كتبت امرأة إلى جريدة Morning Chronicle في عام 1805، تشكو من أنه «منذ ظهور هذا الهوس المصري اللعين … يركب ابني الأكبر لعبة مصممة على شكل أبو الهول بدلًا من حصان هزاز، وابني الأصغر لديه زورق على شكل تمساح، وقد بنى زوجي مجسمًا في حديقتنا على شكل هرم، وعلى قمصانه علامة اللوتس».

لعب علم الآثار دورًا مهمًّا في الهويات الوطنية للشرق الأوسط، ومع ذلك كانت القوى الاستعمارية أيضًا مهتمة جدًّا بتاريخ الشرق الأوسط في العصور القديمة. انتشر الهوس الأوروبي بالحضارة المصرية القديمة في السنوات التي أعقبت حملة نابليون العسكرية ضد مصر.

أثناء الحملة الفرنسية كلف نابليون أكثر من 100 عالم، وفي ذلك الفنانون وعلماء الطبيعة والكيميائيون والمهندسون، لتوثيق ثروة البلاد وتاريخها القديم. نتج عن تلك الحملة كتاب وصف مصر (بالفرنسية: Description de l’Egypte) وهو عبارة عن مجموع الملاحظات والبحوث التي تمت في مصر خلال الحملة الفرنسية، كذلك قدم حجر رشيد – وهو عبارة عن شاهدة ذات نقوش يونانية وهيروغليفية قديمة، اكتشفها الغزاة الفرنسيون واستطاع فرانسوا شامبليون فك شفرتها – المفتاح لترجمة الكتابات الهيروغليفية في عام  1822. والتي أثبتت أن الهيروغليفية لغة وليست رموزًا صوفية كما كان يعقد آنذاك.

هذه الأحداث، جنبًا إلى جنب مع ازدياد شعبية السفر إلى مصر التي روجت لها رحلات بعض الأفراد المغامرين مثل جوفاني باتيستا بلزوني وجلبهم مقتنيات لمجموعات المتاحف الجديدة، كان لها تأثيرها، وكذلك ما كشفه فنانون مثل ديفيد روبرتس والمصورون الأوائل عن مصر للعالم. كما عززت المعارض الدولية، التي بدأت بمعرض كريستال بالاس بلندن (1854) انتشار الفضول بالحضارة المصرية في أواسط الأوروبيين، بزغ تأثير مصر القديمة على الخيال الثقافي للشعوب الأوروبية في موجات مما يسميه علماء التاريخ «الهوس المصري – Egyptomania»، هذا الهوس كان جليًّا في عدة مجالات، أبرزها: حفلات فك أغلفة المومياء، الأدب مثل قصة «القطعة رقم 249» لأرثر كونان دويل. 

الهوس الفيكتوري 

يصف «جورج إيبرس» هذا الهوس في كتابه مصر: وصف وتاريخ وفتنة Egypt: Descriptive, Historical, and Picturesque،  الذي نُشر عام 1878: «لقد سمع كل شخص، النبلاء والفلاحون، عن مصر وعجائبها البدائية، فالطفل يعرف أسماء الفراعنة الطيبين والأشرار قبل أن يتعلم أسماء أمراء بلده». 

احتار إيبرس في كيفية تفسير هذه الظاهرة، واكتفى بتوجيه السؤال للقارئ: لماذا أثرت حضارة مصر القديمة وتاريخها وخصائصها الطبيعية وآثارها بطريقة مختلفة تمامًا عن أي من الحضارات القديمة التي اكتُشفت آنذاك؟ ولماذا أثارت فضول العامة وهوسهم؟

في الواقع ، كان الفيكتوريون مهووسين بمصر بشكل فريد، وربما يرجع ذلك جزئيًّا إلى وجود اعتقاد سائد بأن مصر كانت مثل بريطانيا في العالم القديم – حضارة متفوقة ومتقدمة للغاية تغزو كل الأرض التي في متناولها. كما يصفها دليل مطبوع لمعرض عام 1985 لفن مصر القديمة في نادي بيرلينجتون للفنون الجميلة البريطاني «كانت مصر حضارة مؤسِّسة. كانت جميع الحضارات الشرقية الأخرى، تقليدًا شاحبًا للثقافة المصرية النابضة بالحياة. كانت مصر هي المانح، وليس المتلقي». لاحظ البرنامج لاحقًا أن «تأثير الفن المصري على الحضارات العظيمة الأخرى في العصور القديمة يمكن تتبعه في جميع الاتجاهات».

المومياء تخرج من التابوت

كل الحضارات قد مضت وابتلعت الأرض جثثهم ولم يتبقَّ إلا آثار تدل على أنهم عاشوا، ولكن وجود جثامين لأشخاص لا زالت محفوظة بعد آلاف السنين، كان نقطة مثيرة لدهشة الأوروبيين.

 منذ العصور الوسطى ساد الاعتقاد بأن للمومياوات قدرة سحرية أو طبية، قادرة على شفاء كل الأمراض حتى الطاعون، في عالم خالٍ من المضادات الحيوية وصف الأطباء الجماجم والعظام ولحم الجثث المطحون لعلاج الأمراض من الصداع إلى تقليل التورم أو علاج الطاعون.

دفع الإيمان بأن المومياوات يمكن أن تشفي المرض – الناسَ لعدة قرون إلى تناول مسحوق «موميا»، المنتج الذي تم إنشاؤه من جثث محنطة، كان مادة طبية استهلكها الأثرياء لقرون، ومتوفرة في الصيدليات، وأُنشئت من بقايا المومياوات القليلة التي أُحضرت من المقابر المصرية إلى أوروبا بصعوبة. 

بحلول القرن التاسع عشر لم يعد الناس يستهلكون المومياوات لعلاج الأمراض، لكن الفيكتوريين كانوا يستضيفون «حفلات فك غلاف المومياء»، حيث يتم فك الجثث المصرية للترفيه في الحفلات الخاصة. 

حفلات فك تغليف المومياء كان شكلًا مؤقتًا من أشكال الترفيه للفيكتوريين، وكان جزءًا من تدنيس الاستعمار لمصر وشعبها وأسلافهم. أي شخص استطاع تحمل تكاليف السفر إلى مصر كان قادرًا على شراء مومياء، وكان هناك أشخاص مدربون لفكها في عرض استعراضي يقدمه عادة الأطباء الساعون للثراء، أو الفنانون ذوي الخبرة في التشريح.

توماس بيتيجرو، الذي كان جراحًا ومؤلفًا، كان يستضيف حفلات خاصة حيث يقوم بفك الغلاف وإجراء تشريح للجثث على المومياوات، بدمج العلم مع المشهد التاريخي، كان الأثرياء يحظون بسهرة ماتعة. لم تكن العملية معقدة للغاية:

في البداية يقدم محاضرة عن التاريخ المصري القديم حسب ما وثقه علماء نابليون، ثم يقوم المحاضر ومساعدوه بإزالة المنسوجات والمواد الأخرى التي كانت تغطي المومياء بشكل تدريجي. كانت شظايا الأغلفة تفوح برائحة الراتنجات والتوابل العطرية المختلفة كالمُر والقرفة، غالبًا ما كانت تُمرر على الجمهور جنبًا إلى جنب مع التمائم وغيرها من المصنوعات اليدوية التي تصادف وجودها داخل غلاف المومياء. 

لعنة المومياء

استمرت هذه التجمعات لفترة طويلة، ولحسن الحظ تلاشت في السنوات الأخيرة من القرن. في حين يمكن للمرء أن يأمل في أن هذا يرجع إلى أن الفيكتوريين أدركوا عدم إنسانيتهم​​، لكن من المرجح، كما يلاحظ عالم المصريات جون ج. جونستون، أن يكون ذلك نتيجة للملل ليس إلا. بعد فترة افتقرت العملية نفسها إلى اللمعان، وأصيب الكثيرون بخيبة أمل عندما اكتشفوا أن المومياء لن تعود فجأة إلى الحياة وتتجول في الغرفة.

ولكن الأدب، بإمكانه إعادة البريق لتلك الأحداث. أدرج العديد من المؤلفين فكرة المومياء في أعمالهم، وفي ذلك إدغار آلان بو في «بعض الكلمات مع مومياء» (1845)، لويزا ماي ألكوت في «ضائع في هرم؛ أو لعنة المومياء» (1869)، ولا سيما آرثر كونان دويل في «القطعة رقم 249»، هذه القصة الأخيرة بالتحديد لعبت دورًا فارقًا في التصور الشعبي عن المومياوات.

قصة آرثر دويل تحكي عن طالب بجامعة أكسفورد يدعى أبيركرومبي سميث، لاحظ تصرفات مريبة من زميله إدوارد بيلينجهام، الذي يدرس علم المصريات ويمتلك العديد من القطع الأثرية المصرية القديمة في غرفته، وفي ذلك مومياء لم تُشرَّح بعد. 

بعد رؤية موميائه تختفي وتعاود الظهور في أوقات غريبة، وتعرض أعداء بيلينجهام للهجوم في ظروف غامضة، استنتج سميث أن بيلينجهام استطاع إعادة إحياء موميائه. وعندما قرر مواجهته بالحقيقة حاولت المومياء قتله. 

في نهاية القصة يُجبَر سميث بيلينجهام على تدمير موميائه وكل المصنوعات اليدوية المصرية التي يمتلكها تحت تهديد السلاح للتخلص من «لعنة الفراعنة».

تأثير هذه القصة كمن في كونها واحدة من أولى القصص التي تُظهِر المومياء على أنها تهديد حقيقي، فبعد أن كانت مجرد شيء مثير للفضول قادم من الشرق، بعد نشر القصة بدأ العامة يتوجسون من كونها مسكونة بالأرواح أو تجلب الشر لأصحابها، مما سيُعرَف بلعنة المومياوات فيما بعد. يرى بعض النقاد أن «القطعة رقم 249» قد تمكنت من تصوير هوس الفيكتوريين بالأجنبي وفي نفس الوقت خوفهم منه. 

بينما رآها الآخرون كنقد للإمبريالية، حيث تثير التساؤلات حول إلى أي مدى يؤدي الاستعمار، بامتصاصه لثقافات المستعمَر وتدميرها، إلى زعزعة كيان المستعمَر نفسه، ففي حين كان بيلينجهام يحتفظ بالمومياء في غرفته ويشرحها مزهوًا بعلمه، تبين في النهاية أن المومياء هي التي ستسيطر على حياته وتدمرها.

في عام 2016، استضاف عالم المصريات جون جيه جونستون أول تفكيك علني لمومياء منذ عام 1908، في محاولة خلق تجربة مماثلة لما كان عليه الحال عند الوجود في حفل فك أغلفة في العصر الفيكتوري.

الديكور الأثري

لم يقتصر الافتتان بمصر عند الفضول الفكري. كانت القطع الأثرية المجلوبة من المواقع الأثرية المصرية والمقابر القديمة مطلوبة بشدة كديكور لمنازل الأثرياء البريطانية. شعر البريطانيون أن نقل الآثار المصرية إلى منازلهم كان وسيلة مقبولة تمامًا لحفظها، فكما يشير إيبرس في مجلده (تحت قسم بعنوان «قيامة آثار مصر»، فجر عصر النهضة): «بدأت آثار مصر، التي ظلت مهملة تمامًا لقرون عديدة، في جذب انتباه المثقفين في أوروبا». 

لم يقتصر الأمر على القطع الصغيرة، كانت بعض الخطط لنقل القطع الأثرية المصرية كارثية التكلفة. كتب العديد من الأشخاص رسائل إلى محرر صحيفة التايمز في العشرين من مايو/آيار من عام 1872 احتجاجًا على مخطط السير جيمس ألكسندر لنقل مسلة كليوباترا إلى ضفاف نهر التايمز. في ذلك، يجادلون بأنه لن يكون من الصعب نقل المسلة فحسب، بل إنه غير سليم من الناحية المعمارية ولا يستحق محاولة الحفاظ عليه خلال رحلة محفوفة بالمخاطر وعالية التكلفة من مصر إلى لندن. في عام 1877، على الرغم من هذه الحجج نُقلت المسلة بنجاح إلى لندن ونُصبت هناك.

توت يُعيد الهوس

أطلق اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 موجة ثانية من الهوس بالحضارة المصرية القديمة على نطاق أوسع، بعدما اكتشفها هوارد كارتر واللورد كارنارفون، وعصفت مصر القديمة بالعالم مرة أخرى، فلم يكن الاكتشاف نفسه هو الذي أشعل فضول الجمهور فحسب، بل أيضًا قصة لعنة المومياء التي من المفترض أنها قتلت اللورد كارنارفون في عام 1923.

بعد الحرب العالمية الثانية اختفى الهوس بالحضارة المصرية القديمة فعليًّا – على أي حال من الذي يستطيع أن يهتم بثقافة بادئة بينما حضارته الحالية تواجه الحرب والدمار؟ – وظلت المومياوات تحظى بشعبية في الروايات وأفلام الخيال، ولكن بعد انتهاء سعير الحرب وعودة كل شيء إلى قواعده تجدَّد شغف الأوروبيين بالمصريين القدماء.