في منتصف القرن الخامس الهجري وتحديداً من بغداد، بدأ الوزير السلجوقي نظام الملك في تأسيس المدرسة النظامية تحت رعاية الخليفة العباسي القائم بأمر الله، أرسل إلى بدر الجمالي وزير مصر الفاطمي في ذلك التوقيت، يطلب منه شيئاً غريباً؛ سأله نقل رفات الإمام الشافعي من القاهرة لبغداد ليضعها في ساحة المدرسة النظامية، وافق بدر الجمالي في بداية الأمر إلا أنه تراجع عن الفكرة عندما احتج عليه المصريون الملتفون حول الإمام وضريحه.

في هذه الأيام، كان السلاجقة يعيشون أيام مجدهم، بعد ما دخلوا بغداد وأخذوها من يدي البويهيين، وهو ما جعل لمكانة الوزير السلجوقي أهمية مُعتبرة في بلاط الخليفة، وكانت لا تُرد له كلمة.

تبنّى الوزير نظام الملك محاربة الفكر الشيعي المنتشر في العالم الإسلامي، وإعادة إحياء المذهب السني الآخذ في التآكل تدريجياً، ولذلك الغرض أسّس مدرسته المدرسة النظامية في بغداد لتحقيق ذلك الغرض، وهو محاربة الفكر الشيعي عبر نشر مذهبية فقهية تتمثل في المذهب الشافعي ومذهبية عقدية تتمثل في المذهب الأشعري.

ما قبل الاستفاقة السلجوقية

قبل دخول البويهيين بغداد وإعلان وزارة نظام الملك السلجوقي عاش العراق أوضاعاً غاية في الاضطراب. يقول المستشرق «هنري لاؤوست Henri Laoust» في بحثه الاضطرابات الدينية في بغداد في القرنين الرابع والخامس الهجريين:

الاضطرابات المتزايدة التي هزت أركان المدينة العراقية الكبرة، مقرِّ الخلافة، كانت قد بلغت من الكُره حداً لا يَسوغ معه أن تُعدَّ حوادث محلية يسيرة، فقد استعرت نارها واستحالت مواجهاتٍ شعبية عنيفة، ومشاجراتٍ بين المتكلمين والفقهاء

أصبح للشيعة الغلبة في حُكم العالم الإسلامي؛ سيطر الفاطميون على مصر والشام وأجزاء كبيرة من المغرب العربي، وسيطر البويهيون على الخلافة العباسية هي الأخرى، بعد ما دخلوا بغداد عام 334هـ ولم يخرجوا منها إلا بقدوم السلاجقة عام 447هـ.

لم تكن سيطرة البويهيين سياسية وحسب بل سيطرة دينية كذلك، وهو ما أدّى إلى حدوث اضطرابات دينية ومذهبية كثيرة، وفتن واقتتال كبيرين بين السُنة والشيعة.

أشهر تلك الحوادث، حين قع سنة 398هـ، قتال بين سُنة بغداد وشيعتها يتعلق بمصحف ابن مسعود الذي يميل إليه الشيعة، ورغبتهم في عدم قراءة القرآن وفقًا للمصحف العثماني؛ وقتها تواجدت قراءتان للقرآن؛ مصحف يتعلق بالشيعة ويُسمّى مصحف ابن مسعود، والمصحف العثماني، فكان الشيعة يحتجون على مصحف عثمان دائماً، معتبرين أن رواية ابن مسعود هي الأصح، وقد تصاعدت الأمور – في ظروف غامضة- بنهب مسجد الشيعة في براثا، وبالتهجم مراراً على أبرز فقيهين شافعيين القاضي أبي محمد الأكفاني، والشيخ أبي حامد الإسفرائيني.

وفي ظل هذه الظروف المضطربة، سعت حركة نظام الملك، فور توليه السُلطة في بغداد، إلى مقاومة الانتشار الكبير للتشيع عبر بثِّ الروح من جديد في الجسد السُني، وذلك من خلال إعادة تنظيم صفوفه، وتوحيده على عقيدة واحدة بدلاً من حالة التناحر التي مزّقت الأمة السُنية لعقود وكادت تقودها للفناء.

إعادة اكتشاف الإمام الشافعي

اعتمدت الحركة السلجوقية فِكر الإمام الشافعي كحجر زاوية فقهي لخطة إعادة الانتشار الجديد، اختُير الشافعي لهذه المهمة تحديدًا، بسبب جهود الفقيه الشافعي البارز أبي حامد الغزالي، الذي ساند الحركة فور انطلاقها ودعّمها بكل ما يملك.

أما من الناحية العقدية، فلقد وقع الاختيار على المذهب الأشعري، دون غيره، ليُشكل بصحبة المذهب الشافعي ثنائية جديدة على العالم الإسلام، جعلهما السلاجقة رأس حربة معركتهما الحاسمة للإبقاء على السُنة.

في كتابه «القاهرة: مدينة الفن والتجارة»، يقول المستشرق «جاستون فييت Gaston Wiet»، إن عملية إعادة إحياء المذهب السُني استعانت، تحديدًا، بالمذهب الأشعري لمقاومة الفكر الشيعي، بسبب تأثر أفكاره بأرسطو، واكتسابها طابعًا صارمًا لا يقبل المناقشة، وهو رأي جانبه فيه الصواب، فهناك العديد من العوامل الأخرى التي شجعت على هذا الاختيار.

فلقد جرت عملية استبعاد دقيقة لأغلب المذاهب الأخرى لعدم ملاءمتها للظرف التاريخي أو الهدف الدعوي المطلوب.

فمثلاً: ارتبط مذهب الأحناف بحركة الاعتزال، والتي تبنتها نظم عباسية سابقة حكمت قبل الوزير السلجوقي، ولم تنجح في مقاومة الفكر الشيعي.

كذلك استُبعد المذهب الحنبلي فقهاً وعقيدة، بسبب ذيوع شهرة الحنابلة في بغداد بالتجسيم كمذهب عقدي مبتدع، وكذلك بروح التشدد التي لازمته في أمور العقيدة واتهامه الدائم لمخالفيه بالكفر تارة وبالابتداع تارة أخرى. وعلاوة على ذلك، فإن رصيد الإمام أحمد بن حنبل في الفقه كان ضعيفاً مقارنةً بالشافعي ومذهبه.

ولهذا اعتُبر أن المذهب الحنبلي لا يتواءم مع حركة تدعو في الأساس إلى توحيد الصفوف.

لذلك كان من البديهي أن تُخصّص وقفية المدرسة النظامية لتدريس الفقه الشافعي والمذهب الأشعري في العقيدة إضافة إلى مذهب الصوفية في السلوك والمواعظ، وهو ما يلاحظ على أشهر رموزها كالإمام الجويني والشيرازي.

تبنّت الدولة، رسمياً، هذين المذهبين، وخرجت العديد من الرسائل عن الوزير نظام الملك، تنقل دعمه الكبير للمذهب الشافعي والأشعري في ثنائيتهما، متهماً باقي المذاهب العقدية والفقهيه بالبدع تارة وبعدم ملاءمتها لما يسير في بغداد تارة أخرى، منها ما أرسله إلى فخر الدولة أحد وزراء نظام الملك في البلاط السلجوقي، والتي دافع فيها عن المدرسة النظامية مظهراً إيثاره للشافعية.

دولة أمير المؤمنين السنية

لاقت تلك الحركة نجاحاً كبيراً، واستوعبت كل الانقسامات في المجتمع العباسي في العراق، ومنها انتشرت الفكرة إلى بلاد الشام التي تبنتها عائلة زنكي، وأشهرهم الملك العادل نور الدين زنكي الذي حكم أغلب الشام بعد ما طرد أغلب الصليبيين فيها.

عمل نور زنكي على إحياء الخلافة العباسية السنية، وسار على نهج نظام الملك في دمشق بأن أقام المدارس الشافعية كالمدرسة النورية والمدرسة العصرونية والمدرسة الشعيبية، وتلك كانت مدارس أنشأها في حلب ودمشق، وعمل على إبعاد الشيعة من الشام، ثم هو الذي أوعز إلى صلاح الدين بإسقاط الخلافة الفاطمية في مصر.

تأثر صلاح الدين بتلك الحركة، بسبب نشأته في كنف أبرز معتنقيها، وهما: عماد الدين زنكي وابنه نور الدين. ولهذا بدأ في تنفيذها على الفور عند دخوله لمصر وإسقاطه الحكم الفاطمي.

أقام صلاح الدين المدرسة الناصرية أو الصلاحية بجانب قبر الإمام الشافعي بنفس النمط النظامي، واشترط هو الآخر في وقفية المدرسة تدريس الفقه الشافعي والعقيدة الأشعرية، وهو ما يُلاحظ من خلال النص التأسيسي لتلك المدرسة، القائل:

أدام الله توفيقه لفقهاء أصحاب الشافعي، رضوان الله عليه، الموصوفين بالأصولية الموحدة الأشعرية على الحشوية وغيرهم من المبتدعة

هذا النص التأسيسي للمدرسة الشافعية الأشعرية جديد على العمارة الدينية، حيث يؤرخ للمذهبية الشافعية التي لازمت الأشعرية بتعبير عربي شهير عن اشتقاق كلمة «الموصوفين» الحتمي من فِعل «وَصَفَ»، كأن الشافعي لا يكون شافعياً إلا إذا اتصف بكونه أشعرياً، مثلما كان حتمياً اشتقاق الفاعل «موصوف» من الفِعل «وَصَف»، كنتيجة فعّالة للمنهج الذي وضعه نظام الملك مع الغزالي ورواد المدرسة النظامية، على ملازمة الشافعية للأشاعرة.

الملفت للانتباه في هذا النص التأسيسي أنه كتب بخط النسخ وليس بالخط الكوفي السائد في مصر في العصر الفاطمي، ففي إطار حرب الدولة السُنية الجديدة على كل ما هو شيعي/ فاطمي، امتنعت عن استعمال الخط الكوفي الذي أتقنه الفاطميون حتى سُمِّي بِاسمهم، وصدرت الأوامر «السُنية» بالتحوّل إلى الخط النسخي.

كلّف هذا التحول المفاجئ الخطاطين التخلي عن خطٍّ اعتادوا عليه وأتقنوه لصالح خطٍّ آخر لم يألفوه بعد، وهو ما انعكس في قِلة جودة النصوص التأسيسية/ النسخية/ الصلاحية/ السُنية الأولى.

وتزامن هذا التحوّل الخطي مع وسم صلاح الدين بألقاب ذات واقع عقدي قِح، مثل «محيي دولة أمير المؤمنين –السنية» تلك العبارة المكتوبة على النص التأسيسي لباب المدرج بقلعة صلاح الدين.

ومن هنا بدأت حركة إعادة إحياء المذهب السني برعاية الدولة ممثلة في صلاح الدين الأيوبي ومدارسه، لتكون أكثر فعالية من المحاولات المحدودة التي ظهرت سابقًا في الإسكندرية لـ«تسنين المصريين»، لم تكن برعاية الدولة وإنما فقط بمجهود ذاتي من أئمة كأبي طاهر السلفي، وغيره من فقهاء السُنة الذين أقاموا العديد من المدارس التي كانت تدرس المذاهب الفقهية المختلفة، ومنها المذهب الأشعري؛ تأثراً بحركة نظام الملك.

نشأت هذه المدارس في ظِل سُلطة الدولة الفاطمية، لكنها كانت محدودة الأثر، ولم تصل أصداؤها إلا إلى مناطق صغيرة في مصر، لكنها تلقت دعماً كبيراً من صلاح الدين –في وقتٍ مُبكر-، حتى أنها زارها بنفسه خلال فترة قيادته جهود الدفاع عنها ضد الصليبيين، وهي المهمة التي استعان لأجلها الخليفة الفاطمي بنور الدين زنكي وأسد الدين شيركوه وصلاح الدين.

وبخلاف هذه المدارس، اتّخذ صلاح الدين العديد من الإجراءات التي قلّصت الوجود الشيعي في مصر حتى قضت عليه؛ فسعى لتقليص نفوذ دعاة المذهب الشيعي الدينية والسياسية، وعزل قضاته وألغى مجالس الدعوة إليه، كما ضيّق الخناق على حاشية الخليفة الفاطمي في القصر، فحبس الخليفة في القصر عن رسوم الخلافة، وقبض على أمراء الجيش.

ويذكر المقريزي في كتاب «اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا»، أن صلاح الدين أبطل الأذان «حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر»، ويعلق بأن هذه أول وصمة دخلت على الدولة، وأمر صلاح الدين بأن يذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي.

ووفقًا لكتاب «القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني العسقلاني» لهادية دجاني، فإن القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين، كشف أن الأيوبي أمر خطيب الجمعة بأن يذكر العاضد الخليفة الفاطمي في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشيعة، أي يقول: «اللهم أصلح العاضد لدينك».

بعدها عزل صلاح القضاة الشيعة ثم استعان بالفقهاء الشافعية في عموم البلاد، وفي بداية سنة 567 هجرياً، قطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين، معلناً انتهاء صلتهم بحُكم مصر بشكلٍ نهائي.

المراجع
  1. ابن الأثير، الكامل في التاريخ
  2. ابن شداد، النوادر السلطانية
  3. أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال
  4. تقي الدين المقريزي، اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء
  5. تقي الدين المقريزي، الخطط والمواعظ
  6. صلاح الدين، عبد الرحمن عزام
  7. القاهرة مدينة الفن والتجارة، جاستون فييت
  8. الاضطرابات الدينية في بغداد في القرنين ( الرابع والخامس الهجريين )، تأليف أُنري لاؤوست ترجمة أسامة شفيع السيد
  9. Tabbaa, The Transformation of Islamic Art During the Sunni revival