أجواء حذرة كانت تخيم على أزقة وشوارع حي الشيخ جراح الواقع بالقدس الشرقية، عقب ساعات قلائل من صلاة العيد؛ حيث تجولت الفلسطينية جنا حنون وإحساس ثقيل يتملك منها، لا سيما حين اقتربت من منزل عائلتها التي هُجرت منه قبل اثنتي عشرة سنة، فطاردتها ذكريات مؤلمة حاولت عبثًا إبعادها عن ذهنها، حتى وصلت إلى مظاهرات العائلات المهددة بالمصير نفسه، لدعمهم ولمشاركتهم هتافهم المندد بعنصرية قوات الاحتلال والمستوطنين الذين يسعون لسرقة منازلهم العتيقة.

هذه المظاهرات ليست بالجديدة، فعلى مدار أيام وليالي الشهر الكريم، لم تتوقف الاضطرابات داخل الحي الواقع في مدينة القدس التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967، بين فلسطينيين ومستوطنين يهود على خلفية دعوى قانونية طويلة الأمد ضد عائلات فلسطينية تواجه خطر الإخلاء من منازلها المقامة على أراض يطالب بها مستوطنون، هؤلاء الذين يرتعون داخل منزل عائلة جنا الذي سكنه جدها في عام 1956، فثبتت عينيها على المنزل بينما وقفت وسط المتظاهرين في الجانب المقابل «كأنه التاريخ بيعيد نفسه.. يلي صار معنا من تهجير في الـ2009 بيصير مع باقي العائلات حاليًا».

لم تتملك جنا -التي باتت تسكن مع أسرتها في «بيت حنينا» بالقدس- نفسها ما أن أُخبرت من  قِبل صديقتها أصالة القاسم قبل أسابيع بقرار الإجلاء من بيتها ضمن (28 عائلة) بالشيخ جراح، تسرب إلى قلبها إحساس مرير تعلمه جيدًا «الترقب من مصير معتم وقاسي.. إنك تنطرد من منزلك يلي فيه ذكرياتك وأحلامك وتبقى بالشارع»، فهبت للذهاب إلى ذاك الحي الذي تعمدت على مدار اثنتي عشرة سنة اجتناب الاقتراب منه «أنا ما بتذكر سوى الأيام الصعبة يلي عشناها قبل ما يطردونا ويسرقوا بيوتنا».

بخطوات وجلة ثقيلة دلفت جنا إلى حي أبيها وجدها؛ حيث ولدت وكبرت ولعبت وسط رفاق شتت الاحتلال شملهم، فلم تعد تعرف وجهتهم، مرت بالمنازل واحد تلو الآخر، مشاعر مختلطة هاجمتها جيوشًا وفرادى، حتى جاءت اللحظة العاصفة «أول ما مريت بمنزلنا ضلّيت أتنفس بصعوبة، جسمي كله ارتجف»، فخانتها قدماها لتجبرها على الجلوس على درج البيت الذي تغيرت ملامحه في عينيها «ثواني معدودة ونهضت من مكاني، ما قدرت أتحمل أشوف حدا من المستوطنين داخل بيت عائلتي»، فواصلت طريقها إلى بيت «القاسم».

أحداث حي الشيخ جراح

داخل بيت القاسم، جلست أصالة رفقة أشقائها تنتظر قدوم صديقتها المُهجَّرة سابقًا «جنا»، ولم تتبدَ أي من أمارات العيد على المنزل الذي اكتسى بحُزن تجلى في كل ركن وزاوية به، إذ لم تتوقف الشابة العشرينية عن التفكير في مصير عائلتها التي هُجرت وقت النكبة من بلدهم «يافا» عام 1948، ليسكنوا بـ«الشيخ جراح»، إذ ما وقع ما لا تتمناه أبدًا وباتوا على أعتاب التهجير القسري للمرة الثانية «بيت سيدي وستي وأمي، لوين بدنا نروح إذ سرقوا بيتنا»، تتساءل أصالة القاسم.

لم تكن وُلدت بعد أصالة حين فوجئ أهلها في عامٍ مشؤومٍ 1972 بدعاوى قضائية من قِبل لجنة اليهود السفارديم، ولجنة كنيست إسرائيل (لجنة اليهود الأشكناز)، تزعمان فيها بامتلاكهم الأرض التي أقيمت عليها المنازل في العام 1885، وذلك بعد سن قانون الشؤون القانونية والإدارية في إسرائيل الذي نص على أن اليهود الذين فقدوا ممتلكاتهم في القدس الشرقية عام 1948 يمكنهم استردادها، الأمر الذي سهّل المطالبة من المحكمة إخلاء 4 عائلات من منازلها في الحي بداعي «الاعتداء على أملاك الغير دون وجه حق»، بحسب الائتلاف الأهلي لحقوق الفلسطينيين.

وصلت سليلة عائلة حنون لتكون بجانب صديقتها سليلة عائلة القاسم التي عانت الأمرين طيلة الشهر الكريم، من اعتداءات قوات الاحتلال عليهم ومضايقات لا تنتهي من قِبل المستوطنين الذين استولوا على منازل العائلات التي هُجرت بين عامي 2008 و 2009 «اعتدوا على شقيقتي حين اقتحموا البيت وأصابوها في يدها بكدمات»، وذلك ما إن أعلن الجيش الإسرائيلي إطلاق صاروخ من قطاع غازة من قِبل فصائل فلسطينية على تل أبيب، وذلك في الـ8 من شهر مايو الجاري، وهو ما كان مجرد مُقدِّمة للمزيد من الأحداث المتصاعدة العنيفة التي عاشتها البلاد على وقع «أحداث الشيخ جراح».

لم يكن ثمة مجال للحديث عن العيد ومظاهر الاحتفال به بين الصديقتين، كما لم يكن هناك تساؤل عن كعك العيد الذي لم يكن يخلو منه في الأيام الخوالي، إذ انخرطتا في الحديث عن الوضع الراهن والمظاهرات والاعتداءات التي حدثت من قِبل قوات الاحتلال على الأهالي في القدس والقصف المتكرر الذي تعرض له أهل غزة، حتى تطرقتا للحديث الذي حاولتا الابتعاد عنه منذ بداية مجلسهما «إذا فينا انطردنا من بيتنا وين بدنا نروح؟»، طرحت أصالة السؤال مجددًا، حتى قاطعها صوت جرس الهاتف الخاص به، فهرولت صوبه لتفاجأ بوالدها على الطرف الآخر يخبرها بعدم قدرته على المجيء إليهم من مدينة رام الله؛ حيث يسكن.

«والدي صارله أكتر من 15 سنة عايش برام الله، لأنه مو مولود بالقدس»، فيستغرق ثلاثة أيام بالتمام على الحواجز الأمنية إذا أراد رؤية أبنائها في «الشيخ جراح»، لكن الأحداث التي وقعت مؤخرًا صعبت من تواجده معهم خلال عيد الفطر وبات وصوله إليهم أمرًا مستحيلاً، فأغلقت الهاتف وإحباط كبير يتملكها، لتعود إلى صديقتها التي أخذت بدورها تخفف حدة التوتر الذي بدا عليها، والذي كان يخفت تلقائيًا في السنوات الماضية قبل وفاة والدتها «والدتي توفت من 10 سنوات وبقينا أنا واخواتي الـ7 وزوجة أخي الكبير وأبنائه بالبيت».

امتد حديث الفتاتين، لم يقطعه سوى دوي انفجار شديد صم الآذان، فهرولتا صوب هواتفهما لمعرفة ما يحدث، فأدركتا أن الاشتباكات بدأت مجددًا بين قوات من حركة حماس وإسرائيل امتدت إلى الضفة الغربية؛ حيث قتل 10 أشخاص وجُرح المئات؛ إثر استخدام القوات الإسرائيلية الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والرصاص الحي، فهرعت أصالة تهاتف أشقاءها ووالدها للاطمئنان عليهم.

لم تمهل الفتاة صاحبة الـ23 عامًا نفسها وقتًا حتى سارعت بمعرفة أخبار باقي أفراد الحي المهددين بالطرد، فاجتمعوا كعادة اجتماعاتهم الفترة الماضية لمعرفة خطواتهم وما عساهم يفعلون، فاستقبلها «توفيق جاعوني» رفقة باقي العائلات التي هدأت نسبيًا ما إن أجَّلت المحكمة النظر في قضية تهجيرهم من بيوتهم، الأمر الذي انعكس على والده الذي تملك المرض منه ما إن تسلم رفقة العائلات الأخرى بيان الإجلاء خلال الشهر الجاري «الوالد وسيدي تسلموا البيت من الـ1956..أبويا ما بقى بيعرف شي» سوى حكايته الذي لم يعد يتوقف عن قصها عليهم منذ أن تهجَّر وقت النكبة حتى جاء إلى الشيخ جراح.

أحاديث لا تنضب في الاجتماعات التي باتت تنعقد بين أهالي الحي، بينما يجلس جاعوني وسطهم شاردًا في مصيره رفقة زوجته الجديدة، وذلك في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية بالقدس والتي تسببت له في أزمة مالية له لاسيما وأنه يعول والده المسن «الحياة بالقدس غالية منيج أنه بناكل وبنشرب وبندفع مستلزمات الحياة العادية»، يزيد من وطأة الأمر اقتصار الوظائف المتوسطة على عرب فلسطين القاطنين بالقدس.

أبويا انطعن بقلبه

وفقًا لمنظمة العفو الدولية فإن إسرائيل تفرض تمييزًا منهجيًا ضد الفلسطينيين الذين يعيشون فيها، وذلك في الوظائف ومستوى المعيشة، الأمر الذي انعكس على الرجل الأربعيني وعروسه «بنحمد الله إنه ما في أطفال، ماكنا نقدر نعولهم ماديًا»، حسابات وأسئلة لا تتوقف عن مهاجمة رأسه، زاد الأمر سوءًا انقطاع والده عن تناول الطعام منذ بداية الشهر الجاري «أبويا عرف بأمر التهجير كأنه انطعن بقلبه مرة تانية، ولم يعد يتحدث معنا حتى بالعيد اللي كنا نتجمع فيه كلنا».

رغم أن مصير تلك العائلات بات مجهولَا، إلاّ أن المحاسب الأربعيني مُصر على التمسك ببيت عائلته الممتدة جذروها في كل مكان بفلسطين «إحنا ما راح نطلع وين بدنا نروح وكيف»، يزيد من إصراره ارتفاع أسعار العقارات وكذلك الإيجارات «بالقدس أنت ما تقدر تشتري شقة أو حتى تأجر، وده مخطط الإسرائيليين ما بدهم إحنا لا تمليك ولا إيجار»، لذلك يرى أن الحل سوف يأتي من المحاكم العادلة وليس محاكم الاحتلال، تلك المحاكم التي رأى فيها المحامي الفلسطيني غسان الحلايقة الذي بات يحضر مع أهالي الشيخ جراح جلساتهم مؤخرًا بحكم عمله كحقوقي، الكثير من المهازل القضائية.

الوضع القضائي بمحاكم الاحتلال لا يبشر بأيّ خير.. هي محاكم لنشر الظلم»، زاد من قناعته تلك ما حدث خلال الجلسة الأخيرة لأهالي الحي العتيق، حين سألت القاضية ممثل المستوطنين إذا كان لديهم مخطط لتحويل الحي إلى مشروع استيطاني «ممثل الاستيطان قالها نحنا عندنا مخططنا اللي هنفذه بالبلدية، لكن هدفنا الآن نحصل على أرضنا»، وذلك على مرأى ومسمع من الجميع داخل قاعة المحكمة، ما يؤكد أن القضية أكبر بأكثر من هذا العدد المحدود من العائلات، بل هي قضية وطنٍ بأكمله.