كانت المدينة أول عاصمة للدولة الإسلامية التي أقامها النبي، صلوات الله عليه وآله وسلم، وقد وقع اختيار النبي على المدينة التي كانت تسمى قبل هجرته إليها يثرب، لما للمدينة من أهمية استراتيجية؛ لأنها تقع على طريق التجارة المار بين مكة والشام.

واستمر الحال زمن الخلفاء الثلاثة (أبو بكر- عمر- عثمان)، فكانت الفتنة الكبرى، حيث حاصر الثوار منزل عثمان وأردوه قتيلاً في عام 35هـ، وعندما تولى علي بن أبي طالب، اتخذ من الكوفة عاصمةً له.

وعندما أسس معاوية بن أبي سفيان دولة بني أمية اتخذ دمشق عاصمة، ثم عادت الكوفة عاصمة في عهد أول خلفاء العباسيين (أبو العباس السفاح إلى أنْ بنى خليفته وشقيقه أبو جعفر المنصور مدينة السلام-بغداد).

تعددتْ عواصم الخلافة وانتقلت من مكان لآخر، فهل هناك أسباب استراتيجية وجغرافية ذات خلفيات اقتصادية واجتماعية وراء ذلك، أم أن الأمر كان يخضع لمزاج الخلفاء والحكام؟

 المدينة: العاصمة الأولى

لم تكن هجرة النبي محمد (ص) إلى المدينة عشوائية، فالنبي اختار المدينة لأسباب استراتيجية واقتصادية؛ لتكون مقراً له؛ وليتمكن من خلالها من مواصلة الدعوة للإسلام من جهة، وبناء الدولة الإسلامية من جهة أخرى. فالمدينة تقع على الطريق التجاري المار بين الشام ومكة، شمالاً وجنوباً، هذا الطريق التجاري كانت تمر فيه قوافل قريش؛ وهو ما حدا بالنبي بعد الهجرة؛ إلى أن يأمر المسلمين بقطع هذا الطريق على قوافل قريش المارة منه؛ وبذا يحقق النبي هدفاً استراتيجياً وهو تهديد مصالح قريش الاقتصادية والتجارية؛ وغزوة بدر عام 2هـ جاءت على هذه الخلفية.

تُعد المدينة واحةً زراعية؛ بسبب توافر آبار المياه وعيونها، وكانت أشجار النخيل هي المنتج الزراعي الأبرز للمدينة. يقول رضا الزواري في دراسته «موجز في تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام»: «فالماء كان متوافراً في يثرب، وقد حُفرتْ فيها الآبار في البيوت نفسها؛ مما مكن من القيام بزراعات كالنخيل والبساتين والحدائق…».

والبعد الآخر هو التنافس التقليدي بين يثرب (المدينة) ومكة، فهناك صراع بين أكبر مدينتين في الحجاز، مكة اتجه أهلها للتجارة؛ نظراً إلى أنها بوادٍ غير ذي زرع؛ فهي لا تصلح للزراعة، أما يثرب (الاسم القديم للمدينة) فاتجه أهلها للزراعة بسبب توافر المياه بعض الشيء، وهناك قطاع من أهلها كان يعمل بالتجارة كذلك؛ وهو ما قد يؤدي إلى التنافس بين تجارة مكة وتجارة المدينة، وكانت مدينة الطائف الواقعة جنوب مكة كذلك على خط المنافسة.

تكون سكان المدينة أساساً قبل الإسلام من قبيلتين عربيتين كبيرتين (وفدتا غالباً من اليمن بعد انهيار سد مأرب) بحسب الإخباريين، هما الأوس والخزرج، والثانية ربطتها بقريش صلات قرابة ومصاهرة؛ فحسب سيرة ابن هشام وغيره، فإنَّ هاشماً جد النبي تزوج من بني النجار (وهم فرع من الخزرج)، وأنجب ابنه عبد المطلب؛ فيكون بنو النجار الخزرجيون أخوالاً لعبد المطلب؛ وهو ما يفسر قبول اليثاربة الخزرجيين لدعوة النبي في بيعتي العقبة الأولى والثانية.

وهناك مكون آخر لسكان المدينة وهم: ثلاث قبائل يهودية (بنو قينقاع- بنو النضير- بنو قريظة)، وكان نشاط اليهود الاقتصادي مرتكزاً على الزراعة والربا والصرافة والثانية والثالثة متلازمتان بخاصة لدى اليهود. أما الأوس والخزرج فبعضهم عمل بالزراعة وهم قلة، وباقي الشرائح والقطاعات الاجتماعية كانت تعمل بالتجارة. وهناك فئة ثالثة عُرفتْ بفئة المنافقين الذين كان يقودهم عبد الله بن أُبيَّ بن سلول (وهو من الخزرج كذلك)، استطاع النبي محمد تجميع هذه الفئات والشرائح ضمن الوثيقة المشهورة (دستور المدينة)، وهو منقول في كتب السيرة، ومن خلال استراتجية مزدوجة تجمع بين الحرب والمسالمة؛ دانت المدينة وما حولها للنبي محمد.

حتى بعد دخول مكة وإخضاعها في العام الثامن من الهجرة، عاد الرسول إلى المدينة، وتُوفي ودُفن بها، وظلت المدينة عاصمةً ومقراً لحُكم الخلفاء الثلاثة (أبو بكر- عمر- عثمان).

عصر عثمان والتحولات الكبرى في المدينة

يشير المؤرخ والمفكر التونسي الدكتور هشام جعيط «الفتنة: جدلية الدين والسياسة»، إلى حدوث تحولات بنيوية في تركيبة المدينة المنورة السكانية؛ وهي جاءت انعكاساً لتراكمات بطيئة منذ أن خرجت الفتوحات العربية في زمن أبي بكر؛ وبعد القضاء على حركات التمرد في أنحاء الجزيرة العربية بعد وفاة النبي. وفي عهد عمر اتسعت الفتوحات أكثر؛ وأصبحت الثروات تتكدس؛ وفي أيام عثمان كانت هذه التراكمات بدأت تؤتي ثمارها، وبدأت تحدث تحولات أدت إلى تصدع المجتمع الإسلامي كله (أحداث الفتنة المعروفة: 35هـ)، التوترات التي شهدتها المدينة حينئذٍ كانت إيذاناً وإنذاراً بأن تكون عاصمة الخلافة خارجها، وهو ما حدا بعلي بن أبي طالب (رابع الخلفاء) أن يذهب من توه إلى الكوفة.

لماذا الكوفة؟

لم يصبح وضع المدينة مستقراً منذ النصف الثاني من حكم عثمان الذي حكم بين عامي (23- 35هـ)، وجاءت إلى المدينة أقوام من كل الأمصار المتمردة على حكم عثمان (الثوار/ قتلة عثمان) وأصبح بأيديهم مقاليد الأمور، وهو ما أشار إليه الدكتور الحبيب الجنحاني (المجتمع العربي الإسلامي: الحياة الاقتصادية والاجتماعية)، من الناحية الأخرى كان العدد الأكبر من الصحابة بدأ يترك المدينة وعموم الحجاز ويستقر في البلدان المفتوحة مثل الشام والعراق ومصر…..وغيرها.

وكانت مدينتا الكوفة والبصرة (تأسستا في العراق في خلافة عمر: الأولى أسسها سعد بن أبي وقاص، والثاني عتبة بن غزوان)، وكان التأسيس يخدم أهدافاً عسكرية لفتح بلاد فارس واستكمال فتح العراق والشام. وكان إسهامهما في الثورة على عثمان كبيراً، فبحسب الروايات كان وفدا الكوفة والبصرة من المحاصرين لدار عثمان، ومن مثيري الشغب في المدينة، ونتيجة النمط الاقتصادي كانت الكوفة والبصرة من مناطق الاستثمار لدى أثرياء الصحابة وبخاصة الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، وكانت البصرة تحديداً أهم منطقة في العراق تجتذب التدفقات الاستثمارية لأثرياء الصحابة في مزارعها وعقاراتها ومحاصيلها وتجارتها.

أما الكوفة فعُرف هواها ناحية علي بن أبي طالب (الخليفة الرابع)، وكانت دائماً مشاغبة منذ عصر عثمان بسبب وضعيتها المعقدة؛ فهي بحسب الدكتور هشام جعيط «الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية» تقع على طريق تجاري بين الحجاز والعراق يمر عبر مناطق وسط الجزيرة العربية، وهي مدخل للعراق من الجنوب، وكذا الخليج، ومجال حيوي كذلك لكل من بلاد فارس (العجم)، وكذلك الشام.

هذه الوضعية أعطت الكوفة أهمية استراتيجية وكذلك حضارية (ثقافية): حيث تمازجتْ فيها الحضارات العربية والفارسية والآرامية وتراث ما بين النهرين القديم.

يمكن القول إن ترك الإمام علي للمدينة واتخاذه الكوفة عاصمة له يعود إلى: الوضع المتأزم حيث تم الإعداد للخروج عليه من قبل الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن الزبير ومعهم السيدة عائشة بنت أبي بكر، وبنو أمية الذين في الحجاز، وتوجه هؤلاء إلى العراق وتحديداً البصرة والكوفة وذلك عام 36هـ (معركة الجمل). والأمر الآخر هو وجود أغلب شيعة الإمام علي ومناصريه في الكوفة؛ فلم يعد الحجاز كما كان سابقاً بسبب ما حدث من تحولات؛ فضلاً عن فقره الاقتصادي، والمعروف أن العراق كان يتميز بثرائه الاقتصادي بخاصة المجال الزراعي؛ فكان الخليفة الرابع يبحث بالتأكيد عن وضع اقتصادي أفضل يساعده في تمويل حروبه ضد مناوئيه.

أيضاً كانت الكوفة قريبة من بلاد الفرس ووجود عدد كبير من الفرس الفقراء (الموالي) الذين أضيروا من سياسات التمييز بينهم والعرب؛ وهؤلاء وجدوا في علي وأبنائه خير من يعبر عن مصالحهم وهمومهم؛ وسبب اقتصادي آخر هو غنى وثراء بلاد الفرس المتاخمة للعراق كان يمكن أن تساعد من خلال جباية خراجها الكثير وجزيتها في إبقاء بيت مال الخلافة في حالة اقتصادية ممتازة.

الخلافة الأموية (دمشق: 41- 132هـ)

قُتل الإمام علي في رمضان عام 40هـ في مسجد الكوفة على يد عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، وكانت الظروف قد نضجتْ لمعاوية بن أبي سفيان الذي كان أميراً للشام منذ زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وكان معاوية ممثلاً لمصالح الأرستقراطية القرشية والعربية وممثلاً بشكل خاص لمصالح بني أمية بحسب (طه حسين في الفتنة الكبرى)، يتحين الفرص من أجل الوصول للحكم، وجاءت الفرصة عام 41هـ عندما تنازل الإمام الحسن (الابن الأكبر لعلي وخليفته) عن الحكم لمعاوية، بدأ معاوية على الفور بناء دولة بني أمية، وكان دمشق حاضرتها وعاصمتها.

موقع دمشق وأهميتها الاستراتيجية

دمشق من المدن الآرامية القديمة، وكانت مركزاً لإحدى الممالك الآرامية وعاصمة لها في نفس الوقت، وهي التي قادت الممالك المتحالفة ضد هجمات الآشوريين الذين عبروا الفرات ودخلوا الشمال السوري، وذلك في القرن الثامن قبل الميلاد.

حِسْ أمية بن عبد شمس بن عبد مناف التجاري (الجد الأعلى للسلالة الأموية)، جعله يتخذ من الشام مستقراً له (بخاصة بعد نفيه من قبل قريش لمدة عشر سنوات بسبب منازعته عمه هاشم بن عبد مناف)، وقد فصَّل المقريزي في رسالته: النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم ذلك الخلاف الذي يعود للجاهلية بين البطنين القرشيين.

إذا صدقت روايات الإخباريين فالشام كانت ذات هوى أموي قبل إعلان قيام الدولة الأموية، وطبيعي أن يستفيد الحفيد معاوية من هذه الوضعية، ويجعل من دمشق ذات التقاليد الآرامية والبيزنطية حاضرة لدولته، فهو قد لاحظ بحصافة عقله وضعية دمشق على طرق التجارة الدولية القادمة من الجزيرة العربية عبر الحجاز، ومن العراق وفارس ومن حوض البحر المتوسط، وبلاد الأناضول والقوقاز وحوض البحر الأسود.

في كتابه «تاريخ مصر الاجتماعي والاقتصادي في ضوء نمط الإنتاج الآسيوي»، يرى المفكر المصري أحمد صادق سعد، أن وصول الأمويين للحكم يعني انتصار الجناح التجاري (الطبقة التجارية) المكية، التي يمثلها بنو أمية، وكان الجانب الأكبر من التجارة في أيدي الذميين من اليونان والسوريين المقيمين في الإسكندرية والموانئ السورية، وهو ما أبقى الروابط التجارية مع البيزنطيين رغم حروب الصوائف والشواتي (نسبة للصيف والشتاء) بين الجانب الإسلامي والبيزنطي وكانت مسرح أحداثه منطقة آسيا الصغرى (الأناضول/ تركيا الحالية). ولكن بتطور الظروف الاقتصادية استطاع الأمويون بناء اقتصاد متين بخاصة في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان الذي صُكتْ في عهده أول عملة إسلامية، وبدأت حركة تعريب الدواوين.

إذن كان اختيار الأمويين لدمشق اختياراً له وجاهته وأهميته من الناحية الاقتصادية (طرق التجارة التي أشرنا إليها سابقاً)- القرب من حدود الدولة البيزنطية- والقرب كذلك من حوض البحر المتوسط (وذلك كان محرضاً على إنشاء أسطول إسلامي)؛ فازدهرتْ صناعة السفن، وبناء الأساطيل الضخمة لمهام عسكرية أو تجارية.

عبد الله بن الزبير ومحاولة العودة إلى الحجاز

أعلن عبد بن الزبير بن العوام نفسه خليفة؛ على إثر تصدع البيت السفياني (نسبةً لأبي سفيان)، بعد وفاة يزيد بن معاوية، وتنازل ابنه معاوية الثاني عن الخلافة؛ دبت الفتن أرجاء العالم الإسلامي، واحتدم الصراع بين عرب الشمال (العدنانية) والجنوب (القحطانية) والثانية كانت ضمن قواعد آل سفيان، والأولى كانت تناصر ابن الزبير في الحجاز، وترغب في عودة الخلافة إلى الحجاز كمقر وبخاصة مكة، واحتدم الصراع وحدثتْ معركة مرج راهط شمال سوريا، انتهتْ بهزيمة العرب العدنانية، وتولي مروان بن الحكم الخلافة (رأس البيت المرواني: الفرع الثاني من بني أمية).

ابن الزبير حاول أن يستفيد من طريق التجارة بين الحجاز والعراق (في فترة سيطرته على العراق قبل خروج المختار بن أبي عبيد الثقفي عليه)، وكذلك طريق التجارة إلى اليمن (مكة – اليمن)، وموانئ البحر الأحمر والمحيط الهندي، المتصلة بخليج عمان وبلاد فارس والسند بخاصة مكران. عندما تولى عبد الملك بن مروان وبمعاونة قائده الحجاج بن يوسف استطاع القضاء على ابن الزبير واستعادة الحجاز، كما قضى على خوارج العراق ووسط الجزيرة الذين هددوا طرق التجارة الشرقية، ولم تعد الخلافة ثانية للحجاز منذ هذا التاريخ.

بغداد- سامراء (145- 656هـ)

استطاع العباسيون الاستيلاء على السلطة عام 132هـ، واتخذ أبو العباس (السفاح) أول خلفاء بني العباس من الكوفة مقراً لدولته الجديدة كبديل عن دمشق التي ظلت عاصمة مقراً للخلافة الإسلامية طوال الحقبة الأموية الممتدة قرابة القرن (41- 132هـ)، واتخاذ العباسيين للعراق كمركز لدولتهم له عدة اعتبارات وأسباب سنتفحصها أثناء حديثنا عن بغداد. في عام 145هـ/ 762م، قرر ثاني الخلفاء العباسيين (أبو جعفر المنصور) بناء مدينة جديدة؛ لاتخاذها حاضرة لدولته؛ فوقع اختياره على المنطقة التي سميت بغداد أو مدينة السلام.

في دراسة فرانسواز ميشو (بغداد في العصر العباسي عاصمة عالمية متعددة الطوائف)، ضمن كتاب ضخم حررته الدكتورة سلمى خضراء الجيوسي «المدينة في العالم الإسلامي»، تشير هذه الدراسة إلى خلفيات بناء بغداد، والعوامل التي وراءها كي تصبح عاصمة العالم آنذاك. فهي تقول: «فمن الآن فصاعداً سوف تصبح عاصمة الدولة بعيدة عن مناطق المتوسط، وبالأحرى في الشرق، في جوار بلاد فارس وثراوتها وسلعها المادية والثقافية، وفي الرجال والجنود والعلماء».

في كتابه: «مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي»، يشير مؤلفه الباحث العراقي الدكتور عبد العزيز الدوري إلى بناء المنصور لبغداد، واختياره لذلك الموضع؛ بسبب وقوعها في مركز وسط بين المواصلات البرية والمائية. وأن التجارة كان عاملاً في هذا الاختيار. وقد أورد اليعقوبي (من مؤرخي القرن الثالث) في كتابه «البلدان» سبباً آخر وهو بناء بغداد بين نهري دجلة والفرات، ومن ثم «تأتيها التجارات براً وبحراً».

عندما بدأ الأتراك يكثرون وبخاصة زمن المعتصم بن هارون الرشيد (218- 227هـ)، ونتيجة حدوث الفتن بين الجند الأتراك وأهالي بغداد، والمناوشات الدائمة، قرر المعتصم التوجه شمالاً وبنى مدينة سُرَّ من رأي، التي خُففتْ لسامراء (بحسب معجم البلدان لياقوت الحموي)، واتخذها المعتصم مقراً له ولحاشيته بديلاً عن بغداد؛ لتعود بغداد مرة ثانيةً عاصمة وتنتهي بدمار المغول لها 1258م/656هـ زمن آخر خلفاء العباسيين في العراق المستعصم بالله الذي ذبحه التتار.