شهدت مصر المملوكية، موجات متنوعة من الأزمات الاقتصادية التي أثرت في حياة المصريين، خصوصًا البسطاء والفقراء منها، وهذا ما دفع بعض سلاطين المماليك لمد يد العون في محاولة منهم لتخفيف شدة الفقر عليهم. وفي سبيل تحقيق ذلك استعانوا بوسائل عدة.

بيبرس: محرك لأعمال الخير

ففي ربيع الآخر سنة 622 هـ، شهدت مدينة القاهرة ارتفاعًا في أسعار السلع، وقل الخبز، وبدأ الناس يبحثون عن الطعام خارج أسوار المدينة فذهبوا إلى الأراضي الزراعية، وأكلوا ورق اللفت والكرنب وعروق الفول الأخضر من شدة الجوع.

وعندما علم السلطان الظاهر بيبرس البُنْدقداري، نزل إلى دار العدل، وألغى تسعير السلع، وأمر الأهراء «مخازن الغلال» ببيع خمسمائة إردب يوميًا لضعفاء الناس، على أن يسمح لكل فرد بشراء ويبتين فقط (الويبة من الأوزان القديمة، ويقدر الإردب بـ6 ويبات)، وذلك لمنع الوسطاء من شراء الغلال وتخزينها.

كما أمر بحصر عدد الفقراء بالقاهرة والمدن المصرية، ثم وزع مسؤولية إطعام هؤلاء الفقراء على رجالة الدولة والأثرياء، وأمر بأن يصرف لكل فقير رطلان من الخبز لمدة 3 أشهر، وكان لهذه الخطوة تأثير واضح على أسعار السلع فانخفض سعر إردب القمح من 105 دراهم إلى 85 درهمًا، وبدأ التجار في فتح متاجرهم ووزعوا الصدقات تبعًا لما فعل السلطان.

أسهمت حلول السلطان في عدم تحول الأزمة إلى كارثة، ومشاركة التجار والأعيان في دعم الفقراء كما فعل السلطان وكبار رجال الدولة.

الناصر محمد: يقف مع البسطاء في وجه التجار

في سنة 736هـ، كانت موجة الغلاء التي حلت بمصر قد اشتدت، فوصل سعر إردب القمح من 15 درهمًا إلى 50 درهمًا، وإردب الفول إلى 50 درهمًا، ونتيجة لارتفاع الأسعار، قرر الأمراء عدم بيع الغلال لتحقيق أرباح أكثر مستقبلًا.

نتج عن ذلك مزيد من ارتفاع الأسعار، وصعوبة في الحصول على الخبز، مما دفع السلطان الناصر محمد بن قلاوون في البداية إلى استيراد القمح والغلال من غزة والكرك والشوبك من الشام، ثم أمر ألا يباع إردب القمح إلا بسعر 30 درهمًا، ومن يبيع بأكثر من هذا يسلب ماله، وهنا لجأ الأمراء إلى بيع القمح سرًا عن طريق السماسرة بسعر 60 و70 درهمًا للإردب.

وهنا قرر السلطان، تعين محتسب جديد هو ضياء الدين بن الخطيب، ومنحه سلطات واسعة، فذهب إلى مخازن الأمراء وحصر ما فيها من الغلال ودوّنها في سجلات، وأجبر الأمراء على عدم خروج الغلال إلا بموافقته أو بيعها إلا بالسعر المحدد 30 درهمًا للإردب، ومن رفض تعرضت أملاكه للنهب والسلب من قبل الحرافيش والسوقة.

أسهمت هذه الإجراءات في توفير السلع وخصوصًا القمح بسعر مناسب للبسطاء والفقراء، وعادت الأفران للعمل وتوفر الخبز لمن يطلبه، وهكذا، خفف معاناتهم.

مَن نجا مِن المجاعة قضى عليه الوباء: عهد الأشرف شعبان

في سنة 776هـ، رغم وفاء النيل الكافي فإن الأسعار ارتفعت في الأسواق بالقاهرة، فأصبح سعر إردب القمح 100 درهم، والشعير 60 درهمًا، والفول 50 درهمًا، واشتكى الناس من الغلاء، فقرر السلطان الأشرف شعبان (764-778 هـ/1362-1376م) تعيين محتسب جديد للقاهرة، هو شمس الدين محمد بن أحمد الدميري، الذي خصّص حمالين لبيع الخبز في القاهرة، وجعل كل ثلاثة أرطال إلا ربع رطل بدرهم، وسعد الناس بهذا السعر لكن لم تدم سعادتهم أكثر من 5 أيام، حيث تناقص القمح في الأسواق وكذلك الخبز.

يذكر أن الأسواق شهدت ارتفاعًا في الأسعار مع قلة السلع، فأصبح إردب القمح بـ105 دراهم، وإردب الشعير بـ60 درهمًا، وإردب الفول بـ55 درهمًا، وقدح الأرز بدرهمين، وقدح العدس والحمص بدرهم وربع، وأيضًا زاد سعر الزيوت واللحوم.

ومع انخفاض أجور العمال التي كانت تقدر بدرهم في اليوم، وشدة الغلاء، وارتفاع الأسعار كل يوم، أصبحت الحياة صعبة على فقراء القاهرة، فأكلوا خبزًا مصنوعًا من الفول والنخالة بدلًا من خبز القمح، ومع اشتداد الأزمة عليهم، قرر نائب السلطان الأمير منجك بن عبد الله اليوسفي، أن يتولى كل رجلٍ من رجال الدولة الأغنياء بعض الفقراء، وتوفير الطعام والماء لهم، وأكد أن أي حرفوش يضبط وهو يتسول سوف يصلب، وأسهم بذلك في تخفيف المجاعة، لكن كان الوباء في انتظار الفقراء الذين فروا من شدة الجوع، فمات منهم كثير.

السلطان برقوق: عدّل قراراته وأطعم الفقراء

ما بين عامي 796-798 هـ، شهدت القاهرة نقصًا في الطعام، نتيجة انخفاض منسوب مياه الفيضان، مصحوبًا بارتفاع في أسعار السلع، مما جعل الناس في مواجهة مع المجاعة من جديد.

لكن ما أعاق حدوث تلك المجاعة رغم ارتفاع الأسعار، أن السلطان برقوق عدَل عن قراره بفرض أسعار محددة لبيع السلع، كما أمر بخبز عشرين إردبًا من القمح، وتوزع على الفقراء من سكان القاهرة والقرافة، بحيث لم يُعرف أحدًا مات في هذا الغلاء من الجوع، بل اغتنى بعض الفقراء من بيع خبز الصدقة.

ولم تتوقف مساعدة السلطان برقوق للفقراء على توفير الخبز لهم، بل قاموا بتوزيع الصدقات عليهم، فمنح نحو 500 فقير تجمعوا عند الإصطبل السلطاني، 50 درهمًا لكلٍّ منهم، كما أقام موائد إطعام للفقراء فوزع اللحم والمرق والخبز على نحو 5 آلاف فقير بشكل يومي، ومن لم يأخذ طعامًا كان يمنحه نصف درهم للخبز ودرهمًا للطعام، وظل هكذا حتى وصلت الغلال الجديدة إلى القاهرة، فانخفضت الأسعار تدريجيًا، ويبدو أن سرعة تحرك السلطان برقوق في بداية الأزمة، كان حجابًا بين الفقراء والمجاعة أو تعرضهم للموت.

المؤيد شيخ: قمح الصعيد يسعفه

في سنة 818 هـ، كان سكان القاهرة بين رحى الوباء وارتفاع الأسعار، خصوصًا الفقراء منهم، فبجانب هبوط قيمة الدرهم الفلوس، أسهم ما سبق في صعوبة الحصول على الطعام، وبخاصة الخبز رغم أن المطاحن في تلك الفترة كانت تصنع الدقيق من خليط القمح والشعير والذرة، لكن السلطان في محاولة منه لتخفيف الأزمة وزع على العاملين في الأوقاف والفقراء بالقاهرة لكل واحد منهم 5 دراهم، إضافة إلى توزيع 6 آلاف رطلٍ من الخبز بشكل يومي.

وبدأ في جلب القمح من الصعيد بدلًا من الخارج، فوصلت السفن حاملة نحو ألفي إردب من القمح، ولكن لم تشهد الأسواق انخفاضًا في الأسعار، لذلك ظل المؤيد شيخ محافظًا على توزيع الخبز يوميًا، حتى وصلته من الصعيد سنة 819 هـ، ما يكفي الدقيق لخفض أسعار القمح في الأسواق.

أسهم القمح المقبل من الصعيد في الحد من الغلاء، وعودة الأسعار إلى معدلها الطبيعي في هذا الزمان، وعدم وفاة أحد نتيجة الجوع مع توزيع المؤيد شيخ للخبز على الفقراء.

الفقراء والمعاناة والسلاطين

صنعت موجات الأوبئة والغلاء صورًا متنوعة من تفاعل السلاطين لمواجهة المجاعات، واستطاع بعضهم النجاح في ذلك، وبعضهم كانت موجة الغلاء أكبر منه، فنجد السلطان الذي فتح مخازنه لضبط الأسواق، ومن قدم الخبز والطعام، ومن وزع المال لتخفيف شدة الجوع على الفقراء، وكذلك لمنع حدوث أي اضطرابات في القاهرة.

يذكر أن الفقراء عندما كانت ترتفع الأسعار، كانوا يسعون للفت نظر السلاطين، لأنهم الأجدر على ضبط حالة الأسواق، فتجد أن الفقراء لجأوا إلى تناول أغذية غريبة مثل خبز الذرة أو النخالة، أو التسول فكان يكثر الشحاذون في طرق ودروب القاهرة، أو الاضطرابات، أو الهجرات من الريف للمدينة، بحسب ما ذكر المقريزي في كتابه السلوك، مؤكدًا حدوث نحو 10 حالات كبري للمجاعة نقص الطعام في الفترة ما بين القرن الثامن والتاسع الهجري.

الخير في الرخاء

كما تفاعل السلاطين مع الأزمات، بادر بعضهم بأعمال الخير مساهمة منهم في تحسين حياة البسطاء، بداية من تخفيض أو إلغاء بعض الضرائب حتى تخصيص الأوقاف التي أنشاؤها خلال فترة جلوسهم على عرش مصر.

سلاطين بنوا «البيمارستانات» المستشفيات لعلاج الفقراء بالمجان، وأشهرها بيمارستان قلاوون الموجودة حاليًا في شارع المعز، وكذلك الأسلبة لتقديم الماء للبشر أو الدواب، التي انتشرت في شوارع القاهرة، ونجدها اليوم في شارع المعز وشارع الصليبة وحي السيدة زينب، هذا بخلاف المدارس المخصصة لتعليم الطلاب مثل مدرسة السلطان حسن.

فالسلاطين كما كانوا محبين لتخليد أسمائهم كانوا محبين للخير، لذلك اهتموا ببناء مؤسسات دينية وخيرية تحمل أسماءهم، تقربًا لله ومساهمة منهم لتخفيف المعاناة اليومية عن سكان القاهرة، لذلك نجد شوارعها غنية بالجوامع والمدارس والخانقاوات والأسبلة والبيمارستانات لخدمة الفقراء والمساكين.

المراجع
  1. السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي
  2. بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس
  3. المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك لسعيد عبد الفتاح