بعد حادث الهجوم على مجلة شارلي إيبدو الساخرة في نوفمبر / تشرين الثاني 2015 بعيد نشرها لرسوم كاريكاتورية للرسول، عليه الصلاة والسلام، خرج جون ماري لوبين، الأب الروحي للفاشية الفرنسية بتصريح تناقلته وسائل الإعلام قال فيه إنه ليس شارلي (في الإشارة إلى الجملة التي انتشرت في ذلك الحين Je suis Charlie لإظهار التعاطف مع قتلى الجريدة) ولكنه «شارل مارتل» (Je suis Charles Martel)، القائد العسكري الفرنسي الذي تمكن من إيقاف زحف المسلمين نحو شمالي فرنسا بعد الانتصار في معركة بلاط الشهداء الشهيرة.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استدعاء «شارل مارتل» من طرف رموز اليمين المتطرف في أوروبا، صار ذلك عاديًا ومتكررًا، الكل يحلم بشارل مارتل جديد، يعيد العرب والمسلمين إلى ديارهم، ويعيد أوروبا سيرتها الأولى، بيضاء صافية كما تحلم بذلك الحركات الفاشية.

مناهضون للمسلمين يرفعون لافتة “نحن شارل مارتل”

معركة بواتييه: حينما توجه الغافقي شمالًا

بعد استتباب الأمر لهم بالأندلس، بدأ المسلمون البحث عن توسيع مناطق السيطرة في القارة الأوروبية، فكان التوجه شمالاً نحو فرنسا أحد الخيارات البديهية والمنطقية، كانت فرنسا خلال هذه الفترة تحت سيطرة مجموعة من الأمراء الذين كان يطلق عليهم «الملوك الكسالى»، سارت الأمور كما خطط لها المسلمون، استولوا بسهولة شديدة ودون مقاومة كبيرة على جنوب فرنسا، الذي أصبح عبارة عن مركز أساسي تنطلق منه الغارات نحو الشمال.

بحسب كتاب «حضارة العرب» لغوستاف لوبون، فإنه في شهر رمضان من سنة 114 هجرية، الموافق لأكتوبر (تشرين الأول) لسنة 732 ميلادية، جمع عبد القائد المسلم عبد الرحمان الغافقي جيشًا على قدر من الأهمية وعبر نهر الغارون متجهًا إلى بواتييه، خلال ذلك الوقت، تجمعت مجموعة من الأمراء و القيادات العسكرية الإفرنجية وتوجهت لطلب المساعدة من أهم أمراء فرنسا حينها «شارل مارتل».

لكن هذا الأخير لم ير في المواجهة المباشرة مع جيش المسلمين أي مزايا مبررًا ذلك بقوله: «دعوهم يصنعون ما يشاؤون، فهم الآن مستأسدون، وهم كالسيل الذي يأتي على كل من يعترضه، وما عندهم من الحماسة والشجاعة يقوم مقام الدروع والحصون، ولكنهم إذا ما أثقلتهم الغنائم، وطاب لهم المقام بالبيوت الجميلة، وألفوا حياة الرفاهية، واستحوذ الطمع على قادتهم، ودب الشقاق في صفوفهم، زحفنا إليهم واثقين من النصر».

كان رأي شارل مارتل على قدر كبير من الوجاهة، فقد واصل المسلمون تقدمهم نحو الشمال دون رادع، لكنهم ما إن وصلوا إلى مدينة «تور» حتى أثقلتهم الغنائم ووجدوا جيش شارل مارتل يقتفي أثرهم، قرر الغافقي العودة إلى الجنوب فكانت المعركة بمدينة بواتييه. ظلت المعركة قائمة حتى المساء، انفصل جزء من جيش شارل مارتن للإغارة على معسكر المسلمين، فترك المسلمون ميدان القتال للحفاظ على غنائمهم، فخسروا بسبب هذا الخطأ الإستراتيجي، وظلوا يقاتلون متقهقرين إلى الجنوب، وتبعهم شارل مارتل من بعيد دون رغبة حقيقية في تجديد المواجهة.

مجرد معركة ومجرد قائد

ظلت معركة بلاط الشهداء أو معركة «بواتييه» مجرد حدث تاريخي ثانوي في العقل الجمعي الغربي، ولم يتم تمثيل شارل مارتل أبدًا كبطل أسطوري قهر العرب والمسلمين وألجم طمعهم في أرض فرنسا إلا مؤخرًا.

خلال عصر التنوير الأوروبي، كان عدد من المفكرين الغربيين يعتبرون الإسلام ثقافة أكثر استنارة ممَّا كانت عليه أوروبا التي كانت  تعيش على وقع البربرية والظلام الفكري، كما أن اليمين الفرنسي حتى في أزهى عصور النازية لم يكن يعير هذا القائد العسكري الفرنسي أي اهتمام، نجد مثلًا أن ريني مارسيال، أحد أبرز الرموز الفاشية التي كانت مقربة من حكومة فيشي النازية التي حكمت فرنسا بعد سقوطها أمام جنود هتلر كان لا يرى في العرب والمسلمين أي خطر يهدد أوروبا، لأن العربي المسلم- من وجهة نظره- أقل شأنًا من أن يشكل خطورة على الرجل الأبيض، فأوروبا كانت ستكون في أمان حتى وإن لم يتدخل شارل مارتل خلال القرن الثامن ميلادي أمام جيش الغافقي، من جهته كان غيوم فايي الكاتب والصحفي اليميني يعتبر أن «الصحوة العربية الإسلامية» في سنوات الثمانينيات تعتبر أمرًا جيدًا للغاية، سيساعد أوروبا على الوقوف في وجه السيطرة الأمريكية السوفييتية على العالم.

بقي الاهتمام برمزية «شارل مارتل» ثانويًا للغاية، مع وجود استثناءات قليلة، كتمجيده من طرف الكاتب الفرنسي فرانسوا ريني دي شاتوبريان (1768 / 1848م) الذي وصفه بالقائد المسيحي الذي أنقذ المسيحية في أوروبا، أو كالثناء عليه من طرف الكاتب السياسي إيدوارد درومون المعروف بكرهه الكبير لليهود الذي اعتبر أن معركة بلاط الشهداء كانت انتصارًا للآريين على الساميين، مع وجود منظمات كجماعة «شارل مارتل» المصنفة كمنظمة إرهابية والتي كانت تستهدف العرب سنوات السبعينيات والثمانينيات.

محاولة إحياء «الأسطورة»

بدأت «الإسلاموفوبيا» أو «رهاب الإسلام» تظهر عند اليمين الأوروبي مع بداية حرب كوسوفو (1999/1998)، كان المنظرون اليمينيون يتحدثون خلال ذلك العهد عن مشروع إسلامي-أمريكي يهدف إلى غزو أوروبا وتجريدها من هويتها وثقافتها، هذه الأطروحة فصلها الكاتب الفرنسي ألكسندر ديل في كتابه «الإسلاموية والولايات المتحدة الأمريكية : تحالف ضد أوروبا».

بعد هذه الحرب بثلاث سنوات، كان الفرنسيون قد اختاروا لأول مرة في التاريخ التصويت بكثافة لجون ماري لوبين زعيم حزب الجبهة الوطنية في الانتخابات الرئاسية الفرنسية سنة 2002 ومنحه فرصة مواجهة جاك شيراك في الدور الثاني، هتف اليمينيون في تجمعاتهم «شارل مارتل 732، لوبين 2002»، كان التسويق لمارتل كرمز مسيحي حمى أوروبا من العرب والمسلمين قد ظهر جليًا على الساحة، وأصبح رموز الجبهة الوطنية يستدعونه في خطاباتهم بشكل دوري.

خسر لوبين الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية ثم خرج بعدها من الحياة السياسية، لكن «شارل مارتل» كان قد دخل مكانه في وقت كانت أوروبا تبحث فيه عن رموز تستعين بهم من أجل مواجهة العدو الجديد القديم، العالم العربي والإسلامي صاحب الثرات الذي لا يقل أهمية عن نظيره الغربي.

تردد اسم «شارل مارتل » كثيرًا طيلة العقدين الأخيرين، وبدأ يرتبط بقصص حقيقية أحيانًا وخيالية في أحيان أخرى نسجها خيال اليميني مستعينًا ببعض الوقائع التاريخية، وسرعان ما اقترن اسم هذا القائد الفرنسي بعدد من الإرهابيين اليمينيين الذين أقدموا على عمليات استهدفت أعداءهم المفترضين، بداية من النرويج وصولًا إلى نيوزلندا، مرورًا بفرنسا.

في 22 من يوليو (تموز) لسنة 2011 قام النرويجي أندرس بهرنغ بريفيك بتفجير سيارة مفخخة وسط العاصمة النرويجية أوسلو، توجه بعد ذلك إلى معسكر صيفي بجزيرة أوتويا المنظم من طرف اتحاد العمال الشباب وهو فرع الشباب من حزب العمال النرويجي اليساري الحاكم حينها، دخل بريفيك مرتديا زي رجل شرطة حاملا أوراق هوية مزورة ثم فتح النار على الحضور، الحصيلة 77 قتيلًا و110 جرحى 55 منهم كانوا في حالة خطيرة.

كان بريفيك مولعًا بكل ما هو فاشي عنصري، وكان يتحدث كثيرًا عن فرنسا خلال التحقيقات، فرنسا موطن «شارل مارتل» الذي قهر العرب على حد تعبيره. لم يكن الإرهابي النرويجي الوحيد الذي استدعى هذا القائد الفرنسي للقيام بعملية مسلحة «أعداء الرجل الأبيض»، بل سار على دربه برينتون تارانت منفذ مجزرة كرايستشيرش بنيوزلندا الذي كتب على سلاحه الرشاش تاريخ معركة بلاط الشهداء (732) واسم «شارل مارتل».

وفي فرنسا التي أضحت قبلة الفاشية في أوروبا، قام مناضلو جيل الهوية اليميني (الذي تم حله مؤخرًا)  في 20 أكتوبر 2012 باحتلال مسجد بواتييه أثناء تشييده ورفعوا رايات تفخر بالمعركة التي عرفتها المدينة هاتفين: «لا تنس أيها المسلم شارل مارتل»، أما آخر هذه الأحداث المرتبطة بهذا القائد الفرنسي يوم 11 أبريل/ نيسان من السنة الجارية، حين كتب عنصريون بعض العبارات ضد المسلمين على مسجد مدينة رين تمجد المعركة وتسيء للمسلمين ورسولهم الكريم مذكرين رواد المسجد بشارل مارتل ومعركة بلاط الشهداء.

مناهضون للإسلام يحتلون مسجد بواتييه

هل كان «شارل مارتل» مسيحيًّا ورعًا؟

بعيدًا عن الأسطورة التي حاول اليمين الأوروبي خلقها من حدث معركة الشهداء، هل كان شارل مارتل فعلًا ذلك القائد الفذ الذي حمى أوروبا المسيحية من المد العربي الإسلامي؟

بداية، لم يكن هذا القائد الإفرنجي ذا هم عقدي، هذا ما يؤكده كل من ويليام بلان وكريسطوف نودان في كتابهما «شارل مارتل ومعركة بواتييه»، الكاتبان يقولان  إنه يتم الخلط بين الوضع السياسي والاجتماعي في القرن ميلادي والوضع الحالي الذي تعيشه أوروبا بسبب أزمة الهوية وصعود الإسلاموفوبيا، ذلك لأن الواقع يقول إن مارتل لم يكن يحمل همّ حماية المسيحية كما يصور اليمين الغربي الحالي، بل إنه أقسم هو نفسه أن الإسلام لا يشكل أبدا عدوًا له، لأن عدوه الحقيقي مسيحي مثله، وهو يودس، دوق أقطانيا (منطقة بالجنوب الغربي لفرنسا وعاصمتها الحالية مدينة بوردو).

أضف إلى ذلك أن الكنيسة أبعدته وطمست اسمه بسبب استغلاله الأموال الموجهة لرعاية رجال الدين من أجل تمويل قواته، فهو حسب ما أعلنت الكنيسة «كافر خالد في النار»، هذا بجانب أن المفكرين الغربيين كهنري دو بولانفيليي وفولتير ومونتيسكيو يعتبرونه أول حاكم فرض نظامًا مستبدًا على الفرنسيين.

من جهته يفند غوستاف لوبون، المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي، تحقيق شارل مارتل لانتصار ساحق ضد العرب والمسلمين، لأنهم بحسب لوبون لم يكونوا يبحثون عن الاستقرار في فرنسا أصلًا، بل كانوا يهدفون فقط إلى جمع الغنائم ولم يكن شمال فرنسا يدخل ضمن  مخططاتهم التوسعية، كما أنه لم يتمكن من تحرير أي أرض خضعت للخلافة في جنوب فرنسا طيلة مقام المسلمين بها والتي امتدت إلى قرنين من الزمان.