محتوى مترجم
المصدر
Aeon
التاريخ
2017/02/15
الكاتب
جول موكيار
كيف ولماذا بدأ العالم الحديث ورخاؤه منقطع النظير؟

هذا هو السؤال الذي يحاول جول موكيار الإجابة عنه في هذا المقال، ويستعرض في بدايته الإجابة التي تقضي بأن الازدهار الأوروبي في القرن الثامن عشر جاء نتيجة التشظي السياسي، حيث إن أوروبا لم يستطع أحدٌ القيام بتوحيدها كما فعل المغول أو أسرة مينغ في الصين.

ويشير إلى أن الأمر ليس له علاقة بالثقافة الأوروبية ذاتها، حيث إنها لا تحتوي أي ميزة ذاتية مختلفة عن غيرها، وكان الازدهار فيها عبارة عن مُخرج غير مخطط له لمجموعة من التفاعلات البسيطة. وكان عبارة عن نتيجة التقاء غير محسوب لمُخرجات مؤسسية، لم يتم تصميمها أو تخطيطها، وبمجرد حدوثها قامت بتوليد عملية دينامية من التطور الاقتصادي.


كيف عملت هذه الدينامية إذن؟

يقول موكيار إن «التشظي السياسي في أوروبا أنتج منافسة إنتاجية مثيرة». أي أن الحكام الأوروبيين تنافسوا على أفضل وأكثر المفكرين والحرفيين إنتاجًا. وينقل عن المؤرخ الاقتصادي إريك جونز تسمية هذا النظام بـ “نظام الدول”، حيث كانت تكلفة التشظي فيه كبيرة، ولكن فوائد هذا التنافس على المدى البعيد كانت أكبر بكثير من التكلفة، إذ شجّع وجود عدد من الدول المتنافسة الابتكار العلمي والتقني.

ويؤكد، نقلًا عن إدوارد جيبون، كون التطور المعرفي والصناعي تم تسريعه نتيجة الاحتكاك بين متنافسين نشطين، كما الأمر في إصلاحات بطرس الكبير في روسيا بداية القرن السابع عشر، حتى التعبئة التقنية العامة التي قامت بها الولايات المتحدة مذعورة من إطلاق سبوتنيك السوفيتي عام 1957م. وربما الأكثر أهمية في الأمر أن التنافس في إطار نظام الدول يمنع السيطرة السلطوية السياسية والدينية على الإبداع الفكري. فإذا قام الحكام المحافظون بمحاولة تضييق الخناق على الفكر الهدّام والمُهرطِق (أي الإبداعي والأصيل)، فسيقوم مواطنوهم الأذكياء بمجرد الذهاب إلى مكان آخر (كما فعل العديدون منهم في الحقيقة).

إلا أن موكيار يستدرك على هذا التفسير قائلًا بأنه غير كافٍ لتفسير الازدهار الأوروبي، إذ إن القارة الهندية والشرق الأوسط وأفريقيا كانوا أكثر تشظيًا من أوروبا على مر التاريخ، ولم تظهر فيهم هذه النهضة. إذ كان حجم “سوق” هؤلاء المبدعين أحد العناصر المهمة في التطور العلمي والتقني، إلا أنه لم يولَ الاهتمام الكافي. فعلى سبيل المثال، كتب ماثيو بولتون إلى شريكه جيمس وات عن محركه البخاري: “إن الأمر لا يستحق عند الإنتاج لثلاث كونتيات فحسب، لكنه يستحق عند الإنتاج للعالم بأسره”. وكان الأمر نفسه فيما يخص المعرفة والعلوم، فإن كان التشظي السياسي يعني أن سوق المُبتكر سيكون صغيرًا، يكون ساعتها مُثبطًا للازدهار وليس محفزًا له.

كان الأمر كذلك بالفعل، كما يشير موكيار. فالتشظي السياسي صاحبته وحدة معرفية وفكرية. فكانت أوروبا قارة مفتوحة الحدود أمام الأفكار، ومبنية على شبكة من الرجال والنساء المتعلمين، تنتشر بينهم الأفكار وتدور. وكذلك وجود اللاتينية باعتبارها لغة مشتركة، وهيكل الكنيسة القروسطية العالمي، ساعدا على هذا التلاقي وتلك الوحدة.

ويؤكد موكيار كون النشاط الفكري القروسطي ضعيفًا بالمقارنة مع ما أصبح عليه بعد عام 1500م، إذ أصبح عابرًا للحدود. ويضرب مثالين على ذلك بخوان لويس فيفس وديسيديور إراسموس اللذين جابا أوروبا. وعلى الرغم من أن المفكرين نفسيهما كانا يتحركان بشكل سريع بين كل أنحاء أوروبا، فإن أفكارهما كانت تتحرك أسرع وأسرع. فمن خلال الطباعة ونظام البريد كانت المعرفة المكتوبة يتم تدويرها بسرعة كبيرة. وفشلت نتيجة ذلك محاولات السلطات القمعية التضييق على الأفكار الجديدة، وفي أفكار جاليليو وسبينوزا مثالٌ واضح على هذا الأمر.

ومن بعد عام 1500م، أصبحت المعرفة بعد ذلك أسرع وأكثر دورانًا في جميع أنحاء أوروبا، وكما يشير موكيار، ناقش مفكرو أوروبا كل شيء تقريبًا، وأعلنوا أنهم عازمون على «نحر البقرات المقدسة» كناية عن رفضهم أي مسلمات غير قائمة على بحث علمي صحيح. فأصبح بإمكان المفكرين الأوروبيين اعتبار أوروبا «جمهورية عظمى» تتحرك فيها الثروات ويتغير فيها ميزان القوى بشكل مستمر. وهذا ما ميزها عن غيرها من الحضارات، كما يشير جيبون.

وبهذا، كما يقرر موكيار، استفاد المجتمع العلمي الأوروبي من مزايا الفكرتين، المجتمع الفكري الأوروبي المترابط ونظام الدول المتنافسة. أنتج هذا النظام مجموعة من العناصر الثقافية التي قادت بعد ذلك إلى الثراء العظيم، اعتقاد في إمكانية التطور الاجتماعي والاقتصادي، واهتمام متزايد بالابتكار الفكري والعلمي، والتزام بمسار بحث إمبريقي منهجي في خدمة النمو الاقتصادي.

يشير موكيار إلى كون فكرة التقدم الاقتصادي الناشئ عن المعرفة باعتبارها المحرك الأول للثورة الصناعية والنمو الاقتصادي المبكر فكرة مثيرة للجدل، نتيجة كون الاختراعات العلمية المباشرة في القرن الثامن عشر كانت ضئيلة جدًا، على الرغم من ازديادها فعلًا بعد عام 1815. إلا أن نفيها تمامًا غير صحيح، حيث إن التقدم القائم على التقدم الحِرَفي (وخاصةً في صناعة النسيج) لم يكن كافيًا. وكذلك، كانت بعض الاختراعات تحتاج إلى بعض المُدخلات السابقة من متعلمين كي تتحقق، كحالة الكرونوميتر البحر، الذي أصبح ممكنًا فحسب نتيجة عمل الفلكيين الرياضيين في القرن السادس عشر.

ويضيف موكيار أن التقدم العلمي لم تحركه فقط نشأة العلم المفتوح وتعقد سوق الأفكار العابر للحدود، بل حركه كذلك ظهور بعض الأدوات التي سهلت من البحث العلمي في الفلسفة الطبيعية، كالميكروسكوب والتلسكوب والبارومتر والترمومتر الحديث، ونشأت جميعها في النصف الأول من القرن السابع عشر. كشف استخدامها بعض الخرافات المنقولة عن العصور القديمة، وكذلك ساعدت الأفكار المكتشفة ساعتها عن الفضاء والغلاف الجوي في نشأة المحركات الهوائية، وكذلك ساهمت المحركات البخارية في تحفيز البحث في كيفية تحول الحرارة إلى حركة، ونشأة الديناميكا الحرارية. وبحلول القرن الثامن عشر، تطور التفاعل بين العلوم البحتة وعمل المهندسين والميكانيكيين، وحدث اتحاد بين البحث عن «ماذا» والبحث في «كيف»، مما أنشأ نموذجًا يتحرك بذاته.

ويضيف موكيار في ختام المقال أن الثراء الأوروبي العظيم، (والعالمي بعد ذلك)، لم يكن حتميًا، فتغير بسيط في البدايات كان من الممكن أن يقود إلى نتيجة مختلفة تمامًا. وأن التنوير الأوروبي كان أحد منتجات أنشطة سوق الأفكار بعد عام 1600م، والذي تحول إلى برنامج سياسي طموح، ما زالت بعض نقاط ضعفه مسيطرة على الاقتصاديات والحكومات الأوروبية. وعلى الرغم من التراجع الذي تشهده هذه الأفكار في الفترة الحالية، فإن التطور التقني والعلمي بمجرد بدئها لا يمكن مقاومته. ويختم بأن الأفضل قادم، لأن الظروف ما زالت كما هي، فالعالم ما زال مُقسّمًا إلى وحدات متنافسة، وسوق الأفكار أصبح أكثر نشاطًا، وأصبحت الابتكارات تحدث بوتيرة أسرع.