لطالما تمتَّع حي الشيخ جراح في القدس الشرقية بموقعٍ استراتيجي جعله شوكة في حلق اليهود طوال لحظات القتال التي جمعتهم بالعرب خلال معارك الاستيلاء على القدس، التي جرت بين الطرفين في العام 1948م.

فذلك الحي الذي نشأ في أواسط القرن التاسع عشر ميلاديًّا، على أراضٍ تمتد شمال البلدة القديمة للقدس، كأحد أشكال التغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها القدس، وتمثلت في رغبة بعض العائلات المقدسية في تدشين بيوت صيفية فاخرة في عددٍ من الأحياء الجديدة خارج سور البلدة، أشهرها القصر المملوك لمفتي القدس «طاهر أفندي» (1842م- 1908م)، والذي كان رئيسًا لبلدية القدس، وهو والد مفتي القدس الشهير «الحاج أمين الحسيني»، الذي قام بجهودٍ كبيرة لمقاومة النفوذ الصهيوني (1895 – 1974م)، وعُرف هذا القصر في الأدبيات الفلسطينية باسم «كرم المفتي» لكثرة مزروعاته من الزيتون والكروم والتفاح، وتحوَّل لاحقًا إلى مقر لفندق «شبرد»، واستولى الجيش الإسرائيلي عليه وهدموا أجزاءه شيئًا فشيئًا تمهيدًا لاستبدال مستوطنات بها.

في تلك الأثناء كفل موقع الحي المهم المُطل على الطريق إلى جبل المشارف، الذي ضمَّ مستشفى «هداسا» جيد التجهيز ومستوطنة الجامعة العبرية الواقعة شرقًا، أن يحيل العرب المقيمون به حياة سكان تلك المستوطنات جحيمًا.

يقول «دوف جوزيف»، الحاكم العسكري الصهيوني للقدس خلال حرب 1948، في كتابه «المدينة المؤمنة: حصار القدس»، إن الحي اليهودي في البلدة القديمة من القدس كان محاطًا بالكامل بأماكن مكتظة بالعرب.

يضيف:

أكثر المراكز العربية التي أزعجتنا أكثر من غيره هو حي الشيخ جرَّاح؛ لأنه جعل العرب في وضعٍ يسمح لهم بإطلاق النار على الطريق المؤدي إلى جبل المشارف ومستشفى هداسا، حتى إننا اضطررنا إلى نقل أطباء المشفى في حافلات مغطاة بالدروع، كما أصبح انتقال الطلاب إلى الجامعة مستحيلًا.

ومن أجل هذه الأهمية لم تنقطع المعارك التي خاضها اليهود مع العرب من أجل السيطرة على الحيِّ، استبسل المقاتلون العرب في الدفاع عن تلك البقعة من الأرض، وفشلت كل المحاولات اليهودية للاستيلاء عليها، وانقضى عام 1948م، برغم مآسيه، وبقي الشيخ جراح في أيدي العرب.

وإن لم يمنع هذا الصهاينة من الحلم بالعودة لهذا الحي مُجددًا بعد 19 عامًا.

في عام 1967: سرق الصهاينة كل شيء

اشتهر الصحفي «روبرت موسكين» بتغطية الصراعات في الأماكن المضطربة من العالم، ومن أعماله الشهيرة في هذا الصدد كتاب «المعركة من أجل القدس»، الذي غطَّى من خلاله ما جرى في القدس خلال الفترة من 5 إلى 7 يونيو عام 1967م.

في كتابه انحاز موسكين بشكلٍ صارخ إلى وجهة النظر الإسرائيلية، وقدَّم جنود جيشها كأنهم أسود يدافعون عن مدينتهم المقدسة، لكنَّه قدَّم في عمله تفاصيل مهمة جدًّا لطبيعة المعارك التي جرت بين الجانبين الإسرائيلي والأردني في جميع أنحاء القدس، وبالطبع كان على رأسها الحي الاستراتيجي الشيخ جراح.

استمع روبرت عبر الراديو إلى أن الإسرائيليين يحتلون أماكن في القدس العربية؛ وصلوا إلى بوابة هيرود وعبروا حيَّ الشيخ جراح.

في هذه الأثناء كانت هناك قوة من المشاة الأردنيين معنية بالدفاع عن الحي، حيث شهدوا هجومًا من مظليين إسرائيليين مُصاحبًا بهجوم جوي مكثف مكَّن اللواء الإسرائيلي من اختراق الحي العربي المكتظ بالسكان بصعوبة شديدة.

وفقًا لرواية موسكين، فإن الجنود الأردنيين دافعوا عن الحي ببسالة، وعندما اقتحمت القوة الإسرائيلية الحي على شكل عمودين قاومهم الأردنيون من مبنى إلى آخر، لكن القوات الإسرائيلية تدفقت على الحي ببسالة، حتى إن قائد القوة الأردنية اعتقد من مركز قيادته تحت الأرض أن اليهود يقفزون فوق خطوطه بهيليكوبتر.

اقتصر تسليح الأردنيين على أسلحتهم الشخصية، لم يمتلكوا دروعًا ولا أي دعم مدفعي، وإزاء صعوبة الوضع سأل ضابط صغير في السن القائد الأردني: اليهود يُحاصروننا من كل جانب، ماذا أفعل؟ فأجابه: «هذه معركتك، قاتل حتى آخر رجل».

وصف روبرت المشهد في كتابه قائلًا:

قاتل الجنود الأردنيون حتى لقوا حتفهم، لم يكونوا مستعدين لاتِّباع أوامر الانسحاب التي أصدرها لهم الضباط، لقد كانوا «عربًا حقيقيين»، حاربوا حتى آخر رصاصة حتى قُتلوا، ولم يستسلموا أبدًا، هذا أمر يبعث على الفخر، لقد كانوا مقاتلين جيدين، وماتوا من أجل القدس.

وينقل الصحفي شهادات بعض القادة العسكريين الإسرائيليين بأن جماعات من المدنيين اليهود قامت بعمليات نهب واسعة لبيوت الحي فور الاستيلاء عليه، اعترف جنرال إسرائيلي كبير لروبرت قائلًا: «تصرف بعض اليهود بطريقة بغيضة، وقمنا بحبسهم»، من أبرز المنازل التي تعرضت لأعمال نهبٍ منزل القنصل الإسباني الذي يقع بالقرب من الشيخ جراح، وكشف دبلوماسي أمريكي أن الإسرائيليين «قاموا بتعرية المنزل، سرقوا مجموعة كبيرة من الفضة، أخذوها، لقد أخذ الإسرائيليون كل شيء».

شاهد عيان

كل يوم الأهالي كانوا يتعرضون للضرب والقتل والاعتقال، كوسيلة من وسائل الاحتلال لإجبارهم على ترك بيوتهم بإرادتهم.

بتلك الكلمات بدأ «يعقوب أبو عرفة»، 58 عامًا، فلسطيني يعيش في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة، شرح المعاناة التي تعرض لها أهالي الحي بعد نكسة 1967.

وقال الرجل الخمسيني في حديثه لـ«إضاءات»: عمري كان 5 سنوات حينها، وأتذكر كل شيء تمامًا، فبعد النكسة بدأت الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية تطالبنا بإخلاء البيوت، على اعتبار أن الحي أصبح ملكًا لهم بعد احتلال القدس، وذلك كان يتم يوميًّا بحراسة شرطة الاحتلال الإسرائيلي.

وأشار «يعقوب» إلى قصة بداية الحي، قائلًا: «حي الشيخ جراح بنته الحكومة الأردنية، عندما كانت القدس تحت سيادتها، بالتعاون مع وكالة الغوث، للعائلات المُهجرة بعد نكبة 1948، وكان مشروعًا لتوطين اللاجئين، وحصلنا على هذه البيوت في مقابل التنازل عن حق اللاجئ»، مضيفًا: «كل يوم نتعرض للضرب والاعتقال والإصابات الخطيرة، حيث تتعمد إسرائيل إصابة الجزء العلوي بقصد القتل، بالإضافة إلى فرض الضرائب بشكل مخيف، وضغط بكل الطرق والوسائل؛ بهدف تفريغ القدس كلها من الفلسطينيين، وتوطين المستوطنين القادمين من أوروبا وأمريكا».

واستطرد «يعقوب»: بعد احتلال القدس أصبحنا نتعرض لهجمة شرسة وعنصرية من قبل إسرائيل بصفة عامة، والسياسيين ورجال الدين الإسرائيليين المتشددين بصفة خاصة، فصاروا يقولون لشعوبهم إن العرب مجرد فئران وصراصير، وإن من يقتل عربيًّا «سيدخل الجنة».

وكشف الرجل الفلسطيني عن أنه يعيش حياة صعبة تحت الإدارة الإسرائيلية «يا دوب بنلاقي لقمة العيش، حيث أصبحت إسرائيل تحاربنا في مصادر رزقنا، بهدف التضييق علينا»، ثم يكمل الرجل الخمسيني حديثه عما يتعرض له حي الشيخ جراح من اختناقات لجعله يترك بيته بإرادته. وأكد أن الاحتلال يحاول الضغط على الأهالي أيضًا من خلال المحاكم الإسرائيلية غير العادلة؛ لإثبات أحقيتهم في ملكية الحي؛ إلا أنهم حتى الآن لم يقدموا ما يثبت ذلك؛ لذا يضطرون إلى تأجيل الجلسات بين الحين والآخر.