وصف عمل هذا «اللوبي» (إن المغلوب مولع أبداً في الاقتداء بالغالب بشعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده).

السياسة الفرنسية البربرية

تقول يمينة زغيم في دراستها سابقة الذكر، إنه «خص المحتل منطقة القبائل بسياسة لغوية أكثر صرامة في تنفيذ تخطيطها اللغوي، مسخراً كل الإمكانيات المادية والبشرية (المبشرين والجنود) لفرنسة المنطقة ودمجها وجعلها ركيزة لبسط سيطرته على باقي المناطق، منتهجاً سياسة التفرقة بين القبائل والعرب من منطلق إثني لغوي».

ويورد عبد القادر حلوش في المرجع السابق في وصف هذه السياسة التمزيقية قائلاً: «يوضح مسؤول دائرة تيزي وزو في رسالة وجهها إلى الحاكم العام في 1873 ذلك بقوله «لتعليم هذا الشعب القبائلي يجب إلغاء الوسيط العربي… لأنه كان ضاراً أكثر من كونه نافعاً، وبكلمة واحدة يجب أن نكلمه بلغتنا، أو تعليمه لغتنا…، أما فيما يخص الزوايا فيجب إسقاطها نهائياً وبجميع الوسائل من منطقة القبائل لاستبدالها بمدارس بلدية فرنسية».

بذلك وضع الفرنسيون تخطيطاً لغوياً لاستبدال العربية بالفرنسية من خلال القضاء على الوجود العربي في القبائل وإغلاق الزوايا والكتاتيب وتحريم التعليم العربي، ونشر التعليم بالأمازيغية إلى جانب الفرنسية، في ذلك يقول أحمد بوكوس في كتابه «مسار الأمازيغية الرهانات والاستراتيجيات» أنه «يعتبر الجنرال أدولف هانوتو (Adolphe Hanoteau) أفضل مثال من بين العسكريين المستمزغين، فقد اتخذت دراساته الوافية حول القبائلية (1858) والتاركية (1860) زمناً طويلاً نموذجاً لخلفه». وحجر أساس للنظرية القومية الأمازيغية التي حملها مثقفون جزائريون أمازيغ فيما بعد.

وهكذا سعت فرنسا لاجتثاث الفرد الجزائري من مكوناته الهوياتية التي امتزجت لقرون لتنشئ فرداً جزائرياً تجمعه هوية واحدة، لبناء فرد متعصب بريء من المكون العربي باعتباره دخيلاً يفضل الفرنسي بدلاً عنه. وهذا ما دفعت ثمنه الجزائر من خلال ما حدث من نزاع ثقافي سادته العصبية الانغلاق على الآخر.

صراع الهوية الازدواجية (عرباً وأمازيغ)

تعود جذور الحركة البربرية في الجزائر إلى سنوات حرب التحرير والتخلص من الاستعمار الفرنسي. وظهر أول وجود لها داخل حركة انتصار الحريات التي أسسها وقادها مصالي الحاج،عام 1949. ففي هذا العام، اجتمعت قيادات فرع الحركة في فرنسا لمناقشة قضية هوية الجزائر، وهل هي عربية مسلمة؟ وكشفت المناقشات أن الغالبية الساحقة (28 من أصل 32 عضواً) رفضت مبدأ أن الجزائر عربية إسلامية، وطالبت بشعار آخر يقول: إن الجزائر جزائرية فقط، ثم تكرر الخلاف حين رفض البربر المشاركة في حملة تبرعات من أجل فلسطين آنذاك وفقاً لعبد الرحمن سلامة في المرجع السابق.

وترتب على ذلك قيام مصالي الحاج بحملة إقصاء شاملة ألغى بموجبها الوجود البربري من الحركة. وحين ظهرت جبهة التحرير الوطني على حساب حركة انتصار الحريات حاز البربر في الجبهة مواقع قيادية، إلا أن احتواء الجبهة جغرافياً وسكانياً أعاد للعرب وحلفائهم الشاوية الهيمنة على قيادة الجبهة. ومنذ استقلال الجزائرعن فرنسا عام 1962 برزت ثلاثة تيارات في الجزائر.

الأول: التيار الإسلامي الذين هدف إلى أسلمة المجتمع والتخلص من الأفكار الشيوعية التي تبناها نظام الحكم الجديد،والثاني:التيار العروبي الذي شدد على ضرورة ترقية اللغة العربية واعتمادها في مؤسسات الدولة، والتخلص من اللغة الفرنسية باعتبارها تكريساً للاستعمار الثقافي. أما الثالث: فهو التيار البربري الأمازيغي الذي دعا إلى إدماج كامل للأمازيغية في مختلف مؤسسات الدولة بدعوى أنها لغة وطنية ورسمية، وانطلاقاً من كونها لبربرهم سكان البلاد الأصليين.

وتمثل الإطار الرسمي في إنشاء أحزاب تعبر عن مطالب البربر وطموحاتهم، وكان أبرز هذه الأحزاب حزب جبهة القوة الاشتراكية الذي أسسه حسين آيت أحمد، أحد مفجري الثورة الجزائرية ورئيس البرلمان الأول للدولة الجزائرية بعد الاستقلال، والذي التحق بالمعارضة لخلافه مع الرئيس أحمد بن بلة، وتزعم المعارضة ضد الحكم في الجزائر من الخارج كما يورد محمد مضياف في المرجع السابق.

المجاهد الجزائري حسين آيت أحمد
المجاهد الجزائري (حسين آيت أحمد)

ويتابع مضياف قائلاً «يرى آيت أحمد أن اللغة الأمازيغية من أقدم اللغات في منطقة البحر المتوسط التي بقيت محافظة على بقائها وأبجديتها، ورغم أنه أقل تعصبًا للمشروع الانفصالي، وأكثر تمسكا بالوحدة الوطنية الجزائرية، فإن الحزب الذي أسسه خرج من رحمه أكبر دعاة الأمازيغية المتطرفين، ومنهم سعيد سعدي الذي انشق عن جبهة القوةالاشتراكية، وأسس في فبرايرعام 1989 حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية. وقد تأسس الحزبان للمطالبة بالاعتراف بالهوية الأمازيغية».

كما تكونت جماعة الدراسات البربرية في جامعة باريس عام1973، وظهرت جماعة أكثر تطرفًا في عام 1978 ، هي اتحاد الشعب الأمازيغي التي نشرت مجلة سياسية تحت عنوان «الرابطة»، ويقوم برنامجها على معارضة التعريب القسري، والمطالبة بالاعتراف الرسمي باللهجة القبائلية كلغة رسمية أو على الأقل كلغة اختيارية في القبائل، والمطالبة بالديمقراطية ذات الطابع الغربي. ووصل هذا التطور إلى درجة الإعلان عن الحركة المسلحة البربرية إثر مقتل المطرب البربري المتطرف معطوب الوناس.

ويشير عبد الله بن شريط إلى ذلك بقوله: «إن المسألة الأمازيغية تظهر إلى السطح، وتتخذ الطابع السياسي عندما تضعف الدولة. وقد استغلت الأمازيغية الظروف الصعبة التي مرت بها الجزائر منذ أكتوبر 1988 ، وتفجر العنف إثر إلغاء الانتخابات البرلمانية عام 1991 والتي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في تحقيق العديد من المكاسب، وتسجيل النقاط لصالحها، إلى درجة التوصل إلى إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الأمازيغية لغة وطنية في الجزائر».