منذ عزز محمد علي قبضته في حكم مصر، انتقل تفكيره إلى بناء اقتصاد حديث يقوم على الصناعة والتبادل التجاري مع أوروبا، لهذا الغرض استقدم الأجانب في دعم خطته الاقتصادية، وترأسوا المناصب الإدارية والعمل في المصانع، شجعت تلك السياسة الأجانب على الوفود لمصر، بعدما كان وجودهم اقتصاديًا قبل ذلك مقتصر على دور الوكالة للشركات والمصدرين الأوروبيين لمصر، فعندما دخلت الحملة الفرنسية مصر في عام 1798 كان معها أقل من مئة أوروبي أغلبهم عملوا تجارًا في الإسكندرية ودمياط، حتى وصلوا في عام 1843 إلى 6110 أوروبيين من مختلف البلدان، وفي عام 1837 ضمت الإسكندرية أكثر من سبعين شركة تجارية أجنبية، في وقت كانت تبحث الدول الأوروبية عقب الثورة الصناعية على أسواق جديدة لمنتجاتها.

الوضع تغير مؤقتًا مع تولي عباس حلمي الأول الحكم، فقد عمد إلى وقف السيطرة الأجنبية في مصر، وبصفة خاصة النفوذ الفرنسي في مصر، لذلك طرد عدداً من الفرنسيين العاملين في الصناعة. رجوع الأجانب للاقتصاد المصري عاد مع وفاة عباس حلمي الأول حتى بلغوا 80000 في عام 1865، تلك الزيادة الكبيرة ارتبطت بالنشاط الاقتصادي الذي حدث في مصر مع بدء مشروع حفر قناة السويس، إضافة إلى رواج القطن المصري وتصديره عالميًا تزامنًا مع الحرب الأهلية في أمريكا التي أوقفت نشاط القطن الأمريكي فانفرد نظيره المصري بالسوق العالمي.

خلال تلك الحقبة تمتّع الأجانب بالإعفاء من الضرائب، والحصانة القضائية مستفيدين من الامتيازات الأجنبية التي كانت تمنحها الدولة العثمانية لرعايا الدول الأجنبية في ولاياتها ومنها مصر بمقتضى اتفاقيات بينها وبين الدول الأوروبية.

كان عصر الخديوي سعيد زاهرًا لتدخل الأجانب في الاقتصاد، حيث وفر لهم الحرية في إقامة الشركات وبيوت المال التي تخصصت في توفير قروض المشروعات الحكومية، ولما جاء الخديوي إسماعيل إلى الحكم طمع في تحويل مصر لقطعة أوروبية، توسعت الحكومة في الاقتراض من هذه البنوك، وازدادت تلك البنوك في الانتشار في مصر.

ولذلك أنشأت بعض البنوك الأوروبية أفرع لها في مصر، كي تتصيد الفرص التي وفرتها لهم مشروعات الخديوي، كما كان دور بيوت الرهن العقاري تشجيع الفلاحين المصريين على الاقتراض منها مقابل رهن أراضيهم الزراعية ولقد قامت هذه البنوك وغيرها بتزويد الحكومة بما تحتاج إليه من المال، وارتبطت مع أوروبا بعلاقات مالية، ولا سيما مع البيوت المالية في باريس ولندن.

وساعد على تقوية تلك العلاقات دور البنوك في إيصال أرباح الديون إلى الخارج، كما ظهرت المصارف الزراعية التي سعت للحصول على امتياز إصلاح الأراض البور وظهرت أيضًا وكالات تجارية وصناعية، مثل شركات السجائر التي استفادت من تدفق تجارة التبغ مع تركيا دون رسوم جمركية، ففي أواخر ذلك العهد برزت أسماء تجار ورجال بنوك أجانب ويهود أسسوا مشروعات خاصة ووضعوا أيديهم على جزء كبير من الثروة، وكان لليهود الذين زادت هجرتهم إلى مصر كل الامتيازات الأجنبية، وارتفع عددهم من تسعة آلاف يهودي في عهد محمد علي باشا، ارتفع الرقم حسب تعداد السكان لعام 1898 إلى 25200 نسمة.

من أشهر تلك العائلات، عائلة سوارس التي وفدت من إيطاليا ثم استقرت في مصر، ليبدأوا مؤسسة سوارس عام 1875 التي تعاونت مع رأس المال الفرنسي في تأسيس البنك العقاري المصري، كما أسهموا في تأسيس شركة عموم مصانع السكر والتكرير المصرية، كما تعاونوا مع رأس المال البريطاني في تمويل بناء خزان أسوان.

أيضًا أسهم اليهود في ميلاد بورصة القاهرة، تحديدًا في عام 1903 وقت قامت لجنة خاصة برئاسة موسى قطاوي باختيار المبنى القديم للبنك العثماني كمقر رسمي للشركة المصرية للأعمال المصرفية والبورصة.

أما في عهد الخديوِ توفيق فلقد اتسم بظروفٍ صعبة أهمها حالة الاقتصاد المترنح، والثورة العرابية، وخلع الخديوي إسماعيل، كل تلك العوامل أدت إلى ثبات رأس المال الأجنبي عند 6 ملايين جنيه طوال عشر سنوات منذ بدأ الاحتلال البريطاني لمصر، حتى ارتفع رأس المال في عام 1897 إلى أكثر من 11 مليون جنيه، ليصل ذروته بعد الاتفاق الفرنسي البريطاني في عام 1904 وبموجبه استأثر الإنجليز بإدارة الاقتصاد المصري.

دخول رأس المال المصري للسوق المحلية

تغير الوضع مع نشوب الحرب العالمية الأولي على مجرى الحياة الاقتصادية والمالية في مصر فمنذ أن أُعلنت الحرب قام المودعين في البنوك بسحب أموالهم منها وأقبلوا على الأسواق لشراء منتجات لتأمين وضعهم من أوزار الحرب. ما أنتج عجز للبنوك عن دفع الودائع إلى أصحابها فأغلقت أبوابها وتحول الاحتياط النقدي من الذهب إلى البنكنوت، الذي شاع استخدامه مع رواج التجارة الداخلية مع وجود عناصر من الجيش الأجنبي، ولما زاد النقد المتداول مع غياب غطاء الرصيد الذهبي، منع مصر من الحصول على السلع الأجنبية، فأوجد هذا الوضع حالة من التضخم المالي مع بداية الحرب ظهرت دعوات جديدة تهاجم الوضع المالي لمصر وتطلب الاستقلال المالي عن الاحتلال فتقول صحيفة الشعب:

الواقع أن علاقتنا المالية بالدول المحاربة علاقة تابع ومتبوع، فإننا في سوقنا المالية لسنا إلا غرباء، إن حالتنا المالية في السوق المصرية حالة منفعلة غير فاعلة وتابعة غير متبوعة لأنه ليس لنا فيها رأي مسموع ولا فعل ما، فالذعر لحقه ثقة الناس بالبنوك الأجنبية التي هي البنوك الوحيدة في مصر.

وتبعتها بقية الجرائد في ضرورة تأسيس بنك وطني لحماية الحياة الاقتصادية والمالية في مصر، فكانت الحرب العالمية الأولى فرصة لظهور رأس المال الوطني بشكل مختلف، حين كان الكثيرون يفضلون العمل الزراعي تاركين قطاع البنوك للأجانب ولا يرحبون بالعمل في مجال الصناعة، غير أن توقف عمليات الاستيراد والتصدير خلال الحرب دفع لإخراج مدخراتهم والتعامل بها، حتى شهدت مصر نهضة صناعية وطنية مصغرة، وصار هناك استعداد جاد لإنشاء بنك برأسمال مصري لتجميع واستثمار الأموال المصرية، أسهم في ذلك رفض البنوك الأجنبية في مصر منح قروض للفلاحين المصريين، لتزداد الأصوات المنادية بأهمية إنشاء بنوك وطنية لتحرر الفلاحين من قبضة البنوك الأجنبية.

وقد أخذ طلعت حرب تلك الخطوة من قبل الحرب حين أسس شركة التعاون المالي، فلما انعقدت الجمعية العمومية لتلك الشركة في عام 1915 وقف خطيبًا وتكلم عن شئون البلاد الاقتصادية وما أصابها بسبب الاعتماد على الغير في كل معاملاتها المالية، وبعد مرور سنوات قليلة نجحت تلك الخطوات في إنشاء البنوك المصرية، بواسطة أول بنك وطني يتم إنشاؤه على غرار البنوك الأجنبية وهو بنك مصر عام 1920 الذي رأس إدارته طلعت حرب، وكان البنك نواة مشروع مصري صناعي ضم مصانع بناها طلعت حرب ملحق بها مساكن للعمال ومدارس ونوادٍ وعيادات.

نفوذ رجال المال المصريين في الاقتصاد المحلي

مع الاستقلال الاسمي التي حصلت عليه مصر، ظهرت أسماء جديدة من رجال الأعمال المصريين عوض سيطرة الأجانب على الاقتصاد المحلي، وقد وصف شهدي عطية الشافعي تلك الحقبة في كتابه «سيطرة كبار رجال المال»:

وفي ظل الاستقلال الاسمي الذي فازت به مصر، ظهرت نواةٌ بارزة من كبار الماليين المصريين، المتصلين أوثق اتصال بالشركات الأجنبية، برؤوس الأموال الاستعمارية، إذ رأت هذه الشركات أنه من الخير لها أن تعين من بين أعضاء مجالس إدارتها بعض مستوزرين سابقين

من أبرز رجال تلك المرحلة، محمد أحمد فرغلي باشا الذي اتخذ تجارة القطن سبيلًا للثراء، حيث كان ينتمي إلى أسرة من أصول صعيدية كانت أسرته محسوبة على الأغنياء من حيث الثراء المادي والاقتصادي، بدأ رحلته مع القطن بالعمل في السوق المحلي، قبل أن يتجه للتصدير بحصة لا تتجاوز 0,25% من المحصول المصري من القطن، وبعد ذلك بسنوات، كان يصدر 15% من إجمالي المحصول، وبتلك النسبة احتلَّ المركز الأول في قائمة المُصدِّرين، لينُتخب بعدها وكيلاً لبورصة مينا البصل للأقطان في الإسكندرية، وكان أول مصري ينهي سيطرة غير المصريين الطويلة على المناصب القيادية في هذا المجال، ما شجع المصريين بعده على اقتحام قطاعات ومجالات كانت مغلقة أمامهم.

على عكس محمد أحمد فرغلي، كان أحمد عبود باشا رجلًا عصاميًا، بدأ من الصفر في مجال المقاولات، حتى تزوج من ابنة ضابط كبير في الجيش البريطاني، سهّل له الزواج القيام بشراكات في أعمال المقاولات مع الجيش البريطاني، حتى ازداد ثراؤه واشترى شركة بواخر البوسطة الخديوية، ما ساعده مع نشوب الحرب العالمية الثانية على التربح من عمليات نقل البضائع، في ظل ارتفاع أجور النقل ارتفاعاً كبيرًا، ليشترى معظم أسهم شركة السكر والتكرير المصرية التي يملكها رجل الأعمال البلجيكي هنري نوس.

نفوذ أحمد عبود ومحمد فرغلي، طال إدارة بنك مصر، حين سحبا يوميًا نصف مليون جنيه للضغط على طلعت حرب للاستقالة من رئاسة البنك، لينجح المخطط ويترك حرب البنك الذي أسسه وتركه ليديره حافظ عفيفي.

عملية تمصير الاقتصاد المصري شجعت وزير المالية أمين عثمان في عام 1943، على تحويل دين مصر الخارجي الذي أثقل اقتصادها إلى دين داخلي عن طريق طرح سندات دين يحق فقط للمصريين أو الأجانب المقيمين في مصر شراءها، وتحويل أقساط الديون التي كانت تدفع بالجنيه الاسترليني إلى أقساط بالجنيه المصري ووافق مجلس النواب على طرح تلك السندات للاكتتاب العام، مما ساعد مصر الحصول على استقلالها المادي بعد سنوات من إثقال ميزانية مصر بفوائد الديون.

المراجع
  1. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دكتور عبد الوهاب المسيري
  2. قصة الثروة في مصر خلال 200 عام، أحمد كمالي
  3. (قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد مبارك) ( جلال أمين)
  4. الأجانب في مصر، دراسة في تاريخ مصر الاجتماعي، د. محمود محمد سليمان