لم يعرف العرب في حروبهم سوى الخيل والجمال حتى رأوا بأعينهم أفيالًا في جيش أبرهة، الذي جاءهم لهدم الكعبة المشرفة بمكة، بعدما رفضوا الذهاب للحج إلى الكنيسة التي شيدها في اليمن، وخوفًا وتفاديًا من هذا الجيش، ذهب أهل مكة إلى أعالي الجبال والشعاب، ودخل أبرهة مكة في جيشه، وعندما وجِّه الفيل نحو الكعبة برك ولم يتحرك إليها، وكلما وجِّه إلى غيرها تحرك، وظل هكذا حتى أرسل الله (عز وجل) طيرًا يحمل كل منها حجرًا في منقاره ورجليه، وتلقيها على جيش أبرهة حتى هلكوا، وعاد أهل مكة إلى مساكنهم بجوار الكعبة، كما ذُكر في سيرة ابن هشام.

الفيل حديث العرب

ظل حادث الفيل قصة يتناقلها العرب فيما بينهم، حتى نزل عنها سورة في القرآن الكريم باسم سورة الفيل على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، في وقت كان بعض من عاصر الحادث على قيد الحياة، وقد أسلم بعضهم وهم: حكيم بن حزام، وحاطب بن عبد العزى، ونوفل بن معاوية.

يدل ما سبق على أن العرب في الجاهلية والإسلام عرفوا الأفيال كآلة حربية، وعرفوا أن هناك من روضها واستخدمها في الحرب، كما استطاعوا هم استخدام الخيول في حروبهم، لكن لعدم وجود الأفيال في الجزيرة العربية، لم يكن لديهم معرفة بها سوى ما تحمله قصة حادث الفيل.

الفيل في المدينة المنورة

في عهد أبي بكر الصديق (11-13 هـ) وقعت معركة ذات السلاسل بالعراق، سنة 12 هـ، بين جيش المسلمين وجيش الفرس، وفيها انتصر المسلمون بقيادة خالد بن الوليد، الذي أرسل الغنائم التي كانت تضم فيلًا إلى الخليفة في المدينة المنورة، وطافوا به – الفيل – في المدينة ليراه الناس، فقالت بعض النساء: أمن خلق الله ما نرى؟ فأمر أبو بكر الصديق بأن يرجع من حيث أتى حتى لا يفتن الناس، كما ذكر الطبري في كتابه «تاريخ الرسل والملوك».

في مواجهة الفيل

لكن كيف استطاع المسلمون أن يأسروا الفيل ويذهبوا به إلى المدينة ثم الرجوع به؟ ومتى تعلم العرب مهارات التعامل مع الفيلة؟ وللإجابة على هذه الأسئلة يجب أن تتعرف على «المثنى بن حارثة الشيباني» الذي نشأ في قبيلة عاشت بالقرب من حدود بلاد فارس، مما منح قبيلته خبرة واسعة في التعرف على دولة الفرس وجيشها، سواء في السلم أو الحرب.

فقد واجهت قبيلة بكر بن وائل، التي أحد بطونها بنو شيبان، جيش الفرس في معركة عُرفت بذي قار، وقد جاء جيش الفرس معهم الأفيل عليها الأساورة، كما ذكر «الطبري»، ورغم ذلك استطاعت قبيلة بكر الانتصار عليهم، وعرفوا مهارات قتالية جديدة في مواجهة الأفيال والسيطرة عليها وقتلها، وعن هذه المعركة قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): هذا أول يوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا.

ولخبرة المثنى بن حارثة في قتال الفرس، شارك في جميع المعارك التي واجه فيها المسلمون بقيادة خالد بن الوليد الفرس، حتى ارتحل ابن الوليد إلى بلاد الشام، فأصبحت قيادة الجنود في يد المثنى بن حارثة، سنة 13 هـ، وخلالها واجه جيش الفرس بقيادة هرمز جاذويه، في منطقة بابل، وصحب الفرس معهم فيلًا حاول أن يخترق صفوف المسلمين، لكن المثنى ومن معه الذين لديهم دراية في مواجهة الفيل استطاعوا أن يقتلوه، وهذا يؤكد مهارته القتالية في مواجهة الأفيال.

وقد مدح الفرزدق بطون بكر بن وائل في إحدى قصائده، وخصَّ المثنى وقتله للفيل ببيت فيها، فقال:

فضلتم بني شيبان فضلًا وسؤددا .. كما فضلت شيبان بكر بن وائل
غلبتم بذي قار، فما انفك أمرها .. إلى اليوم أمر الخاشع المتضائل
وبيت المثنى قاتل الفيل عَنوة .. ببابل إذا في فارس ملك بابل

الأفيال الفارسية في مواجهة الخيول العربية

وبحسب «الطبري»، أن أول ما فعله عمر بن الخطاب (13-23 هـ)، عندما أصبح أميرًا للمؤمنين، نادى في أهل المدينة لمحاربة الفرس، وكان حاضرًا المثنى بن حارثة، الذي جاء طالبًا العون لمواجهتهم، وحاول بحديثه أن ينزع الرهبة من قلوب المسلمين في المدينة حتى يقبلوا على مواجهة جيش الفرس، فقال: «يا أيها الناس، لا يعظمن عليكم هذا الوجه، فإنا قد تبحبحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقي السواد وشاطرناهم ونلنا منهم، واجترأ من قبلنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها».

ثم قال عمر بن الخطاب: «سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها … أين عباد الله الصالحون؟» فكان أول من بادر أبو عبيد بن مسعود الثقفي، ثم سعد بن عبيد، وسليط بن قيس، فلما اجتمع البعث، خص ابن الخطاب أبا عبيد بقيادة الجيش، وقد أمر المثنى بن حارثة بالسمع والطاعة له، كما ذكر البلاذري في كتابه «فتوح البلدان».

هكذا انتصرت الأفيال

يوم الجسر، هكذا ذكرت أول مواجهة بين جيش المسلمين بقيادة أبي عبيد وجيش الفرس، وذلك لقرار أبي عبيد بعدم البقاء في منطقة «المروحة» على ضفة نهر الفرات والعبور للجهة الأخرى لمواجهة جيش الفرس عند «قس الناطف»، ورفضه الاستماع إلى نُصح سليط بن قيس والمثنى بن حارثة، فوجد جيش المسلمين أنفسهم في منزل ضيق المطرد والمذهب، يصعب فيه القتال، وواجهوا مع جيش الفرس عدة فيلة واقتتلوا قتالًا شديدًا، لأن معظمهم لم يكن واجهها من قبل، واستطاع جنود الفرس أعلى الفيلة ضرب المسلمين بالسهام والنشاب، واختراق صفوف جيش المسلمين، فخافت خيولهم العربية من مواجهة الفيلة فترجل المسلمون من فوقها لمواجهة جنود الفرس على أرجلهم، فأصبحوا أدنى كثيرًا من الفيلة، التي بدأت تدهسهم بأرجلها الضخمة فقتلت وأصابت منهم الكثير، حتى قال أبو عبيد: أين مقتل هَذِهِ الدابة؟ فقيل خرطومه، كما ذكر «الطبري والبلاذري».

وفي تلك المعركة تعلم المسلمون فنون ومهارة التغلب على الأفيال؛ أولًا بإسقاط الفرسان من فوقها للأرض بقطع البطان الرابط للقباب أعلى الفيل، ثانيًا قطع خرطوم الفيل لكي يموت.

وهذا ما حاول فعله أبو عبيد والجنود الذين معه، وقد نجحوا في قطع بطان الفيلة بالمعركة، لكن عندما حاول أبو عبيد قطع خرطوم أحد الفيلة، لم يقدر وقتله الفيل، ففزع المسلمون من هذا المشهد، وعندما أصبح لواء الحرب في يد المثنى بن حارثة، بدأ في سحب الجنود وعبر الجسر عائدًا من حيث أتى، بعد أن رأى المعركة أصبحت في صالح الفرس، كما ذكر «الطبري».

رغم انتصار الفرس على المسلمين في هذه المعركة، فإنهم أصبحوا على دراية أكثر بكيفية مواجهة الأفيال، وبدأ من شارك في هذه المعركة ينقل المهارات التي اكتسبها إلى غيره من الجنود، بأن الفيلة يجب أولًا إسقاط الجنود أعلاها بقطع البطان، ثم محاولة جذب خرطوم الفيل وقطعه.

هزيمة الفيل

شهد جيش المسلمين وجيش الفرس مواجهة جديدة في منطقة «البويب» بالعراق، وفيها وضع الفرس الفيلة بالتساوي أمام صفوف الجنود الثلاثة، الميمنة والميسرة والقلب، وكان المثنى بن حارثة قائدًا لجيش المسلمين، الذي خاف لما رأى جيش الفرس، لكن ابن حارثة حفزهم، فقاتلوا حتى انتصروا على الفرس، وكانت فرصة لزيادة خبراتهم في مواجهة الأفيال والتصدي لها وهزيمتها، وكانت هذه البداية.

معركة القادسية وتساقط الأفيال

لخبرته العسكرية ودرايته بأرض العراق أصبح المثنى بن حارثة عامل الكوفة في عهد عمر بن الخطاب، وأخبره في إحدى الرسائل أن ملك الفرس يزدجر هيأ جيشه وزاد فيه العدد والعدة، لمواجهة المسلمين، مما دفع عمر بن الخطاب إلى إعداد جيش كبير بقيادة سعد بن أبي وقاص، وبعثه إلى العراق، سنة 15 هـ، فلما قدم استقر في منطقة العذيب، فأشار عليه المثنى بن حارثة أن يستقر بالجيش بينها وبين القادسية، ولم تمضِ أيام على هذا الأمر حتى اشتدَّ المرض على ابن حارثة فمات.

وأخذ ابن أبي وقاص برأي ابن حارثة، ونظم جيشه، وجعل في ميمنة الجيش عمرو بن معد يكرب وجرير بن عبد الله، لخبرتهما الكبيرة في مواجهة الأفيال، التي توقعوا أن توجد في جيش الفرس، وقد حضر قائدهم «رستم» إلى القادسية في جيش كبير، يضم 33 فيلًا، منها الفيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه، وكان أعظمها وأقدمها، بحسب ما ذكر «الطبري».

ويذكر الواقدي في كتابه «فتوح الشام» بالجزء الثاني، أن الفيلة كأنها جبال وعلى ظهورها الأبطال وقد أقبلت بالسيوف في خراطيمها، وقد كان للفرس اليد العليا في بداية المعركة، فدفعوا بمعظم جنودهم وأفيالهم نحو ميمنة جيش المسلمين للتخلص ممَّن لديهم خبرة ومهارة في مواجهة الأفيال، وقد استطاع الفرس اختراق صفوف المسلمين في هذا الجانب، وفزعت الخيول من الأفيال، مما استعدى ابن أبي وقاص لإجراء تغيرات في صفوف الجيش لمواجهة سلاح الأفيال، من خلال دعم الميمنة بقبيلة أسد وقائدها طلحة بن خويلد، وقد تمكنوا من منع الفيلة وقتل أحدها بقطع خرطومه.

يذكر «الطبري» أن سعدًا لما رأى أن الخيول والجنود غير قادرين على مواجهة الأفيال، أرسل إلى عاصم بن عمرو من بني تميم، وقد حضر معركة الجسر، فقال له: ألستم أصحاب الإبل والخيل، أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة، فقال: بلى، ونادى في قومه وجهزهم لمواجهة الفيلة، فكان الفريق الأول من الرماة لمهاجمة الفرسان أعلى الفيلة لقتلهم أو جبرهم على النزول من فوقها، أما الفريق الثاني فكانت مهمتهم قطع بطان الفيلة وإسقاط ما عليها من صناديق وفرسان، وقد استطاع عاصم وقواته نزع ما تحمله الفيلة، وقتل الفرسان التي كانت عليها، وكان هذا أول انتصار ضمن مواجهات المسلمين والفرس بالقادسية.

لما رأى جيش الفرس مهارات وقدرات جيش المسلمين في القتال ومواجهة الأفيال، لجئوا إلى تغيير أسلوبهم في الهجوم، فقرروا أن يزيدوا من الفرسان حول الفيلة لحمايتها، كما جعلوا الفيلة تهاجم فرادى وليس جماعات، لأن الفيل إذا كان وحده وليس معه أحد كان أوحش، مما جعل كل كتيبة في صفوف المسلمين مشغولة مع فيل في اليوم الثالث للمعركة، والمعروف بيوم عماس، كما ذكر «الطبري».

لم يكن الحظ حليف جيش المسلمين بسبب الأفيال، رغم ما لديهم من مهارات في مواجهاتها حتى سأل سعد بن أبي وقاص بعض الفرس الذين أسلموا، فقال: هل لها مقاتل؟،فقالوا: نعم المشافر والعيون لا يُنتفَع بها بعدها، فأرسل إلى القعقاع وعاصم بن عمرو، ليخبرهم بأن توجه الرماح والأسهم إلى أعين الفيلة، لشل حركتها، ثم قتلها.

وذكر «الطبري» أن القعقاع وعاصم بن عمرو استطاعا قتل الفيل سابور الأبيض، وكان هناك فيل آخر ضخم في جيش الفرس عُرف بالفيل الأجرب، حاول حمَّال والرَّبيل قتله لكن لم يقدرا إلا على طعن عينه فأصبح أعور، مما دفعه للفرار من أرض المعركة فاتبعته معظم الفيلة مخترقة صفوف جيش الفرس، فوصلت المدائن عليها التوابيت، وقد هلك من فيها.

ومع فرار الفيلة أصبح للمسلمين اليد العليا في المعركة، مما مكنهم من مواجهة الفرس والانتصار عليهم يوم القادسية.

وكان هذا الانتصار بداية لتحقيق انتصارات أخرى للمسلمين في بلاد الفرس، صاحبة سلاح الأفيال.