أغلب القضايا والأسئلة التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا
لودفيج فتجنشتاين ورأيه عن سبب أغلب المشكلات الفلسفية

يُعدّ لودفيج فتجنشتاين من أهم فلاسفة القرن العشرين؛ إذ إن فلسفتَيْه -المبكرة والمتأخرة – كانتا بمثابة تحوّل رئيسيّ في الفلسفة المعاصرة، أشبه بالثورة على الفلسفة التقليدية؛ حيث غيّرت من مفهومها ووظيفتها ومجالها، كما كان له بالغ الأثر على التيار الوضعي والتحليلي في القرن العشرين، ولو لم نُرد أن نقول إنه أعظم فلاسفة القرن العشرين، فهو على حد تعبير دكتور فتحي المسكيني: أعلى موجات التفكير في القرن العشرين.


لودفيج فتجنشتاين بين عملَيْه!

ولد لودفيج فتجنشتاين في فيينا، أبريل 1889، لأب من أثرياء النمسا، تلقى بادئ الأمر تعليمًا منزليًا حتى بلغ الرابعة عشرة، ثم التحق بالمدرسة الثانوية ليتم تعليمه فأنفق فيها ثلاث سنوات وغادرها عام 1906؛ التحق بالكلية الصناعية ببرلين وغادرها بعد ثلاثة فصول دراسية فانتقل لإنجلترا عام 1908، وكان مفتونًا منذ صغره بالآلات؛ فاهتماماته وتعليمه منذ الصغر كانا يدفعانه بقوّة للاهتمام بالرياضيات والهندسة، وفي خريف عام 1908 قيّد نفسه كطالب بقسم الهندسة بجامعة مانشستر؛ وخلال ثلاث سنوات ظل مشغولاً بالملاحة الجوية وإجراء تجارب الطائرات الشراعية، واتجهت اهتماماته خلال تلك الفترة للرياضيات البحتة وأُسس الرياضيات، فقرأ كتاب برتراند رسل «أسس الرياضيات» وفُتن به، فتخلى عن الهندسة واتجه لدراسة أسس الرياضيات على يد برتراند رسل، وبالفعل التحق بكامبردج، وتتطورت العلاقة بينه بين راسل، فناقش معه المنطق والفلسفة مناقشة عميقة؛ وكانت لتلك الفترة أثر بالغ على حياته.

لم يُنشر لفتجنشتاين سوى كتاب وحيد في حياته هو «رسالة منطقية فلسفية»، وقد اعتقد فتجنشتاين أنه قام في «الرسالة» بحلّ كل المشكلات الفلسفية الأساسية التي طال الجدل حولها؛ والحق أن هذه الرسالة تركت بالغ الأثر على موضوعات المنطق في جامعة كامبردج، وأضحت النصّ الأكثر إعجابًا عند مشاهير حلقة فيينا؛ ولكن المناقشات التي أجراها فتجنشتاين مع أعضاء حلقة فيينا جعلته يُعيد النظر في الرسالة، حيث أدرك أنها لم تحلّ كل المشكلات الفلسفية الأساسية، فتطورت لديه أفكار جديدة تمامًا تتعارض مع فلسفته الأولى، فعاد لكامبردج في عام 1929، وأضحى بعد ذلك أستاذًا للفلسفة خلفًا لمور في عام 1939؛ وخلال هذه الفترة طوّر فتجنشتاين مقاربة فلسفية جديدة مختلفة بشكل كبير عن فلسفته المبكرة؛ ولم ينشر أي شيء آخر حتى وفاته عام 1951؛ ولكن في عام 1953 نُشر كتابه «بحوث فلسفية» والذي يُعد العمل الأكثر تأثيرًا في الفلسفة منذ الحرب العالمية الثانية.


الصورة في المعنى

على الرغم من أن الموضوع الرئيسي لفلسفتي فتجنشتاين المبكرة والمتأخرة هو اللغة؛ إلا أن البون شاسع بين أسلوب الرسالة وأسلوب البحوث؛ فعمله الأول كما تصفه ماري ماجين: «تجريدي للغاية، وتنظري ومضبوط ودوغمائي، أما عمله الثاني ففقراته محسوسة ووصفية ومبعثرة لحد ما، ولا يظهر الهدف الفلسفي الخفي له إلا بصعوبة، ورغم أن الكتابين لنفس المؤلف إلا أن مفهومه عن الفلسفة قد تغير تغيرًا عميقًا».

لقد رأى فتجنشتاين أن «أغلب القضايا والأسئلة التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا». هذا البحث عن منطق اللغة كان القاسم المشترك بين فلسفة فتجنشتاين المبكرة والمتأخرة؛ فالمشكلات الفلسفية ليست تجريبية بل هي مشكلات مفهومية ومنطقية. ونجدُ الفلاسفة يشيدون نظريات عن المعرفة والعقل واللغة والمعنى والواقع، وهو ما يرفضه بصورة واضحة فتجنشتاين المتأخّر؛ فليست مهمة الفلسفة بناء النظريات، وإنما توضيح طبيعة تفكيرنا في هذه الموضوعات، وجوهر الرسالة يكمن في معنى عميق وهو «أن ما يمكن قوله على الإطلاق يمكن قوله بوضوح؛ أما ما لا نستطيع أن نتحدّث عنه فلابد أن نصمت عنه». ولكن الرسالة تقع فيما يمكننا أن نعتبره موقفًا تنظريًا، فأحد أهدافها الأساسية بناء نظرية عن قدرة اللغة على رسم العالم؛ والفكرة الأساسية لهذه النظرية هي أن الجمل شكل من أشكال التصوير؛ فيما بات يعرف باسم «نظرية الصورة في المعنى».

ينطلق تحليل فتجنشتاين المبكر في خطين متوازيين؛ هما تحليل العالم وتحليل اللغة، فالعالم له بنية واللغة أيضًا لها بنية كذلك، والعالم مكون من مجموعة من الوقائع، وتتألف الوقائع من حالات وتفاصيل الواقع، وتتألف حالات الواقع من أشياء وهكذا. أما اللغة فهي مجموع القضايا، وتتألف القضايا من قضايا أولية وتتألف القضايا الأولية من أسماء؛ فتحليل العالم ينتهي بنا إلى أشياء، وتحليل اللغة ينتهي بنا إلى أسماء، والعلاقة بينهما تتمثل في كون «اللغة هي صورة للعالم»؛ فوظيفة اللغة ليست إلا تصويرًا للعالم الخارجي، يقول: «إن الرسم نموذج للعالم الخارجي … والقضية لا تُثبت شيئًا إلا بقدر ما هي رسم له».

والقضايا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة من حيث كونها وصفًا لواقعة من الوقائع؛ إذ اللغة تنحل إلى قضايا، وكذلك العالَم ينحل إلى وقائع، والقضايا تنحلّ إلى قضايا أولية والوقائع تنحل إلى وقائع ذرية، والقضايا الأولية مكوّنة من أسماء بسيطة لا يمكن تعريفها بغيرها، ولكنها تشيرُ مباشرة إلى أشياء، وكذلك الوقائع الذرية تتكون من أشياء بسيطة لا يمكن تحليلها بل يمكن تسميتها فقط.

وسَعْي «الرسالة» لإقامة حد للتفكير، أو بعبارة أدق حد للتعبير عن الأفكار، يُبين لنا رؤية فتجنشتاين لمعنى اللغة، وتبدو تلك الرؤية مشتركة في فلسفته؛ ففتجنشتاين يعتبر اللغة هي الفكر ولا يضع حدًا فاصلًا بينهما، بل إنهما شيء واحد، أو وجهان لعملة واحدة. ولكن الحد الذي يُريد فتجنشتاين أن يضعه للتعبير عن الأفكار هو حد يمكن وضعه فقط للغة، وما يخرج عن هذا الحد سيكون ببساطة لا معنى له؛ فالفكر هو القضية ذات المعنى.


التحول اللغوي

مصطلح «التحول اللغوي linguistic turn» وضعه جوستاف برجمان في كتابه «المنطق والواقع»، وأصبح شعارًا للفلسفة التحليلية، وتدين الفلسفة المعاصرة لفتجنشتاين بهذه النقلة، فالرسالة قدمت للفلسفة التحليلية ذلك التحول، بأن عيّنت حدود الفكر بتعيين حدود اللغة، بمعنى أنها وضعت حدًا بين المعنى واللامعنى؛ فأصبحت اللغة في مركز البحث الفلسفي المعاصر.

وعلى الرغم من تشابه معنى اللغة في فلسفتي فتجنشتاين إلا أن وظيفة اللغة قد تغيرت تمامًا، فنجده في مقدمة «بحوث فلسفية» يقول إنه اضطر إلى الاعتراف بوجود أخطاء فادحة في الرسالة، كشف عنها نقد الفليسوف فرانك رامزي، ونجده في «الفقرة 23» من البحوث يتهكم على نفسه وعلى رؤيته السابقة فيقول: «إن من الطريف مقارنة تعدد الأدوات في اللغة، وطرق استخدامها، أي تعدّد أنواع الكلمة والجملة، بما كان يقوله المناطقة عن بنية اللغة (بما في ذلك مؤلف كتاب رسالة منطقية فلسفية)»

فإذا كانت الرسالة تؤكد على أن للّغة ماهية فريدة قابلة للاكتشاف، ولها منطق تحتي وحيد يمكن تفسيره عن طريق تحليل بنية اللغة والعالم، فإن فتجنشتاين المتأخر يرفض أن يكون للغة منطق وحيد، فليست للغة ماهية واحدة بل هناك ممارسات لغوية مختلفة ولكل ممارسة منطقها الخاص.

وفي لقاء عام 1987 للفليسوف الأمريكي جون سيرل، سأله محاوره كيف انصرف فتجنشتاين المتأخر عن نظرية «الصورة في المعنى»؟ كان جواب سيرل بأن أفكار فتجنشتاين غاية في التعقيد، ولكن هنالك إجابة بسيطة إلى حد ما، وهي انتقال فتجنشتاين من استخدام «استعارة الصورة» لتوضيح طبيعة المعنى في فلسفته الأولى، إلى «استعارة الأداة أو الاستخدام». فيقول فتجنشتاين: «إذا تعين علينا أن نسمي أيّ شيء يكون حياة للعلامة، فلابد أن نقول إنه هو استعمالها».


لعبة اللغة وصورة الحياة

يستخدم فتجنشتاين مفهوم «لعبة اللغة» ليقول لنا إن «اللغة ليست نوعًا من الخيال أو الوهم اللامكاني واللازماني، وإنما هي ظاهرة مكانية وزمانية»، فألعاب اللغة هي صور اللغة التي يبدأ بها الطفل في الاستفادة من الكلمات، ومصطلح «لعبة اللغة» يوحي بأن اللغة فاعلة، فليست اللغة بنية صورية بالطريقة التي نجدها في الرسالة، بل هي فاعليات تحكمها قواعد، ولا تعمل القواعد بنفس الطريقة في كل ألعاب اللغة، فكما هناك ألعاب لها قواعد دقيقة مثل الشطرنج، هنالك ألعاب ليس لها قواعد مثل قذف الكرة. ومقارنة فتجنشتاين اللغة بالألعاب، تلفت انتباهنا للتماثلات بينهما؛ ولذا يستخدم فتجنشتاين مصطلح «التشابهات العائلية» وهو الذي منح ذلك المصطلح ثقله الفلسفي، فإذا نظرنا إلى العمليات التي نسميها «ألعابًا» مثل ألعاب الورق، وألعاب الرقعة، وألعاب الكرة، والألعاب الأوليمبية، هل نجد بينهم شيئًا واحدًا مشتركًا؟ وهل لا بد من وجود شيء واحد مشترك حتى نطلق على هذه الفاعليات جميعًا «ألعاب»؟

وهنا نجد فتجنشتاين يجادل بأننا إذا نظرنا إلى ما نسميه الألعاب، لن نجد شيئًا مشتركًا وإنما سنجد تماثلات وتشابهات وعلاقات، فإذا نظرنا إلى الألعاب ذات الرقعة بعلاقاتها العديدة المترابطة، ثم انتقلنا لألعاب الورق؛ سنجد تناظرات كثيرة بينها وبين المجموعة الأولى، ونجد صفات مشتركة عديدة قد اختفت بينما هناك صفات أخرى بدأت بالظهور، وإذا انتقلنا إلى ألعاب الكرة، نجد أن كثيرًا من المشترك يظل باقيًا في حين يزول الكثير أيضًا.

فالألعاب لا يجمعها أنها مسلية، أو أن هناك دائمًا مكسبًا وخسارة، أو تنافس بين لاعبين، لكننا نرى شبكة مركبة من التماثلات تتداخل وتتقاطع، وهي أحيانًا تماثلات شاملة وأحيانًا تفصيلية. ويحلو لفتجنشتاين أن يقول إن أفضل تعبير يحدد هذه التماثلات هو القول إنها «تشابهات عائلية»؛ لأن أوجه التشابه بين أفراد العائلة الواحدة مثل: البنية والملامح ولون العينين… إلخ تتداخل وتتقاطع بنفس الطريقة؛ فالألعاب هنا تكون عائلة.

واللغة ولعبة اللغة والعلامة هي مفاهيم التشابه العائلي، ويتم التفكير في القضية على أنها حركة في لعبة اللغة، تستمد معناها من اللعبة التي هي جزء منها، وتنشأ المشكلات الفلسفية نتيجة استخدام الكلمات في لعبة لغة وفقًا لقواعد لعبة لغة أخرى؛ واللغة كفاعلية تعتمد على استعمال الكلمات بوصفها أدوات؛ فيقول فتجنشتاين: «تأمل الأدوات الموجودة في صندوق العدد: توجد مطرقة وكماشة ومنشار ومفك […]، تجد أن وظائف الكلمات تتنوع مثلما تتنوع وظائف هذه الأشياء».

يدفعنا فتجنشتاين لتصور اللغة كجزء لا يتجزأ من حياة المتحدثين بها، ويستخدم لذلك مفهوم «صورة الحياة» فيقول: «أن تتصور لغة، يعني تمثّل صورة حياة». ويهدف مفهوم «صورة الحياة» والذي يماثل فكرة اللغة كلعبة، إلى رؤية لغتنا المطمورة داخل أفق السلوك غير اللغوي؛ فصورة الحياة الإنسانية ذات أساس ثقافي في طبيعتها، وفهم مجموعة من الناس لصورة حياتهم يعني إجادة الألعاب اللغوية الضرورية لممارستهم اللغوية الخاصة بهم، ونحن لا نصلُ إلى صورة العالم لدينا عن طريق الاقتناع بصحتها، وإنما عن طريق كوننا تربّينا عليها، فمحاولة التسويغ والمحاججة لاقتناع لا يمكن أن تحدث إلا داخل نسق، وذلك يستلزم أن النسق ليس له تسويغًا، لذا نجده يقول: «يجب أن نتذكر أن لعبة اللغة تقول شيئًا لا يمكن التنبؤ به، أعني أنها لا تقوم على أسس ليست معقولة (أو لا معقولة). إنها توجد مثل حياتنا».

المراجع
  1. – البحوث الفلسفية – لودفيج فتجنشتين، ترجمة: عزمي إسلام.
  2. – فتجنشتاين والبحوث الفلسفية – ماري ماجين، ترجمة: رضا زيدان.
  3. – فتجنشتين، تأليف: عزمي إسلام.
  4. – فتجنشتين – هانس سلوجا، ترجمة: صلاح إسماعيل.
  5. – Tractatus Logico-Philosophicus, By Ludwig Wittgenstein
  6. – Tractatus Logico-Philosophicus, By Ludwig Wittgenstein
  7. ON CERTAINTY, LUDWIG WITTGENSTEIN –
  8. John Searle on Ludwig Wittgenstein (1987) –