قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده

هذا الشعر لم يقله واحدٌ من فحول الشعراء كما اعتدنا أن نعرف كلما لفت انتباهنا بيتٌ شعري عربي، وإنما هو منسوب إلى عفاريت من الجن. لا ندري من قائله الحقيقي، ولكنه بالتأكيد شخص متورط في قتل الصحابي سعد بن عبادة، زعيم قبيلة الخزرج في يثرب.

في الأدب العربي هناك أشعار كثيرة معروفة بـ«شعر الجن»، رأى الدكتور طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» أنها منحولة، أي اخترعها بشر ونسبها للجن، ليُكسبها أهمية في نفسِ مَن يسمعها، ومن ثم تستخدم في تبرير أو بثِّ شيءٍ غير حقيقي كجرائم قتل، أو تمجيد شخص، أو إهانة آخر، أو الدعاية للدين أو لقبيلة أو نظام سياسي أو لمذهب معين.

في كتابه ذكر طه حسين بعض قصص مختصرة لهذه الأشعار، لكننا قررنا جمع المزيد عن هذه القصص بكل تفاصيلها، وتحديدًا تلك التي استُخدمت لأغراضٍ سياسية ودينية أو قبلية. ولا يخفى على أحد علاقة هذا الثالوث «الدين والقبيلة والسياسة» بالسيطرة والتأثير على الناس لصالح معتقد ديني أو حاكم أو قبيلة حاكمة لدى العرب، وهو ما نلقي الضوء عليه فيما يلي.

قبل الإسلام وبعده

حضور الجن في الذهنية العربية سابق على الإسلام، وكان العرب يعتقدون في أفعاله الخارقة، ومن ذلك مثلاً إيمانهم بأنه (الجن) باني مدينة تدمر بأمر النبي سليمان، وفي ذلك قال النابغة الذبياني، أحد أشهر شعراء العرب قبل الإسلام:

إلا سليمان إذ قال الإله له … قم في البرية فاحدوها عن الفَنَدِ
وخَيِّس الجن إني قد أذنت لهم … يبنون تدمر بالصفاح والعمد

أما عن استغلال الجن لتبرير حادثة ما، أو توظيف الاعتقاد فيه لدى عرب قريش لصالح شيء مزيف -قبل دخول قريش الإسلام- فواحدة من أقدم قصصه هو ما حدث حين قُتل عمارة بن الوليد (أخو خالد بن الوليد) بوشايةٍ من عمرو بن العاص.

يحكي ابن إسحاق في «المغازي»، أن عمارة وعمرًا ذهبا إلى النجاشي ملك الحبشة، كرسولين من قريش له، يُطالبانه بتسليم المسلمين الذين هاجروا إليه ليحتموا به، وخلال الرحلة سكر الرجلان وراوَد عمارة زوجة ابن العاص عن نفسها، وحاول إغراقه في البحر لكنّه فشل في ذلك.

أراد عمرو الانتقام من عمارة فوشى به عند النجاشي، وأخبره أنه (عمارة) يُغازل زوجته (امرأة النجاشي) فأمر ملك الحبشة بقتل عمارة، وعندما عاد عمرو إلى بلاده أخبر القريشيين أن الجن نفخت في دبر عمارة فهام على نفسه في الصحراء، ومات مريضًا بأرض الحبشة.

اختلفت المصادر الإسلامية حول النهاية الحقيقية لعمارة، فزعم ابن إسحق أن عمارة أسلم وظلَّ حيًا حتى مات حين عثر عليه المسلمون في أرض الحبشة بعد سنوات، وذلك لأن الجن قالوا إن قدره أن يظلَّ هائمًا وإن أُمْسِك مات، وهو الرأي الذي خالفه فيه الإمام حجر العسقلاني في كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة»، بقوله إن الصحيح هو موته كافرًا، ولكن الأكيد أن ابن العاص عاد إلى مكة بدونه.

وبغضِّ النظر عن هذا الاختلاف التاريخي في «نهاية عمارة» إلا أنه يكشفُ عن واحدة من أقدم حالات «استغلال الجن» عند العرب، فعمرو بن العاص لم يكن ليدخل نفسه في ثأر مع قريش إذا قال إنه مات بسبب وشايته له عند النجاشي، فاستعان فورًا بالحلِّ الخوارقي للنجاة من هذا المهرب، وطالما أن أسطورة الجن موجودة فكل شيء ممكن!

سعد بن عبادة قتيل الجن

اشتهر سعد بن عبادة بموقفه الصلب الرافض لبيعة أبي بكر، وحين أرسلوا له ليبايعه قال: «أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب سنان رمحي، وأيم الله ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما في حسابي»، وظل منزويًا على نفسه لفترة مقاطعًا قريش، ثم خرج من المدينة مهاجرًا إلى الشام، وقُتل بحوران في بدايات خلافة عمر بن الخطاب، حسبما يذكر الطبري في تاريخه.

الرواية الشائعة الموجودة في عددٍ من كتب السيرة، كتاريخ دمشق لابن عساكر، تقول إنه مات بعد عامين ونصف من خلافة عمر، وعلموا بمقتله عن طريق غلمان أتوا إلى بئر ماء فسمعوا الجن ينادي من البئر ببيتي الشعر آنفي الذِكر:

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده

وفي نفس اليوم عثروا على سعد مقتولاً، والقاتل لم يكن مجهولاً، وإنما هو عفريت من الجن اعترف بذلك صراحة عبْر أشعاره التي ملأت كتب التراث وتلوثت يداه بدماء أول معارض في الإسلام!

بعض الروايات -غير الشائعة لدى أهل السنة- قالت صراحة إن عمر بن الخطاب هو الذي أمر بقتله، لأنه (سعد) يرفض مبايعة أي قرشي بالخلافة، حسبما ذكر ابن عبد ربه (توفي في 328 هـ – 940 م) في «العقد الفريد».

وأورد ابن عبد ربه رواية تقول إن عمرًا بعث برجلٍ إلى الشام يدعو سعدًا لمبايعته بالحكم، وأوصاه إن رَفَض بأن «يستعن بالله عليه». وحين ذهب الرجل إلى حوران ليدعوه إلى بيعة عمر قال له سعد: لا أبايع قرشيًا أبدًا. قال الرجل: فإني أقاتلك. قال: وإن قاتلتني! فقتله الرجل رميًا بسهم.

نفس الرواية كان البلاذري (تُوفي 279 هـ – 892م) رواها في كتابه «فتوح البلدان»، ولكن بتفصيلٍ أكبر، فقال، صراحةً، إن من قتلاه هما خالد بن الوليد، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وهي رواية يتبناها الشيعة، ويشكك فيها مشايخ السنة ويعتمدون في أغلب الأحيان على رواية الجن.

الجن يبكي على عمر بن الخطاب

مما نُحِل أيضًا للجن من أشعار، ما نُسب للسيدة عائشة زوجة النبي، من أن الجن بكى على عمر بن الخطاب، عقب طعنه وهو يحتضر، فأنشد الجن:

أبعد قتيل بالمدينة أظلمت .. له الأرض تهتز الغضاة بأسوق
جزى الله خيرًا من أمير وباركت .. يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة .. ليدرك ما حاولت بالأمس يُسبَق
قضيت أمورًا ثم غادرت بعدها .. بوائق في أكمامها لم تفتق

وجاء في «شرح ديوان الحماسة» ليحيي التبريزي، أبوزكريا (توفي 502 هـ)، أن عائشة قالت: ناحت الجن على عمر قبل أن يُقتل بثلاث، وأنشدت هذه الأبيات ولكنها لم تكن متأكدة من هذا الهاتف الذي يصيح، فسألت عائشة بعض الناس ليعرفوا مَن الذي قال هذا الشعر، فذهبوا نحو مصدر الصوت فلم يجدوا أحدًا، فقالت عائشة: فوالله إني لأحسبه من الجن!

وهنا يتمسّك التبريزي بمبدأ «شاعرية الجن» ويرفضُ نحْل الأبيات عليها من أي إنسان، فيؤكد أن الجن هو الشاعر الحقيقي، وأن الرواة نسبوا الأبيات لشعراء من البشر، وهم الشماخ بن ضرار، ولبيد، وأبي ذؤيب.

نفس الأشعار رويت منسوبة للتابعي ابن أبي مليكة (توفي 117هـ) وليس لعائشة وقيل إن الجن هو منشدها، بحسب كتاب الشريعة للإمام الآجري (توفي 360هـ)، في باب «فضائل أمير المؤمنين عمر».

الجن يقتل أعداء النبي ويلقي شعرًا تأييدا له

هناك حشد كبير من القصص التي تحكي عن إخلاص بعض الجان للإسلام ونبيه وإيمانهم به وقتلهم من يعاديه، وإلقائهم شعرًا في ذلك، ومنها ما رواه ابن إسحاق في «المغازي»، أن هاتفًا من الجن اسمه «مِسْعَر» هتف على جبل أبي قبيس في مكة بستة أبيات من الشعر قبل بعثة النبي، يُمجِّد أوثان الكفار، ويشتم النبي، وبعد ثلاثة أيام سمعوا هاتفًا آخر على نفس الجبل يقول:

نحن قتلنا في ثلاثٍ مِسْعَرا إذْ سفّه الحقّ وسنّ المنكرَ
قنّعته سيفًا حُسامًا مبترا بِشَتْمِهِ نبينا المطهّرَ

وعقَّب النبي على ذلك – وفقا لابن إسحق- وقال: «هذا عفريت من الجنّ اسمه سمحج، آمَن بي وسمّيته عبد الله. أخبرني أنه كان في طلبه ثلاثة أيام، بعد قصيدته التي شتم فيها رسول الله، حتى قتله غضبًا لله وحميةً لدينه، ودفاعًا عن رسول الله».

الجن يتدخل في الصراع بين السنة والشيعة

استخدم الجن أيضا في الدعاية للشيعة ضد أعدائهم التقليديين؛ أهل السُنة، حتى أنهم جعلوه راويًا لأحاديث عن النبي تأييدًا لهم.

ومن ذلك ما حكاه دعبل بن علي (148 هـ : 246هـ) عن هروبه من الخليفة العباسي – المأمون على الأرجح- وبياته ليلة في نيسابور وحده، و في تلك الليلة عزم على إنشاء قصيدة هجاء في عبدالله بن طاهر، الوالي العباسي في عهد المأمون على خراسان، وكان دعبل شاعرا شيعيًا هَجّاءً، يُناصر خلافة أحفاد علي بن أبي طالب، ضد العباسيين.

وفقًا لـ«أغاني الأصفهاني»، دخل على دعبل شخص غريب، فخاف واقشعر بدنه، فقال له الشخص المُرعب: لا تُرَع (تخاف) عافاك الله، فإني رجل من إخوانك الجن، من ساكني اليمن، ثم قال له «ألا أحدثك حديثًا يزيد في نيتك ويعينك على التمسك بمذهبك؟»، ثم أخبر دعبل بأنه سمع حديثًا عن النبي يقول فيه: «عليّ وشيعته هم الفائزون». ثم ودَّعه وانصرف، فسأله دعبل عن اسمه فقال: ظبيان بن عامر. وظبيان شهير عند الشيعة كجني متشيع، وراوٍ للحديث النبوي!

الجن يحارب جد الأمويين الموحِّد

بعض روايات حادثة مقتل حرب بن أمية، على يد الجن، تكشف لنا محاولات من الرواة في العهود الإسلامية لإكساب رجل اشتهر بعدائه لعبد المطلب جد النبي بعض التعاطف، ولا تخفَى أبدًا الرسالة السياسية وراء ذلك؛ فحرب هو جد معاوية بن أبي سفيان وكل بني أمية الذين توارثوا الحكم من بعده، بعد صراع مع علي بن أبي طالب، حفيد عبد المطلب.

ذكر السهيلي في كتابه «التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن الكريم من اسماء الأعلام»، وكذلك ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية»، قصة مفادها أن حرب بن أمية كان وجماعة معه في سفر يمرُّون بالصحراء فتعرّضت لهم امرأة من الجان أكثر من مرة وخافوا منها أن تؤذيهم، ثم مرُّوا على شيخٍ من الجن يشعل نارًا، فحكى له حرب عما حصل لهم، فقال: إذا جاءتكم (الجنية) فاصرخ في وجهها وقل: «باسمك اللهم»، وهي النصيحة التي التزم بها حرب حتى شُردت الجنية، وانتقامًا منه على فِعلته قتله الجن، وأنشدوا: (وقَبرُ حَربٍ بمكانٍ قَفرٍ … ولَيسَ قُربَ قَبرِ حَربٍ قَبرُ).

وعلى الرغم من الشيوع التاريخي لتصنيف الشاعر الحَنفَي المُوحِّد أمية بن أبي السلط بأنه أول من قال «بِاسمك اللهم» بين العرب، فإن هذه الرواية القديمة تسحب هذا المجد من ابن أبي السلط وتنسبه للشجرة الأموية ممثلة في حرب بن أمية مستعينة بقصته مع الجن.

وبهذا فإن هذه القصة القديمة، التي ظهرت لأول مرة تحت المعية الأموية في كتاب «تاريخ ابن إسحق»، جعلت من حرب أسبق العرب إلى عقيدة التوحيد قبل الحنفاء وقبل الرسول نفسه!

المثير للدهشة، أننا نمتلك رواية أخرى في كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، الذي صدر في عهد الدولة العباسية، تحكي عن «وفاة عادية» لحرب بن أمية، فتقول إن حربًا كان عائدًا من حرب عكاظ ومعه مرداس بن أبي عامر، فمرَّا بأرض بها شجر كثيف كالغابة، فأرادا الاستيلاء على هذه الأرض ويتشاركا في ملكيتها ويستصلحاها للزراعة، وخلال ذلك خرجت عليهما ثعابين (حيات)، فقتلت حربًا.

وبالرغم من وجود هاتين الروايتين، تم تبني القصة الأولى وتوظيفها سياسيًّا لصالح بني أمية، الذين كانوا بمثابة حزب يتصارع على السلطة مع حزب بني هاشم (آل البيت)، فحُرِّفت حكاية الحية التي وصلت ابن كثير والسهيلي وغيرهما، لتصير جنا وينسج لها سياق آخر يخدم جد بني أمية كرامةً لخلفاء المُسلمين الجُدد (الأمويون) الذين سعوا بكل الوسائل لغرس مهابتهم في نفوس الناس، فيما استكملت رواية (الأغاني/العباسية) جهود أحفاد العباس الحثيثة لانتزاع أي مكرمة أموية من نفوس الناس، وطالما أن الأساطير موجودة فكل شيء ممكن!