لما كانت الثقافة العربية الإسلامية قد أولت العلماء ورجال الدين مكانة ومقاما معتبرين، بوصفهم أهل الذكر الذين أمر الله بالرجوع إليهم للتعرف على أحكام الدين والشرع، فإنه لم يكن من الغريب– والحال كذلك- أن نجد أن كثيراً من هؤلاء العلماء قد عُرفوا بالألقاب التمجيدية التشريفية، تلك التي عكست ثقة المجتمع في هؤلاء الرجال من جهة، كما بينّت مكانتهم العلمية وسط أقرانهم ومعاصريهم من جهة أخرى.

الألقاب التشريفية لم تكن محصورة داخل مذهب محدد أو جماعة بعينها، بل إنها انتشرت داخل العديد من الأنساق المذهبية والفكرية، ومنها على سبيل المثال، كل من النسق السني، والنسق الصوفي، فضلًا عن النسق الشيعي الإمامي.

الألقاب التشريفية عند السُنة

عرف أهل السنة والجماعة– وهم السواد الأعظم من المسلمين- كثيراً من الألقاب التشريفية التي اختُص بها الأعلام من رجال الدين والفقهاء. من تلك الألقاب، لقب «الإمام الأعظم» الذي اشتهر به الفقيه الكوفي أبو حنيفة النعمان المتوفى 150هـ، لكونه صاحب أول المذاهب الفقهية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، ومن تلك الألقاب أيضاً، لقبي «إمام أهل السنة» و«إمام المحنة»، وهما اللقبان اللذان عُرف بهما المحدّث الكبير أحمد بن حنبل المتوفى 241هـ، وذلك بسبب موقفه المدافع عن السنة، والرافض للقول بخلق القرآن، الأمر الذي عرضه للدخول في صدام عنيف مع السلطة العباسية في مطلع القرن الثالث الهجري.

في سياق آخر، فإن هناك مجموعة من الألقاب الاعتيادية التي أشتهر بها المئات من الأشخاص عبر التاريخ الإسلامي، ولكنها قد تشير حينما تُذكر بشكل مبهم أو مفرد لبعض الشخصيات على وجه الخصوص، من ضمن تلك الألقاب، لقب «القاضي»، الذي نجده يشير– عند إفراده- إلى واحد من اثنين، هما على الترتيب: أبو يوسف المتوفى 182هـ، صاحب أبي حنيفة، ومتولي منصب القضاء في دولة الخليفة العباسي هارون الرشيد؛ أو أبو يعلى الفراء البغدادي الحنبلي المتوفى 458هـ، الذي تولى القضاء في بغداد، وكان من أهم فقهاء الحنابلة في العصر العباسي الثاني.

من جهة أخرى، عرفت الثقافة السنية بعض الألقاب التفخيمية المرتبطة بمنصب القضاء، ومن أهمها لقب «قاضي القضاة»، الذي عُرف به العالم المعتزلي عبد الجبار الأسدآبادي المتوفى 415هـ، والذي تولى قضاء الري في العصر البويهي؛ ولقب «أقضى القضاة» الذي اشتهر به القاضي أبو الحسن الماوردي المتوفى 450هـ، وذلك بسبب مكانته الرفيعة عند كل من السلطان البويهي والخليفة العباسي، وعمله المستمر في سبيل إصلاح العلاقات بين السلطنة والخلافة.

في نفس الفترة التي تألق فيها نجم أقضى القضاة– الماوردي- في المشرق الإسلامي، كان نجم الفقيه القرطبي ابن حزم الظاهري المتوفى 456هـ يتألق في بلاد الأندلس في أقصى الغرب الإسلامي، فنجده وقد حظي بلقب «منجنيق الغرب»، والذي لقبه به العلماء المخالفون له، أولئك الذين ذاقوا الأمرّين خلال مناقشته ومناظرته في المسائل الفقهية والعقائدية، فشبهوه بالمنجنيق العظيم الذي يرمي بالقذائف على الحصون والقلاع فيدمرها تدميراً.

في العصر السلجوقي، الذي بدأ مع دخول طغرلبك إلى بغداد في أواسط القرن الخامس الهجري، عرفت الثقافة الإسلامية السنية لقبين مهمين، وهما «إمام الحرمين»، و«حجة الإسلام» على الترتيب. أما إمام الحرمين، فقد كان اللقب الذي اشتُهر به أبو المعالي الجويني الشافعي المتوفى 478هـ، وذلك لأنه لما هاجر من بلاد فارس إلى بغداد، فأنه تعرض لبعض المتاعب والمضايقات، فاضطر حينها للتوجه إلى الأراضي المقدسة، ومكث أربع سنوات كاملة في مكة المكرمة، كما أنه انتقل أيضاً إلى المدينة المنورة، وكان يدرس ويلقي المحاضرات في كل من المدينتين.

أما فيما يخصُّ اللقب الثاني– حجة الإسلام- فقد كان اللقب الذي عُرف به أبو حامد الغزالي المتوفى 505هـ، والذي يُعد أحد أهم وأعظم العلماء المسلمين، وأكثرهم شهرة وتأثيراً عبر التاريخ. أغلب الظن أن الغزالي قد عُرف بهذا اللقب، لقوة منطقه وتفوقه الواضح على أقرانه في المناظرات والمناقشات.

هناك رواية صوفية مشهورة تفسر سبب تلقيب الغزالي بهذا اللقب، وهي تلك التي تدعي أن الغزالي قد رأى النبي موسى يوماً ما في رؤيا منامية، فلما سأله موسى عن اسمه، رد عليه الغزالي قائلاً: محمد بن محمد بن محمد الغزالي، فقال له موسى: أما يكفي أن تقول محمد الغزالي وينتهي الأمر؟، فرد عليه الغزالي قائلاً: وأنت ألم تقل: «هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى»، أما كفاك أن تقول عصا وتسكت، فغلب الغزالي النبي موسى في الاحتجاج وقوة البرهان، وعُرف لذلك بحجة الإسلام.

في العصر المملوكي، عرف أهل السنة كثيراً من ألقاب العلماء، من أبرزها لقبا «بائع الأمراء» و«سلطان العلماء»، اللذان اشتهر بهما العز بن عبد السلام المتوفى 660هـ، وكان السبب في تلقيبه بهما إصراره على بيع الأمراء المماليك في نهايات الدولة الأيوبية، عندما احتاجت الدولة للمزيد من الأموال بغية التصدي للقوات الصليبية؛ وما وقع أيضاً في بدايات الدولة المملوكية، عندما رفض ابن عبد السلام السماح للمماليك بفرض ضرائب جديدة على الرعية لمواجهة المغول، وألزم السلاطين وقتها ببيع جميع المتاع الزائد عن الاستعمال الضروري، لتحصيل الأموال المطلوبة.

على الرغم من أن لقب «شيخ الإسلام» كان معروفاً وشائعاً منذ القرن الرابع الهجري، فإن أشهر من لُقب بهذا اللقب كان هو رجل الدين الشامي الشهير تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني المتوفى 728هـ، والذي عُرف بهذا اللقب بين أتباعه وتلاميذه في تلك الفترة، وفيما بعد سُمي العديد من الأعلام بذلك اللقب، ومن أبرزهم كل من تاج الدين السبكي المتوفى 771هـ، وسراج الدين البلقيني المتوفى 805هـ، وجلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ، هذا إضافة إلى أن هذا اللقب قد تم استخدامه بشكل رسمي في الدولة العثمانية، إذ كان يتم تعيين أحد كبار العلماء ليتولى مشيخة الإسلام في إستانبول، وكان يُنظر إلى صاحب هذا المنصب على كونه أهم عالم دين في الإسلام السني في ذلك العصر.

الألقاب التشريفية عند الصوفية

عرف النسق الصوفي كثيراً من الألقاب التشريفية، والتي لا يمكن فهم معاني ودلالات الأغلبية الغالبة منها إلا بالرجوع لأدبيات التصوف، تلك التي تم تدوينها عبر القرون.

من بين تلك الألقاب، لقب «رجال الغيب»، وهو اللقب الذي ورد ذكره في بعض الأحاديث الضعيفة المنسوبة للرسول، ويشير لطائفة واسعة من الرجال الصالحين، الذين أودع الله فيهم بعض الكرامات والقدرات الخاصة، وهم يتباينون فيما بينهم من حيث القدرة والمنزلة، ففيهم الأقطاب، والأبدال، والأوتاد، والنقباء، والنجباء، ولكل مستوى من تلك المستويات مواهب تختلف عن البقية.

من الألقاب الصوفية المعروفة في القرن الثاني الهجري، لقب «شهيدة العشق الإلهي»، والذي لُقبت به الصوفية الشهيرة رابعة العدوية التي توفيت في 180هـ، والتي اشتهرت بالإقبال على العبادة، والتفرغ للطاعة، وكانت معروفة بمناجاتها الدائمة للذات الإلهية، وبكثرة القصائد الشعرية التي أنشدتها في حبها لله، عز وجل.

في القرن الثاني أيضاً، ظهر الصوفي الشهير بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال المتوفى 227هـ، والذي اشتهر بلقب «الحافي»، لأنه لم يكن يرتدي النعال، ويذكر ابن كثير الدمشقي في كتابه البداية والنهاية سبب ذلك، فيقول: إن بشراً قد «جاء مرة إلى حذّاء فطلب منه شراكاً لنعله فقال: ما أكثر كلفتكم يا فقراء على الناس؟! فطرح النعل من يده وخلع الأخرى من رجله وحلف لا يلبس نعلاً أبداً».

أما في القرن السابع الهجري، وهو القرن الذي شهد غلبة التصوف وازدهاره في عموم بلاد المشرق الإسلامي، فإن هناك مجموعة من الألقاب التي ارتبطت ببعض كبار المشايخ من الصوفية، من هؤلاء كل من محيي الدين بن عربي المتوفى 638هـ، وجلال الدين الرومي المتوفى 672هـ.

فيما يخص ابن عربي، فقد لُقب بلقب «الشيخ الأكبر» والذي يدل على عظم مكانته في علوم التصوف، ورياسته المطلقة على جميع السالكين في هذا الطريق، وكذلك لُقب بلقب «الكبريت الأحمر»، وهو أحد العناصر النادرة، التي كان الكيميائيون يجدّون في البحث عنها بشتى السبل في العصور الوسطى، الأمر الذي يؤكد أهمية ابن عربي في المِخيال الصوفي الجمعي، وفي ذلك كتب الصوفي المصري عبد الوهاب الشعراني كتابه «الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر».

أما جلال الدين الرومي، والذي كان يعيش في مدينة قونية الواقعة في بلاد الأناضول، فقد التصق به لقب «مولانا»، وهو لقب يُعرف به كبار العلماء في بلاد آسيا الوسطى منذ قرون، ولكن جرت العادة أنه إذا ما ذُكر مفرداً، فإن ذلك يعني أن الرومي تحديداً هو المقصود به.

علماء الصوفية الطرقيّة أيضاً نالوا حظهم الوافر من الألقاب التفخيمية، لا سيما «الأقطاب الأربعة»، وهم عبد القادر الجيلاني المتوفى 561هـ، وأحمد الرفاعي المتوفى 578هـ، وأحمد البدوي المتوفى 675هـ، وإبراهيم الدسوقي المتوفى 676هـ على الترتيب.

على سبيل المثال، عُرف الجيلاني بـ«الباز الأشهب»، والباز هو نوع من أنواع الصقور النادرة التي تستخدم في أعمال الصيد؛ كما عُرف البدوي بـ«شيخ العرب» لكونه كان معتاداً على وضع اللثام على وجهه، وعُرف كذلك بـ«السطوحي» لأنه كان يسكن على سطح المنزل، أما إبراهيم الدسوقي، فقد لقبه أتباعه بـ«أبي العينين»، وذلك لما تواتر عن قدرته على معرفة الغيب، وأن اللهـ عز وجلـ قد أمده بالعينين، عين البصر وعين البصيرة.

الألقاب التشريفية عند الشيعة الإمامية

مثلهم مثل أقرانهم من أهل السنة والجماعة، والصوفية، قام الشيعة الإمامية الإثنا عشرية بالاحتفاء بعلمائهم من خلال تلقيبهم بالعديد من الألقاب التشريفية، والتي احتفظت بمدلولاتها عبر القرون، ولعبت دوراً مهماً في حفظ الذاكرة الشيعية من أخطار النسيان والضياع.

على سبيل المثال، بقي اسم الإمام الثاني عشر، المهدي المنتظر، محمد بن الحسن العسكري، باقياً ومؤثراً في مِخيال الجماعة الشيعية، رغم مرور ما يزيد عن الألف عام على لحظة غيابه عن الأنظار، ولا يزال الشيعة يستذكرونه حتى الآن في كل مناسبة، ومع أداء كل طقس أو شعيرة، تحت اسم «صاحب الزمان».

المهدي لم يكن الوحيد الذي منحته الذاكرة الشيعية حضوراً مؤثراً، بل سنجد أن الشيعة الذين يقوم مذهبهم – بالأساس- على اتباع الأئمة من آل البيت النبوي، قد عملوا على تبجيل كل من تعود أصوله إلى أحد فروع الدوحة المحمدية، وذلك من خلال تلقيبه بـ«السيد»، وهو اللقب الذي يقابله لقب «الشريف» في الثقافة السنية التقليدية.

في السياق ذاته، اهتم المِخيال الشيعي بإثبات تفوق كبار علمائه من خلال تلقيبهم بلقب «آية الله»، والذي يشير إلى أن صاحبه قد وصل لمرتبة عالية من الاجتهاد، للدرجة التي تؤهله ليصبح مرجعاً أعلى للتقليد، وعلى الرغم من الاختلاف حول بداية استعمال هذا اللقب، فإن أغلب الظن أن العلامة الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي المتوفى 726هـ كان أول من أطلق عليه هذا اللقب.

من فوائد استخدام الألقاب التشريفية أيضاً، أنها قد احتفظت للطائفة الشيعية ببعض اللحظات الدامية والمؤلمة، ومن ذلك إطلاق لقب «شيخ الطائفة» على محمد بن الحسن الطوسي المتوفى 460هـ، وهو العالم الذي لعب دوراً مهماً في الحفاظ على التشيع، وتأسيس حوزة النجف الأشرف، بالتزامن مع تضييق السلاجقة الأتراك على الشيعة بعد دخولهم لبغداد؛ ومن ذلك أيضاً لقبا «الشهيد الأول» و«الشهيد الثاني»، واللذان لُقب بهما محمد بن جمال الدين مكي العاملي المتوفى 786هـ، وزين الدين العاملي المتوفى 965هـ على الترتيب، في إشارة للاضطهاد الذي تعرض له شيعة لبنان في العصرين المملوكي والعثماني.

في سياقٍ آخر، لعبت الألقاب التشريفية دوراً مؤثراً في إثبات تفوق علماء الشيعة على معاصريهم، ومن ذلك لقب «الشيخ المفيد»، الذي لُقب به محمد بن محمد بن النعمان العُكبري البغدادي المتوفى 413هـ، والذي تحكي المصادر الشيعية أن أحد أساتذته من المعتزلة قد لقبه به بعد أن أفحمه العُكبري في المناظرة التي جرت فيما بينهما؛ وعلى الشاكلة نفسها يأتي لقب «علم الهدى»، الذي لُقب به علي بن الحسين المرتضى المتوفى 436هـ.

يحكي عبد الحسين الأميني في كتابه الغدير، أن أحد الوزراء العباسيين قد مرض في زمن المرتضى، فرأى في منامه علي بن أبي طالب يحدثه قائلاً «قل لعلم الهدى يقرأ عليك حتى تبرأ. فقال: يا أمير المؤمنين ومن علم الهدى؟ فقال: علي بن الحسين الموسوي. فكتب إليه، فقال المرتضى: الله الله في أمري فإن قبولي لهذا اللقب شناعة علي، فقال الوزير: والله ما كتبت إليك إلا ما أمرني به أمير المؤمنين عليه السلام»، وهكذا شاع هذا اللقب بين الناس، وصار دليلاً دامغاً على علم ومكانة المرتضى بين علماء عصره.